ترجمة وتحرير: نون بوست
طوال عقود، قامت الولايات المتحدة بحماية الدول الصغيرة في الخليج العربي من سلسلة من التهديدات على غرار الاتحاد السوفيتي، والثورة الإيرانية، ومن الرئيس العراقي السابق، صدام حسين. لكن بعد ثورة الربيع العربي، ظهرت تحديات جديدة أمام هذه الدول خاصة فيما يتعلق باستقلالها، والتي تقف وراءها الجارتان السعودية والإماراتية. وبالاعتماد على الغطاء الاستراتيجي الأمريكي المعادي لإيران، تهدف الرياض وأبو ظبي لضم بقية دول مجلس التعاون الخليجي إلى صفهما.
في الواقع، انضمت البحرين منذ فترة طويلة إلى طرف السعودية والإمارات، لكن قطر لم تفعل ذلك بالتأكيد، وهي حقيقة أدت إلى فرض حصار على الدوحة بسبب رفضها اتخاذ إجراءات صارمة ضد المعارضين الذين يهددون كل من السعودية والإمارات، إلى جانب عديد الأسباب الأخرى. في الوقت نفسه، تسلط القوى الكبرى في المنطقة أنظارها على الكويت وعمان، معتبرة استقلالهما تهديدا لاستقرارها.
لكن مفتاح نجاح هذه الاستراتيجية يتمثل في الضامن الأمني للمنطقة، ألا وهو الولايات المتحدة. ولفترة زمنية وجيزة، بدا أن السعوديين والإماراتيين قد أقنعوا الرئيس الأمريكي بالانضمام إلى صفهم، وهو ما حدث عندما دعم دونالد ترامب حصارهم لقطر بشكل مؤقت في الصيف الماضي. لكن هذا الإجراء شجع الدوحة على تذكير واشنطن بقيمتها كشريك استراتيجي، في حين أن الكويت ومسقط اتبعتا الطريق ذاته للتقرب من البيت الأبيض خشية الدخول في مواجهة أيضا مع الرياض وأبو ظبي.
لطالما أغفلت القوى الإقليمية، أو تجاهلت، دول الجانب الشرقي للجزيرة العربية، حيث لم ترى أي مصلحة من السيطرة على مواقع صيد السمك واللؤلؤ المتناثر على طول السواحل
تجدر الإشارة إلى أن هذه الإجراءات هي جزء من استراتيجية “دول الخليج الصغيرة” على المدى الطويل، التي تتمثل في الاعتماد على قوة خارجية لديها قدر قليل من الاهتمام بتحسين الظروف السياسية الإقليمية، وذلك من أجل الحفاظ على الاستقرار، وبالتالي، ضمان مواجهة الدول الأصغر لعدوان القوى الأكبر في المنطقة. وقد تمت تجربة واختبار هذه الاستراتيجية، لذلك، تعتقد كل من الكويت وقطر وعمان أنها يمكن أن تنجح مرة أخرى.
الحفاظ على الاستقلال مع الحصول على المساعدة من الخارج
لطالما أغفلت القوى الإقليمية، أو تجاهلت، دول الجانب الشرقي للجزيرة العربية، حيث لم ترى أي مصلحة من السيطرة على مواقع صيد السمك واللؤلؤ المتناثر على طول السواحل. ومن المتوقع أن تسعى القوى الإقليمية في كل من إيران وبلاد الرافدين أو الأناضول إلى توسيع نطاق سيطرتها في المنطقة، فقط في حال تدخلت إحدى الأطراف في المنطقة لتقويض مثل هذه الطموحات. وقد استمرت هذه العملية لعدة قرون، وذلك من الإمبراطورية الأخمينية في بلاد الفرس إلى الحروب العديدة بين العثمانيين والصفويين.
مع ذلك، انتهت نظرية توازن القوى سنة 1820 عندما دخل البريطانيون إلى الخليج الفارسي لتأمين طرق التجارة المربحة في المنطقة. لكن الهدف الأساسي كان السيطرة على الهند. وقد تبنت المملكة المتحدة استراتيجية مختلفة فيما يتعلق بإدارة الخليج، من خلال إقامة المحميات بدلاً من المستعمرات وإعطاء مساحة محلية للنخبة لبناء مؤسساتهم الخاصة، إضافة إلى اتباع استراتيجيات تقليدية تتمثل في الاعتماد على قوى خارجية تسهر على حمايتها.
بعد فترة وجيزة من بداية القرن العشرين، اختفت الإمبراطوريتان الصفوية والعثمانية، مما سمح للمملكة العربية السعودية الجديدة بالظهور وتوسيع نطاق سيطرتها على معظم شبه الجزيرة العربية. ودون تدخل خارجي، من المرجح أن هذه القوة المتنامية قد استوعبت جاراتها الصغيرة، على غرار الكويت والبحرين وقطر وإمارات الساحل المتصالح وسلطنة عمان. لكن حكام الجهة الشرقية للجزيرة العربية تقربوا من بريطانيا العظمى للحفاظ على استقلالهم.
منذ قدوم الولايات المتحدة إلى المنطقة، أظهرت كل من قطر والكويت وعمان قيمتها لهذه الدولة على أمل أن تصبح شريكتها الدبلوماسية أو الاقتصادية أو السياسية.
كانت قوة الحماية فعالة خلال أزمة البريمي سنة 1952، حيث حاولت المملكة العربية السعودية انتزاع المدينة، التي يطلق عليها الآن العين، من إمارات الساحل المتصالح. كما نبهت كل من أبو ظبي وعمان من احتمال وقوع تدخل عسكري بريطاني لإقناع السعوديين بالانسحاب قبل بدء أعمال القتال، وهو ما أدى إلى بقاء مدينة العين جزءا من البلاد التي تتمثل الآن في دولة الإمارات العربية المتحدة.
استمرت هذه الاستراتيجية حتى بعد انسحاب المملكة المتحدة من المنطقة في سنة 1971، وترك موقعها للولايات المتحدة، التي رغبت في الحفاظ على إمدادات الطاقة وإبعاد الاتحاد السوفيتي عن الخليج. ومنذ قدوم الولايات المتحدة إلى المنطقة، أظهرت كل من قطر والكويت وعمان قيمتها لهذه الدولة على أمل أن تصبح شريكتها الدبلوماسية أو الاقتصادية أو السياسية.
من جهتها، اضطلعت الكويت بدور الوسيط خلال حرب اليمن وخلال النزاعات داخل مجلس تعاون دول الخليج، في حين أبرزت قطر ثقلها الاقتصادي في غزة، كما عملت مع الولايات المتحدة للإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا، ودعم الثوار المناهضين للحكومة في سوريا. وحتى وإن كان الاتفاق النووي الإيراني قد ألغي الآن، إلا أن عمان استضافت المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة، التي أسفرت في النهاية عن خطة العمل المشتركة الشاملة.
لكن، بعد أن بدأ الحصار على الدوحة في سنة 2017، أدركت كل من الكويت وسلطنة عمان، دون التطرق إلى مسألة قطر، أن جيرانهما الأكثر حزما، فضلا عن الولايات المتحدة، يمكن أن يهددوا استقلالهما. نتيجة لذلك، انتقل الثلاثي، وهم الكويت وسلطنة عمان والإمارات، إلى البحث عن طرق أخرى لعرض قدراتهم الفريدة من نوعها، التي تتناسب مع المصالح الأمريكية وتسمح لهم بالحفاظ على استقلالهم في الآن ذاته.
العلاقة المتبادلة بين الولايات المتحدة ومجلس التعاون الخليجي
ستثبت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين معا قيمتها أمام الولايات المتحدة، في الوقت الذي تسعى فيه أيضا إلى تحقيق أهدافها الإقليمية. على الجانب الآخر، ستصبح كل من الكويت وقطر مصدرا مهما للقوة الناعمة، حيث تعملان في المنطقة التي تمتلك فيها الولايات المتحدة عدة مصالح، لكن واشنطن لا ولن تستطيع ممارسة سلطتها في هذه المنطقة.
إجبار مجلس التعاون الخليجي على أن يكون أكثر تماسكا
عوضا عن توسيع نطاق نفوذهما إقليميا، تسعى كل من الرياض وأبو ظبي إلى تحقيق الأمن السياسي خوفا من أن تؤدي حركات المعارضة في الدول المجاورة إلى الإضرار باستقرار وأمن السعودية والإمارات. وبناء على ذلك، قام البلدان بتضييق الخناق بشكل متزايد على جماعة الإخوان المسلمين في الخليج، إضافة إلى سعيهما لجعل مجلس تعاون دول الخليج أكثر وحدة وتماسكا. ومباشرة بعد فرض الحصار على قطر، ضغطت الدوحة على إدارة ترامب لتقويض الادعاءات السعودية الإماراتية بأن الإمارة تدعم الإرهاب.
على هذا الصعيد، كانت الروابط العسكرية والدبلوماسية التي تجمع قطر بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي تتجلى في تمركز آلاف الجنود الأمريكيين في قاعدة العديد الجوية، تعتبر مفيدة. على الرغم من ذلك، حاولت قطر خلال سنة 2017 ومعظم أشهر سنة 2018 تنصيب نفسها كمقدم مهم للمساعدات في المناطق التي لم تعد الولايات المتحدة ترغب في تمويلها.
الحصار الذي تواجهه قطر فلم يكن يمثل ضغطا مباشرا على الكويت، لكن هذه الأخيرة لا زالت تواجه اتهامات من قبل السعودية والإمارات بشأن سماح برلمانها بقيام الإخوان المسلمين بمزيد من المناورة
بعد اندلاع الاحتجاجات في الأردن، الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة، حول مشروع قانون الضريبة على الدخل بسبب سياسة التقشف التي اتبعتها البلاد، ظهرت قطر في الصورة من خلال تنفيذها للاستثمارات هناك بهدف المساعدة على استقرار ميزانية الدولة. كما قدمت قطر الأموال إلى غزة بسهولة سعيا منها للحفاظ على الوضع الاقتصادي في القطاع ومنع حماس من الدخول في حرب مع “إسرائيل”. وفي كلتا الحالتين، عززت الأموال القطرية مصالح الولايات المتحدة في نهاية المطاف.
أما الحصار الذي تواجهه قطر فلم يكن يمثل ضغطا مباشرا على الكويت، لكن هذه الأخيرة لا زالت تواجه اتهامات من قبل السعودية والإمارات بشأن سماح برلمانها بقيام الإخوان المسلمين بمزيد من المناورة. وعلى سبيل المثال، لم تول الرياض اهتماما كبيرا بمسألة عجز أمير الكويت عن قمع الإسلام السياسي بسبب دستور البلاد وبرلمانه، أو نظرا لأنه لم يتمكن من قطع العلاقات مع طهران بسبب الروابط التي تجمع العديد من النخب الشيعية في كل من الكويت وإيران.
بعد تعدد المناسبات التي أساءت فيها فهم الأنظمة السياسية في الدول الأخرى، على غرار لبنان وكندا والولايات المتحدة، استعدت السعودية لإجبار الكويت على إجراء تغييرات غير واقعية على المستوى السياسي. وبعد أن فشلت كل من السعودية والكويت في حل النزاع طويل الأمد حول حقول النفط في المنطقة السعودية الكويتية المحايدة، أطلقت الرياض حملة على تويتر ضد جارتها الصغيرة، حذرت فيها من أن المملكة قد تحاول تقويض برلمان الكويت.
على غرار قطر، خففت الكويت أيضا من دعمها المادي الموجه للأردن خلال أزمته الاقتصادية التي شهدها خلال الصيف، مستعرضة بذلك مدى قوة وتأثير مساعداتها لتذكير واشنطن بأنها تعد هي الأخرى حليفا مهما عندما يتعلق الأمر بتخفيف الأعباء الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، قدمت الكويت الدعم للمملكة العربية السعودية عندما وجدت السعودية نفسها في وضعية حرجة نتيجة مقتل الصحفي السعودي المنشق، جمال خاشقجي، في إسطنبول.
من جهتها، بدأت سلطنة عمان ترى الجهود السعودية والإماراتية على أنها تحد من استقلاليتها، خاصة بعد أن بدأت أبو ظبي، الشريك التجاري الرئيسي لعمان، تشديد الرقابة على الحدود بين البلدين ومضايقة الشركات العمانية التي تعمل في الإمارات العربية المتحدة. وبسبب افتقارها للأموال التي تمتلكها قطر أو الكويت لإقناع الأمريكيين بمساعدتها، لعبت مسقط ورقتها الدبلوماسية المدهشة خلال الشهر الماضي عند دعوتها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لمناقشة محادثات السلام الفلسطينية.
تلعب كل من الكويت وقطر وعُمان دورا في الأراضي الفلسطينية، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى منع نشوب حرب بين حماس و”إسرائيل”، وإبقاء اقتصاد غزة مستقرا، وضخ الحياة في عملية السلام المحتضرة.
لم تسفر هذه المحادثات عن تقدم دبلوماسي يذكر. لكن، أظهر هذا اللقاء السلطان قابوس للعموم وفي وسائل الإعلام الرسمية العمانية، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي تجمعه مع البيت الأبيض علاقات قوية ومقربة. كما أعلنت سلطنة عمان في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر عزمها استقبال قاعدة عسكرية بريطانية جديدة، التي تعد الأولى منذ سنة 1971. وتعتبر هذه الخطوة محاولة أخرى من قبل السلطنة لإثبات قيمتها الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى إقامة شراكة معها للتخفيف من مسؤوليتها الأمنية. وقد أثبتت سلطنة عمان مدى أهميتها كموقع دبلوماسي ومركز عسكري لكل من الولايات المتحدة وحلفائها، ويعد ذلك سبب كاف لجعل الولايات المتحدة ترغب في استمرار استقلاليتها.
حليفا الولايات المتحدة
في نهاية المطاف، سيؤدي هذا الأمر إلى تبني الولايات المتحدة نهجا ثنائيا مع مجلس التعاون الخليجي. وستلتمس الولايات المتحدة الدعم من المحور السعودي الإماراتي الحازم فيما يتعلق بمعارضة إيران. وفي هذا الصدد، ستحصل الدول الثلاث معا على دعم “إسرائيل”، التي تستفيد من التهديد الإيراني للتوسع بالقرب من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. لكن مع سعي السعوديين والإماراتيين لتحقيق أهدافهم الإقليمية على حساب دول الكويت وقطر وعمان السنيّة، سيعمل هذا الثلاثي على استخدام القوة الناعمة في الأماكن التي توجد فيها مصالح أمريكية، وفي المناطق التي لا تمارس فيها الولايات المتحدة نفوذها أو لا تستطيع القيام بذلك.
بناء على ذلك، يمكن للولايات المتحدة توكيل إدارة بعض المسائل الثانوية لهذا المحور الخليجي غير الرسمي. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكون لبنان، البلد الذي يواجه اقتصاده أزمة ديون والذي قد يعاني من آثار العقوبات التي تفرضها واشنطن على حزب الله، بؤرة توتر تكون فيها الأموال الكويتية أو القطرية مفيدة. كما يعد الأردن، الذي من شبه المؤكد أن تعود إليه الأزمة الاقتصادية، مكانا آخر يستفيد من الأموال الكويتية والقطرية أيضا.
فضلا عن ذلك، تلعب كل من الكويت وقطر وعُمان دورا في الأراضي الفلسطينية، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى منع نشوب حرب بين حماس و”إسرائيل”، وإبقاء اقتصاد غزة مستقرا، وضخ الحياة في عملية السلام المحتضرة. أما في أماكن أخرى، فيمكن لإعادة إعمار العراق، فضلا عن اليمن الذي خربته الحرب (خاصة مع اكتساب الأزمة الإنسانية هناك مكانة سياسية بارزة في الكونغرس الأميركي)، الاستفادة من بعض المساعدات القادمة من الكويت وقطر وعُمان. وأخيرا، قد تظهر هذه الدول الثلاث حتى الآن كمكان للمحادثات الإيرانية الأمريكية، في صورة حدوث مثل هذا الإنجاز الدبلوماسي، حتى وإن كانت مثل هذه المحادثات تبدو غير محتملة إلى حد بعيد في ظل الإدارة الأمريكية الحالية.
في الأثناء، ستبذل أبرز الأطراف الفاعلة في الخليج قصارى جهدها لاستقطاب جيرانها الأكثر استقلالية. ولكن بلدانا صغيرة كالكويت وقطر وعُمان، ستساعدهم استراتيجيتهم الحالية، المتمثلة في تقديم خدمات قيّمة للقوى الخارجية، في دعم جهودها الرامية إلى إيجاد دور إقليمي بارز. وفي النهاية، من المرجح أن يقاوم الخليجيون المحايدون التدخل السعودي والإماراتي مرة أخرى.
المصدر: ستراتفور