دخلت التهديدات الأمريكية لإيران حيز التنفيذ، تضغط الولايات المتحدة بكل قوة لتنفيذ إستراتيجية دونالد ترامب الرامية إلى خنق دولة الملالي بعقوبات جزافية تهدف إلى شل الاقتصاد وتدميره، عبر تصفير الصادرات النفطية، لتركيع طهران وكسر كرامتها، بما يحقق الهدف الترامبي الأسمى بإعادة شحن الشارع الإيراني الملتهب أصلاً في مواجهة حكومته، وتطويقه بأزمات ارتفاع الأسعار وزيادة منسوب البطالة، بما يضعف قدرة إيران على التحمل، ويهدم كبريائها في مواجهة أقوى دولة في العالم.
الخطوة الأمريكية الجديدة، تحاول فرض قوانين ملك الغابة، لإفشال المواءمات الدولية مع إيران، خاصة أن العالم فعليًا منقسم حول العقوبات الأمريكية الجزافية التي قد تقود المنطقة إلى صنع بؤر ملتهبة جديدة، ستكون دون شك أسوأ بكثير على العالم أجمع، مما تسببت فيه ثورات الربيع العربي، التي لا يستطيع الغرب تحمل نصيبه من فواتير اللاجئين فقط حتى الآن، وهو ما يبدو أن ترامب نجح فيه، بعدما أجبر شركات عالمية على الانسحاب من السوق الإيراني، حتى قبل حسم الصراع العالمي بشأن الموقف من طهران، وعلى رأس هؤلاء شركة توتال الفرنسية وإيني الإيطالية في قطاع النفط، وبيجو الفرنسية ودايملر الألمانية في قطاع السيارات، فضلاً عن مؤسسات أخرى في قطاعات حيوية مختلفة.
رسوخ الاقتصاد الإيراني وتصديه بقوة للعقوبات المتتالية يشكل مفاجأة مزعجة لإدارة ترامب، بسبب الأوزان الكبيرة لطهران وتحالفاتها في العالم
كان ترامب يعلم جيدًا أن إشارة جدية من إصبعه الصغير، تعني هروب رؤوس الأموال العابرة للحدود على الفور، وهي ضربة كانت محسومة سلفًا دون الاضطرار للدخول في أضعف أنواع المواجهات الاقتصادية، بينما يقف متصديًا له حتى الآن، الدعم الصيني المفتوح لطهران التي تفتح أسواقها للذهب الأسود الإيراني، وليست وحدها بل هناك روسيا وتركيا والهند، وعلى مسافة ليست بعيدة من هؤلاء، تقف دول مثل اليابان وكوريا، وتعملان بحذر في ثقة منهما من تزايد الضغوط الدولية على ترامب، للدخول في مواءمة مع النظام الإيراني، بما يكفل لهما حق معاودة العمل دون خوف من مواجهة أمريكا واستدعاء غضبها.
ما وراء الرغبة في تصفير صادرات إيران
كان رسوخ الاقتصاد الإيراني وتصديه بقوة للعقوبات المتتالية يشكل مفاجأة مزعجة لإدارة ترامب، بسبب الأوزان الكبيرة لطهران وتحالفاتها في العالم، مما يجعل من العقوبات في ظل تمرد قوى عالمية حليفة لإيران مثل الصين، فرصة كبيرة لتقليب بورصة النفط على ترامب، بسبب الارتفاع الكبير المتوقع في الأسعار العالمية، ومن هنا أردات أمريكا ضرب الأوراق الإيرانية كاملة، وهو ما نجحت فيه بإجبار بنك كونلون الصيني العملاق على الرضوخ للعقوبات الأمريكية، بما أثر على تعامل الصين في شراء النفط الإيراني الشهر الماضي بالكميات الطبيعية التي يحتاجها السوق المحلي، ولم يرضخ بنك كونلون وحده للعقوبات، بل تبعته مؤسسات وشركات صينية عملاقة.
الضربة الأخرى التي وجهتها أمريكا، جاءت في تحييد الهند الحليف الأقوى لإيران، التي سبق لها إعلان عدم التزامها بالعقوبات، وجعلها تتردد في تعويض إيران عن خسائرها مع دخول العقوبات حيز التنفيذ بداية من صباح الإثنين الماضي، خوفًا من مواجهة غير مأمونة العواقب مع رجل كترامب، وهذا كان هدفًا واضحًا أيضًا للإدارة الأمريكية التي كانت على علم بضرورة انتظار الهند أولاً الإعفاءات الأمريكية والاستثناءات التي تسمح لها بالعمل دون مخاطر.
أوروبا على اتساعها، ورمزية بلدانها في الاقتصاد والتأثير السياسي العالمي، لا تجد الوسيلة والآلية التي تمكن شركاتها من التعامل مع إيران وتجنبها فاتورة الغضب الأمريكي، وهو ما يضع لترامب قدمًا جديدة في السيطرة على العالم أجمع
واضطرت نيودلهي، لتأسيس آلية جديدة للتعامل مع إيران بـ”الروبية”، ومن خلال بنك محلي، ليس له أي ارتباطات دولية يمكن أن تطاله أيدي ترامب، بما يفك الضغط قليلاً عن طهران، ويسمح لها في نفس الوقت بفتح بوابة خلفية، تجلب منها احتياجتها كاملة، دون أن تغامر الهند بتحدي عقوبات الرئيس الأمريكي، وهي نفس الآليات التي تحاول أوروبا اللعب عليها، لإبقاء إيران كحليف قوي لها، وإنقاذ كرامتها وسيادتها من التغول الترامبي بالحفاظ على الاتفاق النووي، وفي نفس الوقت، حرمان إيران من الدولار الأمريكي كما تريد أمريكا.
المثير في الأمر، أن أوروبا على اتساعها ورمزية بلدانها في الاقتصاد والتأثير السياسي العالمي، لا تجد الوسيلة والآلية التي تمكن شركاتها من التعامل مع إيران وتجنبها فاتورة الغضب الأمريكي، وهو ما يضع لترامب قدمًا جديدة في السيطرة على العالم أجمع، بما فيه أهم حلفائه، ويكشف عن ذكاء خارق للرجل، يجعله يدرك كيف يمكن اللعب بجميع أوراقه دون خوف؛ فهذه الأزمة كشفت ضعف أوروبا بسبب ارتباطها بشكل عضوي بالاقتصاد الأمريكي، الذي لا يُمكنها بأي حال اتخاذ مسار مخالف للسياسة الأمريكية، وهو البُعد الذي أصبح واضحًا دون لبس للعديد من قادة القارة العجوز وخاصة الشباب منهم مثل ماكرون الذي دعا قبل أيام لتشكيل جيش أوروبي موحد، يستطيع حماية أبناء القارة بمعزل عن أمريكا، ودون الارتهان لسياستها، خاصة في ظل الخوف من صعود الشعبوية والقومية المتشددة في أوروبا، بما يعيق مشروعات السلام ويجعل العالم أجمع أكثر خطورة من أي وقت مضى.
ماكرون الذي يريد إعادة أمجاد فرنسا في التأثير الدولي ومناطحة القوى العالمية، انتقد علنًا قرارات الرئيس الأمريكي واعتبر تنمره على حفائه يشكل تحديًا كبيرًا لسيادة وأمن أوروبا، وما قاله ماكرون، انعكس على البيان المشترك لوزراء خارجية بريطانيا وألمانيا وفرنسا ومسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بشأن العقوبات الأمريكية على إيران، الذين أجمعوا على ضرورة إيجاد آلية تبعد الاقتصاد الأوروبي عن الدوران في فلك الاقتصاد الأمريكي، حتى لا يستخدم ذلك لأهداف سياسية تعقد العلاقات الدولية، وتضعف الشراكة بين مختلف دول العالم وأوروبا.
إيران .. الانتظار يكفي لتبريد الأزمة
الحلول الإيرانية حتى الآن، تبدو في يد حلفائها، وما يمكن أن يقدموه للالتفاف على العقوبات الأمريكية، وحتى يحدث ذلك، يجمع النظام الإيراني كل خبراته في تجهيز الشارع لفاتورة المواجهة مع ترامب، وتعبئة الإيرانيين وشحنهم استعدادًا لعقوبات أخرى لاحقة، تخدم هدف الرئيس الأمريكي الذي يعيش ازمة نفسية مع إيران بسبب تهديدها لـ”إسرائيل”.
لشحن المعنويات والتغلب نفسيًا على الأزمة، أقامت طهران احتفالاً غير تقليدي بالذكرى الـ39 لاقتحام السفارة الأمريكية عام 1979، التي جرت بعد أشهر قليلة من نجاح الثورة الإيرانية
وتعلم إيران جيدًا أن تنفيذ الولايات المتحدة عقوباتها الجديدة على قطاعات النفط والشحن والبنوك في إيران، يعتبر خطوة جديدة تجاه المواجهة الكبرى التي يجب أن تعد لها العدة أمام رئيس لا يتراجع قيد أنملة في هدفه الذي يسير إلى زعزعة استقرار النظام الإيراني، وإضعافه لأقصى درجة ممكنة، وهي خطوات بدأها بالانسحاب قبل أشهر من الاتفاق النووي الشهير الذي أُبرم عام 2015 خلال إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، ومنحت واشنطن من خلاله إعفاءات مؤقتة لإيران، ومنحتها حرية التعامل بعيدًا عن العقوبات مع ثماني دول، الأمر الذي أتاح لهم إعادة العلاقات الاقتصادية بشكل كامل، ومواصلة استيراد النفط الإيراني.
ولشحن المعنويات والتغلب نفسيًا على الأزمة، أقامت طهران احتفالاً غير تقليدي بالذكرى الـ39 لاقتحام السفارة الأمريكية عام 1979 بعد أشهر قليلة من نجاح الثورة الإيرانية التي أزاحت شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي، واستغلت السلطات الاحتفال للتركيز على الأخطار الوجودية التي تواجه الجمهورية الإسلامية حاليًّا من أمريكا و”إسرائيل”، التي لم تكن الورود مفروشة في طريقها، بما يعني أن هناك ضرورة دينية لاجتياز الأزمة.
إقليميًا وعالميًا تسعى إيران بكل قوة، ودون أن تستخدم لغة عنيفة في الخطاب كما هو معروف عنها في مثل هذه المواقف، بما يزيد من رغبة ترامب في التحدي، لإنقاذ الاتفاق النووي وإعلان الاقتصاد المقاوم في البلاد باعتباره إجراءات حماية ـ غير متعارف عليها ـ يقول عنها خبراء عالميون، إنه نظام هجين قائم على الشعارات الدينية والسياسية، ولكنه يفتح الباب للتهريب وزيادة الفجوات في المجتمع الإيراني المأزوم أصلاً سياسيًا واقتصاديًا.