في الوقت الذي تُهرول فيه الدول العربية “المعتدلة” نحو “إسرائيل” للتقرب منها وتفادي التصادم معها، وفتح أبواب التطبيع رغم بشاعة جرائمها، استطاع قطاع غزة المحاصر أن يوجه ضربة موجعة وقاسية لدولة الاحتلال، ستُجبرها على إعادة كل حساباتها في المنطقة.
قطاع غزة الذي مل من إرسال المناشدات للضمائر العربية والإسلامية والدولية طوال الـ12 عامًا الماضية، لنجدته وإنقاذه من ويلات الحصار الإسرائيلي الخانق، ولم يجد منها أي حراك أو حتى استجابة، اتخذ الخطوة الأجرأ حين قرر أن يقلب الطاولة على الجميع ويبدأ بـ”إسرائيل“.
24 ساعة فقط كانت كفيلة لغزة بأن توجه فيها ضربتين موجعتين لـ”إسرائيل”، أولها كانت عسكرية حين تحكمت ونجحت في إدارة جولة التصعيد العسكري الأخيرة على غزة، وقصفها للمستوطنات بأكثر من 500 صاروخ وقذيفة، وتوسل الاحتلال لمصر لإبرام صفقة لإعادة التهدئة في غزة بأي ثمن.
الضربة الثانية كانت سياسية حين هز صمودها في مواجهة التصعيد الأخير، كيان حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، وأجبرت وزير جيشه أفيغدور ليبرمان على تقديم استقالته، بسبب إبرام اتفاق التهدئة مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بوساطة مصرية، لتسطر غزة نصرًا جديدًا على أقوى “الدول في المنطقة“.
انتصار لغزة
بشكل مفاجئ أعلن ظهر الأربعاء، وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، استقالته من منصبه الذي مكث به عامين وبضعة أشهر، بسبب وقف الحرب على قطاع غزة، معتبرًا التهدئة التي جرت بأنها “استسلام“.
خلافات حادة داخل ائتلاف حكومة الاحتلال بين حزب “يسرائيل بيتينو” بزعامة ليبرمان، وحزب “البيت اليهودي” بزعامة نفتالي بينت بشأن طريقة التعامل مع مسيرات العودة
وتأتي هذه الاستقالة في ظل التصعيد الخطير الذي استهدف قطاع غزة منذ يوم الأحد، قبل أن يتم إعلان هدنةٍ أمس الثلاثاء، بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، أسفر عن استشهاد 13 فلسطينيًا، ومقتل إسرائيليين (ضابط وجندي)، إضافة لإجبار صواريخ المقاومة مستوطني غلاف غزة كافة على المبيت في الملاجئ أسفل الأرض طوال فترة التصعيد.
وقال رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو: “إذا استقال ليبرمان فإن الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) سيحل في أقرب وقت ممكن، وسيتم الدعوة لانتخابات خلال الأشهر القادمة”، وفق ما نقلت القناة 10 العبرية.
يذكر أن هناك خلافات حادة داخل ائتلاف حكومة الاحتلال بين حزب “يسرائيل بيتينو” بزعامة ليبرمان، وحزب “البيت اليهودي” بزعامة نفتالي بينت بشأن طريقة التعامل مع مسيرات العودة، فبينما كان الوزير بينت يأخذ على الوزير ليبرمان بأنه لا يتعامل مع هذه المسيرات بالحزم الكافي، كان ليبرمان يصر على أن التصعيد يعني خوض حرب جديدة.
فلسطينيون في غزة مبتهجون باستقالة ليبرمان
استقالة ليبرمان وضعها فلسطينيون ومحللون في زاوية انتصار يُحسب للمقاومة الفلسطينية في جولة التصعيد القصيرة جدًا التي شهدها القطاع خلال اليومين الماضيين، وأكد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، أن “المقاومة حققت انتصارًا عسكريًا على هذا المحتل البغيض في أقل من أسبوع”، مشيرًا إلى أنه “حصل انتصار أمني من خلال إفشال عملية أمنية في خانيونس“.
وقال هنية في حديث تليفزيوني: “لقد حصل انتصار عسكري بهذا الأداء البطولي من فصائل المقاومة الفلسطينية التي ردّت على جريمة المحتل وعدوانه ردًا يكافئ هذا العدوان”، مؤكدًا “حققنا انتصارًا سياسيًا باستقالة وزير الجيش أفيغدور ليبرمان“، ورأى أن “إعلان ليبرمان الاستقالة هو إعلان هزيمة له ولهذا الكيان الغاصب”، وأهدى هنية الانتصار لكل أبناء شهداء الانتصار وخاصة للشهيد أحمد الجعبري الذي نعيش اليوم ذكرى استشهاده.
رئيس المكتب السياسي لحركة حماس أكد أن المقاومة نجحت وقلبت المعادلة وحددت بوصلة الشعب الفلسطيني، مشددًا أن “المقاومة هي الطريق نحو القدس ونحو كل أرض فلسطين”، لافتًا إلى أن “المقاومة في تطور وتصاعد والشعب الفلسطيني يحتضن المقاومة“، من جانبه وصف داوود شهاب مسؤول المكتب الإعلامي لحركة الجهاد الإسلامي، استقالة ليبرمان بأنها من التداعيات السريعة لفشل الاحتلال، واعتراف بهزيمته.
قال الكاتب والمحلل السياسي إبراهيم المدهون: “استقالة ليبرمان انتصار جديد لشعبنا ومقاومتنا ولغزة ومسيرات العودة الكبرى“
ورأى شهاب أن وزير الجيش الإسرائيلي كان أعجز من أن يقف في وجه المقاومة، متوقعًا مزيدًا من التداعيات للهزيمة السياسية التي مُني بها الاحتلال، حسب قوله.
وقال أبو حمزة الناطق باسم سرايا القدس، الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي: “المقاومة لم تكتفِ بردع العدو عسكريًا بل أربكت حساباته السياسية”، مضيفًا “انظروا للمجزرة السياسية بين قادة الاحتلال التي أساسها العجز في مواجهة غزة“، تابع بالقول: “المقاومة قادرة على إفقاد المستوى السياسي والعسكري الصهيوني مستقبله في أي جولة قادمة“.
من جهته، يقول الكاتب والمحلل السياسي إبراهيم المدهون: “استقالة ليبرمان انتصار جديد لشعبنا ومقاومتنا ولغزة ومسيرات العودة الكبرى“، ويوضح المدهون في تعقيب له على استقالة ليبرمان، أن من هدد باغتيال هنية والسنوار يخرج بعد عامين من توليه منصب وزير الدفاع يجر أذيال الخيبة، بعد أن عجز جيشه ومنظومته الأمنية ووحداته الخاصة من تحقيق أي انجاز.
أما الكاتب إياد القرا، فيقول: “غزة تطيح برأس ليبرمان في عز النهار، والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة في أفضل مراحلها وشعبها يحتضنها”، مؤكدًا أن حكومة الاحتلال في حالة تفكك، وشعبها غاضب عليها.
يُشار إلى أن ليبرمان الذي وعد بأنه لن “يُبقي إسماعيل هنية (رئيس حركة حماس) على قيد الحياة” بمجرد تسلّمه منصب وزير أمن “إسرائيل”، بات اليوم محطّ انتقادات واسعة لا سيما من جمهور المستوطنين في مستوطنات غلاف غزة؛ إذ يعتبرون أنه لم يُحدِث أيّ تغيّر إيجابي منذ تسلمه المنصب.
وأطاحت غزة عقب أسبوع من انتهاء معركة “حجارة السجيل” عام 2012 – التي ضُربت فيها “تل أبيب” لأول مرة – بوزير جيش الاحتلال أيهود باراك.
حكومة نتنياهو تواجه خطر السقوط
سقوط حكومة نتنياهو
استقالة ليبرمان قربت فعليًا تفكيك حكومة بنيامين نتنياهو التي عادت إلى 61 مقعدًا بفارق مقعد واحد عن النصاب القانوني لها، الذي ينص على وجود أكثر من 60 مقعدًا كشرط لبقائها بشكل قانوني.
وستعمل استقالة ليبرمان الذي يرأس حزب “إسرائيل بيتنا” أحد المشاركين في الائتلاف الحكومي لنتنياهو بـ(6) أصوات، على قرب إعلان انتخابات مبكرة قبل موعدها، أو حل الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، وهو ما يعني تهديدًا حقيقيًا للحكومة الحاليّة.
ويتكون الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الذي يقوده زعيم حزب الليكود نتنياهو من 67 مقعدًا من أصل 120 من مقاعد الكنيست الإسرائيلي، وهم إلى جانب الليكود: حزب إسرائيل بيتنا والبيت اليهودي وشاس (حزب المتدينين الشرقيين) ويهدودوت هتوراه.
ليبرمان، زعيم حزب “إسرائيل بيتنا” اليميني المتطرف، يعتبر واحدًا من أشهر الساسة الإسرائيليين وأكثرهم إثارة للجدل، وصاحب الخلفية الدموية الرافضة لـ”السلام“
يؤكد المختص والباحث في الشأن الإسرائيلي أحمد موسى، أن الساعات القادمة تحمل تهديدًا لبقاء حكومة نتنياهو، لأن هناك تنافسًا وصراعات على وزير الحرب عقب استقالة ليبرمان منها، بعد جولته في غزة، ويقول موسى: “الائتلاف الحكومي الذي شكله نتنياهو منذ توليه الحكومة، وسعى إلى تعزيزه بمختلف الأحزاب اليمينية، أصبح الآن مهددًا وفي مأزق، لأن الحكومة لن يكون لها نصاب في حالة انسحب أي حزب الآن“.
ويتوقع أن يدفع نتنياهو ثمنًا سياسيًا كبيرًا في هذه الأوقات لتجنب فشل الائتلاف وتفككه، حيث سيرضخ لتهديدات رؤساء أحزاب الائتلاف، وسيعمل على تعيين أحد منهم وزيرًا للحرب بدلًا من ليبرمان المستقيل.
ويوضح أن الشارع الإسرائيلي يعيش هذه الأيام حالة من الغضب بعد انتهاء جولة التصعيد في غزة، والتوافق على تهدئة مع حركة حماس، لذلك ستستفيد عدد من الأحزاب من هذه الأحداث في الترويج لنفسها في حالة تم الدعوة لانتخابات مبكرة، وحلت الحكومة والكنيست.
من ليبرمان؟
ليبرمان، زعيم حزب “إسرائيل بيتنا” اليميني المتطرف، يعتبر واحدًا من أشهر الساسة الإسرائيليين وأكثرهم إثارة للجدل، وصاحب الخلفية الدموية الرافضة لـ”السلام“، ولد في كيشيناو عاصمة مولدوفا، وهي إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، عام 1958، وخلال العشرينيات من عمره عمل حارسًا في أحد الملاهي الليلية هناك.
وبعد وصوله إلى “إسرائيل” خدم ليبرمان في جيش الاحتلال، وحصل على درجة جامعية في العلوم الاجتماعية من الجامعة العبرية في القدس المحتلة، بعد ذلك، أصبح ناشطًا في مجال السياسة الطلابية، وبدأ حياته في “حزب الليكود”، حيث عمل مديرًا عامًا بين 1993 و1996، ثم عمل مديرًا لمكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عامًا.
في أكثر من موقف أكد ليبرمان أن ما يهمه فقط “إسرائيل”، ولا يهمه دولة فلسطينية
غادر ليبرمان “الليكود” وأسس حزب “إسرائيل بيتنا” عام 1999، وفاز في أول انتخابات يخوضها الحزب عام 1999 بأربعة مقاعد في الكنيست، وعمل بعدها وزيرًا للبنية التحتية بين عامي 1999 و2002، ثم وزيرًا للنقل والمواصلات بين 2003 و2004، قبل أن يصبح وزيرًا لخارجية الاحتلال ونائبًا لنتنياهو عام 2009، وأصبح ليبرمان لاعبًا رئيسيًا في السياسة الإسرائيلية منذ مارس من عام 2006، حين فاز حزبه “إسرائيل بيتنا” بـ11 مقعدًا في البرلمان.
ومهد ذلك الطريق أمامه ليصبح نائبًا لرئيس الوزراء، ووزيرًا للشؤون الإستراتيجية في حكومة أيهود أولمرت التي قادها حزب “كاديما“، وهدد، في أكتوبر الماضي، بتوجيه ضربة زعم أنها ستكون “شديدة القوة” لحركة حماس؛ لتحسين الأوضاع الأمنية الإسرائيلية، متوعدًا بعودة الاغتيالات ضد قادتها، ولطالما ضيق الخناق على غزة المحاصرة منذ أكثر من 12 عامًا، كما أن سجله مليء بالأحداث التي شهدها القطاع من انتهاكات وجرائم، ما أوقع الشهداء والجرحى.
وفي أكثر من موقف أكد ليبرمان أن ما يهمه فقط “إسرائيل”، ولا يهمه دولة فلسطينية، إذ قال: “لا أعير اهتمامًا لتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن احتمال حل الدولتين“.
كما أقرت لجنة تشريعات “إسرائيل”، خلال توليه، مشروع قانون يحظر تصوير جنود جيش الاحتلال خلال نشاطهم العسكري، الذي قال منتقدوه إنه مُفصَّل للتغطية على جرائم الاحتلال، ووضع الوزير المستقيل الإعلام الفلسطيني في بؤرة الاستهداف، كما أن جيشه واجه الإعلاميين والصحفيين لمنعهم من الوصول إلى الحقيقة وإيصالها للعالم.
وفي عهده أيضًا توسع الاستيطان على حساب الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبنيت آلاف المستوطنات التي تعتبر العثرة في طريق المفاوضات، وتباهى بأنها حققت أكبر عدد منذ 1992.