منذ عام 2012 بدأت شركة “أسبن فارماكير” المتخصصة في إنتاج أدوية معالجة السرطان في الضغط على السلطات الصحية في الدول الأوروبية لزيادة سعر أدوية لا بديل لها لمرضى السرطان في أوروبا، رغم أن ترخيص إنتاجها انتهى، مستخدمة في ذلك وسائل مثل حرمان بلد معين من الدواء حتى يوافق على زيادة الأسعار، مما أدى في أحيان عديدة إلى اختيار السلطات الصحية مرضى ليتم علاجهم بينما يترك آخرون بلا علاج.
ليست الشركة الجنوب إفريقية التي بدأت المفوضية الأوروبية التحقيق معها العام الماضي بسبب أسعارها المبالغ فيها، فريدة في هذا السياق، بل إن شركات كبرى أخرى ترفع أسعار أدوية لعلاج أمراض مزمنة مثل السرطان والأمراض الفيروسية بنسب تصل إلى عشرات الآلاف في المائة، ليتحول بذلك السعي لتوفير الدواء إلى صناعة ثم إلى تجارة ولدت المنافسة سرعان ما اتسعت لتشمل مجالات البحث العلمي الذي يسعى لاكتشافات جديدة وحصرية تحقق ربحًا أكبر لمن يسبق إليها.
السباق من أجل الربح على حساب صحة المرضى
في حلقة أخرى من حلقات الاستغلال التي تنتهجها أغلب شركات الأدوية في العالم، رفعت شركة “نكست سورس بيوتكنولوجي” ثمن عقار “لوموستين” (دواء لسرطان الدماغ) بنسبة 1400%؛ ليصبح ثمن القرص الواحد منه أكثر من 700 دولار، بعدما كان يباع بـ50 دولارًا، وذلك بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” التي ذكرت مؤخرًا أن سعر القرص أصبح 768 دولارًا.
الجشع التي تمارسه شركات الأدوية الكبيرة قابله انتشار نوع آخر من الأدوية المزيفة، أو منخفضة الجودة، والأهم أنها منخفضة السعر
المثير للدهشة أن هذا العقار ليس عقارا جديدًا، بل يتجاوز عمره 40 عامًا، وهو الأمر الذي يكشف عن مدى جشع الشركة، برفعها سعر دواء شائع الاستخدام عند مرضى هذا النوع من السرطان، وفي محاولة من جوزيف ديماريا، محامي الشركة لنفي تلك الممارسات الاستغلالية وغير التنافسية، أثبت دون قصد جشع الشركة؛ إذ قال إن “المادة الفاعلة في العقار سر صناعي ارتفعت تكلفة صنعها بنسبة 30%، في حين أن الزيادة أضعاف هذه النسبة”.
ربما تكون زيادة سعر عقار “لوموستين” معقولة، إذا ما قورنت بسعر العلاج الجيني الجديد للعمى “لوكستورنا”، الذي كشفت عنه شركة “سبارك ثيرابيوتيكس” الأمريكية مؤخرًا؛ فبحسب صحيفة “فايننشيال تايمز” البريطانية، فإن تكلفة العلاج تبلغ نحو 850 ألف دولار؛ ليكون بذلك أغلى الأدوية على الإطلاق، ويقول الرئيس التنفيذي للشركة، جيف ماراتزو: “إن الشركة ستحصل على 425 ألف دولار مقابل كل عين تٰعالج باستخدام العلاج الجديد”.
سباق الربح ولَّد الكثير من الشبهات حول تأثير المال في عملية التداوي بكافة مراحلها
مثال آخر يوضح مدى جشع هذه الشركات واستغلالها السيء لبراءات الاختراع المفتوحة، هذه المرة من شركة “مايلان” التي تستخدم أشهر منتجاتها “إيبيبن”، لجني أرباح قياسية؛ إذ كان سعر علبة الحقن 94 دولارًا، ثم قررت الشركة رفع السعر نحو 17 ضعفًا؛ ليصبح 609 دولار لكل حقنتين فقط، وذلك حسبما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”.
هذا الجشع التي تمارسه شركات الأدوية الكبيرة قابله انتشار نوع آخر من الأدوية المزيفة، أو منخفضة الجودة، والأهم أنها منخفضة السعر، ما يضطر البعض لشراء أرخص الأنواع، وليس بالضرورة أكثرهم التزامًا بالمعايير، حتى أن واحدًا من كل عشرة عقاقير تباع في الدول النامية يكون مزيفًا، أو أقل من مواصفات الجودة المطلوبة، بحسب “منظمة الصحة العالمية”؛ ما يؤدي في النهاية إلى وفاة عشرات الآلاف من الذين يعالجون على نحو غير فعال من الالتهاب الرئوي والملاريا.
لا تقتصر شركات الأدوية على جني الأموال من معاناة المرضى، فمن الممكن أيضًا جني الكثير من المال من الأشخاص الأصحاء الذين يعتقدون أنهم مرضى
هذه الأمثلة ليست إلا غيض من فيض في السباق من أجل الربح، والذي ولَّد الكثير من الشبهات حول تأثير المال في عملية التداوي بكافة مراحلها، بداية من نتائج البحث العلمي وتوصياته حول المرض وفعالية الدواء المقترح لعلاجه، مرورًا بالتشخيص ووصف الدواء الذي يقوم به الطبيب، وانتهاءً إلى اختلال الصورة الكلية لعملية التداوي واختلال القيمة فيها واصطباغها بالمكسب المادي والمصلحة.
تجارة الموت.. تطوير الدواء أولاً ثم اختراع المرض
لا تقتصر شركات الأدوية على جني الأموال من معاناة المرضى، فمن الممكن أيضًا جني الكثير من المال من الأشخاص الأصحاء الذين يعتقدون أنهم مرضى، ومن هذا المنطلق ترعى شركات الأدوية الأمراض وتروّجها للزج بها في الوصفات الطبية للمستهلكين.
في هذا السياق، تشير كاتبة العلوم الصحية لين باير، في كتابها الصادر عام 1992 تحت عنوان “مروجو الأمراض: كيف تجعلك شركات الأدوية وشركات التأمين تشعر بالمرض”، إلى التكتيكات التي تستخدمها شركات الأدوية في خداع الناس من خلال إقناعهم بإصابتهم بأمراض معينة على غير الحقيقة.
أهم هذه التكتيكات، بحسب لين، تمثَّل في محاولة إقناع المريض بوجود علل ليست فيه إلى أن يتهيأ له وجودها، أو الترويج إلى وجود أعداد كبيرة من السكان يعانون من المرض، وتوظيف الأطباء لنشر وترويج هذه الرسالة، أو أخذ أي أعراض شائعة وجعلها تبدو وكأنها علامة على مرض خطير.
تتمثل التكتيكات التي تستخدمها شركات الأدوية في محاولة إقناع المريض بوجود علل ليست فيه إلى أن يتهيأ له وجودها، أو الترويج إلى وجود أعداد كبيرة من السكان يعانون من المرض
جرى تجريب هذه التكتيكات بالفعل، حيث يستعرض باحثين بالمركز الوطني لمعلومات التقانة الحيوية بعض الحالات التي تكشف خداع شركات الأدوية، فعلى سبيل المثال، قامت “ميرك آند كو”، إحدى أكبر شركات الدواء في العالم، في ستينات القرن الماضي، بوضع استراتيجية لنشر مرض الاكتئاب عقب اختراعها مضادًا جديدًا له سمته “أميتريبتيلين”. في ذلك الوقت كان الاكتئاب الإكلينيكي يعتبر حالة نادرة جدًا.
كان من المنطقي أن تتوقع الشركة عدم تحقيقها أرباحًا كبيرة من تسويق عقارها الجديد، لكنها لجأت إلى فكرة مفادها “زيادة وتيرة التشخيص بالمرض”. وتحقيقًا لتلك الغاية، اشترت “ميرك” 50 ألف نسخة من كتاب فرانك أيد المسمى “المريض المكتئب” وقامت بتوزيعها مجانًا على جميع الأطباء النفسيين في الولايات المتحدة.
نتيجة لذلك، بدأت كلمة “أميتريبتيلين” (اسم العقار) يتم خطها كثيرًا من قبل الأطباء في وصفاتهم الطبية، وعلى الرغم من حقيقة أن مضادات اكتئاب مشابهة كانت متاحة في ذلك الوقت – مثل “إيميبرامين” الموجود في السوق من منتصف الخمسينيات – إلا أن “ميرك” نجحت من خلال حملاتها التسويقية في ربط نفسها بعلاج ذلك المرض في لاوعي المريض.
وفي عام 1879 اُخترع “الليسترين” الذي كان يعتبر في الأصل مطهرًا جراحيًا، وكان مخترعاه جوزيف لورانس وجوردن لامبرت يبيعانه في البداية في صورته المركزة كمنظف للأرضيات، ولكنهما في عام 1895 بدأ في تسويقه لأطباء الأسنان لرعاية الفم، وبحلول عام 1914 أصبح “الليسترين” أشهر غسول للفم في الولايات المتحدة، ولكن دون أن يتم تداوله طبيًا بشكل رسمي.
وبحلول العشرينيات، أصبحت شركة “لامبرت فارماكال كومباني” منتجة “الليسترين” واثقة من أنها تمتلك علاجًا، وأن كل ما تحتاجه هو المرض. وبالفعل وجدوا واحدًا، وهو “رائحة الفم الكريهة”، وكانت عبارة طبية غامضة لم يسمعها أحد تقريبًا، لكن الشركة بدأت في التسويق لمنتجها كعلاج لتلك الحالة، بالتركيز على تأثير رائحة الفم الكريهة على فرص أي شخص في النجاح في الزواج والعمل، وفجأة أدرك أغلب الشعب الأمريكي معاناته من رائحة الفم الكريهة، وبدأو في البحث عن العلاج الجديد، وكان “الليسترين” في انتظارهم.
الطب كأداة من أدوات الإمبريالية
ما يحدث حاليًا ليس إلا نتيجة لممارسات سابقة، فبالعودة إلى بدايات القرن التاسع عشر، حيث لم يكن الأطباء أو الممارسون لمداواة الناس يحتاجون لترخيص مهني لممارسة الطب، وهو ما أثَّر على جودة الأداء وعرَّض الناس لبعض عمليات الاحتيال، الأمر الذي أيقظ رغبة الدول لبسط المزيد من السيطرة على مجال الطب لعدة أسباب.
فعلى المستوى السياسي، تزامنت هذه الفترة التاريخية مع الإمبريالية الاستعمارية، حيث كانت الدول ترغب في توجيه البحث الطبي وتدعيمه بالصورة التي تساعدها على الخروج بالنتائج المرجوة لخدمة وجودها الاستعماري، أما على المستوى الاقتصادي، فإن صناعة الدواء باعتبارها من أكبر مصادر الثروة، كان دائما لها أثر لا يُنكر في توجيه دفة الممارسة الطبية.
وبنهاية القرن التاسع عشر أصبح الطب – بعد وصوله إلى درجة غير مسبوقة من التقدم – أداة مهمة مكّنت المستعمرين من إعادة تنظيم البيئة، وإعادة صياغة المجتمعات والاقتصادات المحلية في ضوء مدركات الإمبريالية وأولوياتها الخاصة بها، كما جاء في كتاب “الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية”، الذي يروي كيف كان الطب واحدًا من أهم أدوات الإمبريالية في فترة الاستعمار.
وبرزت هذه الطريقة الإمبريالية التي تعامل بها الطب الحديث مع المشكلات الطبية في المستعمرات في كثير من الحالات، على سبيل المثال، استوطن مرض البلهاريسيا في مصر التي كانت أحد المستعمرات البريطانية، الأمر الذي مثَّل مصدر فزع بالنسبة للإنجليز خشية انتقاله لهم عبر الجنود الموجودين في مصر، وهذا ما حركهم بهدف حماية أنفسهم وليس من منطلق إنساني باعتبار الطب مهنة إنسانية.
وفي سبيل حل مشكلة البلهاريسيا، اعتمد الأطباء البريطانيين على استخدام مواد كيميائية للقضاء على ناقل المرض، وتم تجاهل السياق العام الأساسي، وهو الفقر وسوء التغذية الذي يؤدي لانتشار الإصابة بالبلهاريسيا وبمعظم الأمراض الأخرى في المناطق الحارة.
يمكن القول إن قطاع الرعاية الصحية والأدوية بات ينافس بقوة تجارة السلاح والإتجار بالبشر والمخدرات؛ وذلك بسبب الأرباح الضخمة التي تحققها شركات هذا القطاع
مثال آخر مذكور في الكتاب، وهو مرض الجدري في الهند، والذي ارتبط لديهم ببعض المعتقدات الدينية، وكان لهم طريقة في التطعيم للوقاية من هذا المرض، لكن البريطانيين وجدوا طريقة أخرى للتطعيم، فقد رأوا أنها أكثر فاعلية من الطريقة المحلية، وحاولوا تعميمها، لكنهم – مرة أخرى – تجاهلوا الخصوصية المجتمعية والجغرافية والثقافية الثرية للهند، فلاقوا الكثير من الصعوبات والفشل.
ونتيجة لتركيز الطب على مسببات الأمراض ومحاولة القضاء عليها، فقد تجاهل الطب في ممارساته السياقات التي تنتشر فيها الأمراض، واستمرارًا لذات النهج، يمكن القول إن قطاع الرعاية الصحية والأدوية بات ينافس بقوة تجارة السلاح والإتجار بالبشر والمخدرات؛ وذلك بسبب الأرباح الضخمة التي تحققها شركات هذا القطاع الذي يعد من أكثر القطاعات الاستثمارية أمانًا ومقاومة للركود والتقلبات الاقتصادية.