يعود استخدام الموسيقى والأغاني لأغراض تحشيدية إلى الحروب التوراتية قبل أكثر من 4000 عام، حيث انتصر بنو إسرائيل على الكنعانيين في معركة أريحا التي قاموا خلالها باستخدام الأبواق للحشد وتشجيع الجيش وبثّ الرعب في نفوس العدوّ بأمرٍ من يوشع بن نون، وذلك بحسب ما جاء في العهد القديم. لاحقًا، انتهج اليونانيون النهج ذاته في حروبهم التي حضرت فيها الموسيقى والأغنيات الوطنية التي تمدح الآلهة والأبطال العسكريين.
أمّا الأناشيد والأغاني الوطنية بشكلها الحديث فيرجع تاريخها إلى منتصف القرن التاسع عشر، إلا أنّ بعضًا منها يعود إلى ما قبل ذلك، مثل النشيد الوطني الهولندي الذي كُتب بين الأعوام 1568 و 1572 خلال الثورة الهولندية. وفي المنطقة العربية والإسلامية، بدأت الدولة العثمانية أيضًا في نهاية القرن التاسع عشر خلال حكم السلطان محمود الثاني عندما تم تنظيم العسكر والفرقة الموسيقية العسكرية.
ثمّ بدأت الدول التي نالت استقلالها عن الدولة العثمانية باعتماد نشيدها الوطني الخاصّ بها ككيانٍ مستقل، فظهر نشيد “الزحف من أجل الاستقلال” في تركيا عام 1920، و”حماة الديار” في سوريا عام 1936، و”كلنا للوطن” في لبنان عام 1927، و”عاش المليك” في المملكة الأردنية الهاشمية عام 1946. أما في مصر، فتم اعتماد نشيد “اسلمي يا مصر إنني الفدا” في عام 1869، وتغيّر لاحقًا إلى نشيد “بلادي بلادي” عام 1979 بعد حل النظام الملكي.
يرى كثيرون أنّ النشيد الوطني يعمل بدوره على اختزال مفهوم الوطن من خلال تركيزه على جماعةٍ معيّنة دون غيرها، أو مدينة معيّنة، أو بتمجيده لحاكمٍ أو حزبٍ ما
تُستخدم الأناشيد الوطنية في المناسبات الوطنية والقومية المختلفة، وعادةً ما يُصاحبها طقوسٌ معيّنة مثل إلقاء القسَم قبلها، أو الوقوف قبالة العلَم، وفي بعض الدول يقوم الأفراد بالركوع على ركبهم تعظيمًا وتبجيلًا لنشيد بلادهم. بشكلٍ عام، قد يكون النشيد الوطني مستمدًا من نزعة انتمائنا لأوطاننا وارتباطنا بها تاريخيًا. لكن في الوقت نفسه، فغالبًا ما يخدم أهدافًا وأيديولوجيات سلبية أخرى.
الطقوس الجماعية: النشيد الوطني كوسيلة لتعزيز الهوية الجَمعية والعاطفة المشتركة
يمكننا التعامل مع الأناشيد الوطنية كنوعٍ من الطقوس الجماعية، التي بالرغم من تنوعها وتكلّفها، إلا أنها تحمل فوائد إيجابية عديدة للمجموعات، فهي تعزّز التماسك الناجح وتزيد الإحساس بالولاء الجماعي والتضامن بين أعضاء المجموعة. تاريخيًا، فإنّ المجموعات الأكثر نجاحًا والأقدر على الاستمرار كانت تلك التي تمارس الطقوس الجماعية بشكلٍ متكرّر. لكن في الوقت نفسه، تخبرنا العديد من النظريات والدراسات أنّ الطقوس الجماعية تحمل في كثير من الأحيان بعض العواقب السلبية والتي قد تكون مقصدوةً أو غير مقصودة، كأنْ تُضبح هي المرجع لتحديد الصواب والخطأ فيما يتعلّق بالحياة والآخرين.
في كتابه “أنثروبولوجيا الموسيقى“، يشرح عالم الأنثروبولوجيا “ألان مريام” 10 وظائف للموسيقى استطاع استشفافها من خلال دراسته لدور الموسيقى عند الثقافات والشعوب المختلفة. ثلاث منها نستطيع الاعتماد عليها لتفسير دور الأغنية الوطنية والشعبية. إذ تعمل بشكلٍ واضحٍ وصريح على التعبير عن الهوية الجَمعية للأفراد، سواء الوطنية أو الثقافية أو الدينية أو العِرقية أو الجنسانية، وغيرها الكثير.
تساعد الموسيقى والأغاني الوطنية في جمع الأفراد معًا ووصلهم ببعضهم البعض، من خلال خلق وتكوين عاطفة أو تجربة عاطفية مشتركة أو تربطهم بتاريخٍ مشترك
كما تلعب الموسيقى والأغاني أيضًا، وفقًا للكتاب، في تعزيز استقرار واستمرارية الثقافات والقيم من خلال استخدامها في المناسبات الاجتماعية والطقوس الدينية، فتحضر الأغاني في حفلات التخرّج والأعراس والجنازات والمباريات بشكلٍ جدّي لإضفاء الشرعية والتأكيد على هذه المناسبات. وبالنظر إلى أنّ العديد من هذه المناسبات تعكس طقوسًا ما لثقافةٍ معينة، فإن الموسيقى تعمل بالتالي كطريقةٍ لدعم تقاليد وقيم تلك الثقافة.
وفي نفس الاتجاه، تساعد الموسيقى والأغاني الوطنية في جمع الأفراد معًا ووصلهم ببعضهم البعض، من خلال خلق وتكوين عاطفة أو تجربة عاطفية مشتركة أو تربطهم بتاريخٍ مشترك يذكّر أولئك الأفراد بمصيرهم وهويّتهم وقيمهم المشتركة التي تجمع فيما بينهم وتشكّل نظرتهم لأنفسهم وللعالم الآخر من حوله.
صناعة التحيّز والعنصرية واختزال مفهوم الوطن
كثيرًا ما يثار جدلٌ ما في بعض الدول حيال تحيّز النشيد الوطني لصالح مجموعةٍ أو أكثر على حساب أخرى، سواء بحمل النشيد لجُمل ورسائل واضحة تمسّ تلك المجموعة وتاريخها بشكلٍ سلبيّ، أو باستبعادها من الكلمات أو بتمجيد غيرها دون التطرّق لها. إذ ليس من الغريب أبدًا أنْ تعمل الأغنية الوطنية بالفعل على بثّ رسائل متحيّزة وعنصرية في العقل الجَمعي للشعوب، فهي بالنهاية تحمل طابعًا دعائيًا “بروباغندا” ممتازًا.
مرةً ثانية، لو نظرنا للأغنية الوطنية باعتبارها طقسًا اجتماعيًا، فيمكننا فهم الآلية التي تعمل فيها على بناء التحيّزات والأفكار العنصرية. ففي دراسة نُشرت في شهر نيسان من العام الماضي في مجلة علم النفس، قام الباحثون القائمون عليها بتقسيم عددٍ من المشتركين إلى مجموعتين من الأشخاص الذين يتعلّمون ويؤدّون طقوسًا مختلفة معًا. بالواقع، لم تكن تلك الطقوس تحمل أيّ معنىً محدّدًا، فقط مجرد حركات وإشارات عديمة المعنى والجدوى كالتلويح بالأيدي والأذرع على سبيل المثال.
الأغاني الوطنية قد تعمل فعليًا على تنشيط وتحفيز سلوكيات وردود فعل اجتماعية معيّنة قد تكون إيجابية كالتفاعل المرتبط بالتعاطف والترابط، أو سلبية كأنْ تكون معادية لمجموعةٍ ما أو عدوانية ضدّ أخرى
وبعد أنْ أخذت كلّ مجموعة دورها في أداء طقوسها الخاصة مجتمعةً لمدة أسبوع واحد،لاحظ الباحثون أنّ أعضاء المجموعة الواحدة كوّنوا نوعًا من الودّ والثقة والانتماء لبعضهم البعض بشكلٍ أكبر بكثير ممّا كوّنوه تجاه أفراد المجموعة الأخرى، مع العِلم أنّ أيًّا من أفراد المجموعتين لم يسبق له الالتقاء بغيره من قبل. ما يعني أنّ الطقوس المكرّرة والمتخصصة تؤدي بدورها إلى التحيّز مع الزمن. ولهذا وُجدت الأغنية الشعبية والسلام الوطنيّ والقسَم والعلَم وغيرها من الرموز التي تخدم الدولة عن طريق ضخ رسائل التحيّز عند أفرادها ضدّ الشعوب الأخرى، أو ضدّ المجموعات الصغيرة المتواجدة في الدولة نفسها.
دراسة أخرى توصّلت إلى أنّ الأغاني الوطنية قد تعمل فعليًا على تنشيط وتحفيز سلوكيات وردود فعل اجتماعية معيّنة قد تكون إيجابية كالتفاعل المرتبط بالتعاطف والترابط، أو سلبية كأنْ تكون معادية لمجموعةٍ ما أو عدوانية ضدّ أخرى، وذلك كلّه اعتمادًا على السياق الذي توضع فيه. ومن خلال ردود المشتركين بالدراسة بعد سماعهم لعددٍ من الأغاني الوطنية على عددٍ من أسئلة الاستطلاع حول الثقافات المختلفة والمتنوعة، توصلت الدراسة إلى أنّ تلك الأغاني جعلت المشتركين متقاربين ومتحيّزين لبعضهم البعض، وأقلّ تعاطفًا مع المجموعات الأخرى.
ولو أردنا مثالًا من واقعنا العربيّ، فلربما يكون النشيد العراقيّ السابق واحدًا من أكثر الأمثلة ارتباطًا بهذه النظريات. ففي عام 1981 تمّ اعتماد قصيدة “وطنٌ مدّ على الافق جناحًا” كنشيدٍ وطنيّ رسميّ للدولة، وذلك بعد عامٍ واحدٍ فقط من اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، ليكون بذلك نشيدًا تعبويًا تحشيديًا بامتياز.
فمن جهة، يحتوي النشيد على الكثير من الكلمات والمقاطع التي تمجّد العرَب واللغة العربية دون وضع اعتبار لأي لغاتٍ وإثنيات أخرى بالدولة، كما أنه يمجّد بشكلٍ مباشر بحزب البعث العربيّ الاشتراكي، الحزب الحاكم آنذاك، أيضًا دون أيّ اعتبار للتوجهات السياسية المختلفة في العراق. إذ تقول القصيدة على سبيل المثال:
حين أوقدنا رمال العرب ثورةً
و حملنا راية التحرير فكرةً
منذ أن لز مثنى الخيل مهره
و صلاح الدين غطاها رماحا
.
.
يا سرايا البعث يا أُسْدَ العرين | يا شموخ العز والمجد التليدِ
ازحفي كالهول للنصر المبين | وابعثي في أرضنا عهد الرشيد
النشيد الوطني العراقي السابق يركّز فقط على اللغة العربية بوصفها لغة الشعب في حين أنّ هناك الكردية والتركمانية والسريانية وغيرها
يرى كثيرون أيضًا أنّ النشيد الوطني يعمل بدوره على اختزال مفهوم الوطن من خلال تركيزه على جماعةٍ معيّنة دون غيرها، أو مدينة معيّنة، أو بتمجيده لحاكمٍ أو حزبٍ ما، ليصبح بذلك بوقًا لصالح جهةٍ معينة، في حين أنه من المفروض أنْ ينطق بلسان الشعب بأكمله بما فيه من أفراد وجماعاتٍ وأحزاب وإثنيات.
وبذلك، قد يصبح النشيد من كونه وسيلةً تعزّز الترابط والانتماء إلى وسيلة تشجّع الاختلاف وتعمّق الانقسام والانحياز في عقلية الأفراد، الأمر الذي قد يُفضي لنزاعاتٍ وخلافاتٍ عنصرية وتحيّزية. لذا، ففي المرة القادمة التي تسمع فيها نشيد وطنك أو تضطرّ للوقوف احترامًا له ولكلماته وألحانه، فكّر مليًّا بالرسائل التي يرمي إليها وهل يخدم بالفعل رسالة الوحدة والترابط أم أنه قد يدعم الانحياز لمجموعة على أخرى ولحزبٍ ضدّ آخر.