لا يكاد يمر يوم واحد دون أن نفكر في مشاريعنا المستقبلية أو خطواتنا المقبلة، إذ نحاول في كل خطة وغاية أن نصل إلى بدايات أوسع وفرص أكبر من التي حققناها سابقًا، رغم أن موقعنا الحاليّ قد يكون جيد اجتماعيًا وملائمًا لسد متطلبات المادية، إلا أننا نسعى دومًا إلى تحقيق المزيد من الطموح والأهداف، فهل تساءلت يومًا عن سبب جوعنا الدائم للتفوق والنفوذ؟
يخبرنا كتاب “قلق السعي إلى المكانة” للباحث البريطاني السويسري آلان دو بوتون حقائق مثيرة عن قلقنا المزمن في تسلق السلم الاجتماعي ويحدثنا أيضًا عن اضطراباتنا الدفينة تجاه من حولنا ونظرتهم وتقديرهم إلينا وما علاقة ذلك بتشكيل صورتنا الاجتماعية، يطرح بوتون هذه الأفكار من خلال جزئين، الأول يناقش فيها أسباب هذا القلق، والثاني يطرح الحلول التي تساعدنا على التخلص من قيوده، وذلك كله في 300 صفحة تقريبًا.
لماذا نسعى إلى المزيد؟ ولماذا تزداد رغبتنا في جني اهتمام الآخرين؟
صدر الكتاب عام 2018 من ترجمة محمد عبد النبي
إذا تعمقنا جيدًا في هذين السؤالين سنجد أن السؤال الثاني يجيب عن السؤال الأول، أي أننا باختصار نسعى إلى تحقيق المزيد من المال والشهادات الأكاديمية والعلاقات حتى نحصل على اهتمام الآخرين، ولكن لماذا؟ في هذا الشق يرى بوتون أنه منذ العام 1776 صارت المكانة الاجتماعية تمنح بناءً على ما يملكه المرء من المال، ما يعني أن موقعنا المهني (أستاذ، تاجر، مهندس) داخل المجتمع يشير إلى قيمتنا وأهميتنا في أعين الناس، ولذلك لا غرابة من أن أول سؤال يُطرح علينا عادةً في اللقاء الأول هو “ماذا تعمل؟”.
وبناءً على إجابتنا يكون رد فعل الناس، إما سلبي مصحوب بالتجاهل والإهمال والغطرسة، أو إيجابي مصحوب بالرحابة والاحترام والاهتمام والدعوات الخاصة للمناسبات والمجاملات والضحكات المزيفة، ويقصد بوتون بكلمته الأخيرة أنك إذا كنت مسؤولاً ذا رتبة رفيعة أو مدير شركة عالية المستوى فستجد أن من حولك يضحكون على نكاتك ومزاحك حتى وإن كانت مداخلتك سخيفة وخالية من أي فكاهة ظريفة.
إن الذي يدفع الناس إلى مجاراتك وإبداء اهتمام مستمر بك هي مكانتك الاجتماعية التي تحددت بمنصبك المهني ودخلك المادي، ونظرًا لذلك، نلاحظ أن السلم الاجتماعي أصبح همًا لأفراد المجتمعات المعاصرة
لكن الذي يدفع الناس إلى مجاراتك وإبداء اهتمام مستمر بك هي مكانتك الاجتماعية التي تحددت بمنصبك المهني ودخلك المادي، ونظرًا لذلك، نلاحظ أن السلم الاجتماعي أصبح همًا لأفراد المجتمعات المعاصرة، لأن صورتهم الذاتية تعتمد بشكلٍ كبير على ما يراه الآخرون فيهم.
بكلماتٍ أخرى، يسأل عالم الاقتصاد آدم سميث في كتابه “نظرية المشاعر الأخلاقية”، قائلًا: “ما غاية كل كدح وسعي في هذا العالم؟ ما هدف الجشع والطموح وطلب الثروة والسلطة والتفوق؟ أهو توفير ضرورات الطبيعة؟”، ويكمل “إن أجر أهون عامل يدوي يمكنه أن يفي بهذا الغرض، ماذا قد تكون إذن مزايا ذلك المقصد العظيم للحياة الإنسانية الذي نسميه تحسين ظروفنا؟”.
يستنتج بوتون أن الدافع الحقيقي وراء رغبتنا في التقدم هو سعينا إلى الحب، ولذلك اعتبر أن المال والسلطة والشهرة والنفوذ ما هي إلا وسائل لاقتناء هذا الشعور، وليس غاية أو هدف كما ندعي
يجيب سميث عن نفسه، فيرى أن ثروة الرجل الثري تمنحه الاعتناء والإعجاب، فهو يلفت أنظار العالم أينما حل، وتكون أفعاله وأقواله محط أنظار واهتمام الجميع، وهذا على النقيض من الرجل الفقير الذي لا يلاحظ أحد وجوده حتى وإن كان وسط الجموع، فوجوده يبقى غير ملفت وأفعاله تلقى الإهمال والتجاهل، وتبعًا لذلك، يستنتج بوتون أن الدافع الحقيقي وراء رغبتنا في التقدم هو سعينا إلى الحب، ولذلك اعتبر أن المال والسلطة والشهرة والنفوذ ما هي إلا وسائل لاقتناء هذا الشعور، وليس غاية أو هدف كما ندعي.
كيف يساعدنا الحب الاجتماعي على إثبات تفوقنا؟
أن نصل إلى القمة يعني أن نحصد المزيد من الامتيازات الاجتماعية والعاطفية
قد نعتقد للوهلة الأولى أن كلمة الحب شاذة أو ضالة عن سياق الموضوع، إلا أن تعريف بوتون للحب يفتح عقولنا إلى فكرة جديدة، فهو لا يقصد الحب الجنسي الرومانسي الذي نتبادله مع شركائنا العاطفيين وغالبًا ما يكون له بُعد جنسي وينتهي بالزواج، وإنما يشير بذلك إلى الحب المعتمد على المكانة.
في هذا الجانب، يقول بوتون إن حب المكانة هو الذي يشعرنا بأننا محط انشغال وعناية: حضورنا مُلاحظ، اسمنا مُسجل، آراؤنا يُنصت إليها، وعيوبنا تُقابل بالتساهل وحاجاتنا مُلباة، وفي ظل هذه الرعاية ننتعش ونزدهر، وهذا ما نعيشه ونختبره بعد أن نحقق نجاحات في حياتنا المهنية التي يكون لها عواقب اقتصادية إيجابية تزيد من أرصدتنا الاجتماعية لدى الناس، الذين بدورهم سيمنحون الحب الذي علمنا واجتهدنا من أجله.
شعورنا بالاحترام والحب يزيد حماسنا وشغفنا في تكديس المزيد من الأهداف والثروات ليس حبًا في المادة والمال وإنما سعيًا إلى الحفاظ على قيمتنا وثقتنا من خلال تقييمات الآخرين لنا ونظرتهم لنا
ولا شك أن شعورنا بالاحترام والحب يزيد حماسنا وشغفنا في تكديس المزيد من الأهداف والثروات ليس حبًا في المادة والمال وإنما سعيًا إلى الحفاظ على قيمتنا وثقتنا من خلال تقييمات الآخرين لنا ونظرتهم لنا، فكما يقول بوتون: “إننا ندع تقييمات الآخرين تلعب دورًا حاسمًا في الطريقة التي نرى بها أنفسنا”، ما يعني أن أي تصريح سلبي أو تجاهل لوجودنا قد يزعزع ثقتنا بأنفسنا ويجعلنا نعيد التفكير بقيمتنا، وأي ابتسامة أو مجاملة تُنشط معنوياتنا ومزاجنا وتشحن طاقتنا للعمل أكثر.
ويمكن أن نقيس ذلك على مواقف حياتنا اليومية عندما لا يجيب أصدقاؤنا على مكالمتنا الهاتفية كيف نشعر بالتجاهل والإهمال، أو عندما نُحيي زملائنا في العمل ولا يردون بالمثل كيف نفقد الثقة بصورتنا الذاتية وأهميتنا الاجتماعية في هذا المحيط، وعلى خلاف ذلك، يمكن أن تتغير نظرتنا تمامًا إلى أنفسنا وقدراتنا وإنجازاتنا بشكل إيجابي إذا سألنا أحدهم باهتمام عن أحوالنا وظروفنا.
التخلص من قلق المكانة الاجتماعية أمر صعب لأننا نخاف بطبيعتنا من الخزي والفشل الذي سيلاحقنا إذا انفصلنا عن هذه المنظومة التي تحدد لنا معايير الحياة الناجحة والفاشلة
يضرب بوتون مثال آخر، ويصور فكرتنا عن أنفسنا أو يصور “الأنا” تحديدًا مثل بالون يُسرب، وبحاجة دائمة لضخ الهيليوم بداخله حتى يبقى منتفخًا ومرتفعًا، كما أنه هدف سهل لأي ثقوب، وفي حالتنا فالهيليوم يمثل المحبة التي نكتسبها من الخارج والثقوب تدلل على الإهمال والتجاهل الذي قد نتعرض له من المؤثرات الخارجية، ومن هذا المنطلق نعي أن صورتنا الذاتية تفتقر إلى الثبات والاستقرار وهي بحاجة دائمة إلى ضخ المحبة والاهتمام حتى نرتفع، ولذلك نستمر في التطلع والتقدم حفاظًا على وجاهتنا الاجتماعية وتعطشًا لاهتمام وانبهار الناس بأعمالنا.
نهايةً، يرى بوتون أن التخلص من قلق المكانة الاجتماعية أمر صعب لأننا نخاف بطبيعتنا من الخزي والفشل الذي سيلاحقنا إذا انفصلنا عن هذه المنظومة التي تحدد لنا معايير الحياة الناجحة والفاشلة، فليس هناك أي كيان في حياتنا يخلو من التراتب الهرمي للمكانة، سواء في الفلسفة أم الفن أم الدين أم السياسة، لكنها في نفس الوقت حاولت أن تصيغ أنواعًا جديدة من التراتبية لتضم المنبوذين اجتماعيين وغير المستعدين لطاعة القوانين الاجتماعية المحكومة بالتغيرات الاقتصادية.