كنت في العاشرة من عمري يوم أن وقع لي أول حادث تحرش، كنت عائدة من المدرسة وأحمل باقة من الورد الزهري والزنبق هدية أتيت بها لأمي، دخلت إلى المنزل ولم تكن هي قد عادت بعد، وضعت الباقة على سريرها وانتظرت وقلبي يدق، أتت أمي وفرحت بالباقة كثيرًا، كل مرة تفرح بنفس القدر ولم تخذلني في ردة فعلها أبدًا.
لكنني تلك المرة كنت في حالة صمت وصدمة، سألتني عما بي أخبرتها بما حدث، احتضنتني بشدة ولم تتحدث في الأمر، بعد يومين زارتنا صديقة لأمي متخصصة في الاستشارات النفسية للأطفال، أخبرتني أمي أن عليها الإجابة عن هاتف طويل وعليّ أن أرحب بضيفتها وأجالسها حتى تنتهي، طالت جلستي مع الضيفة وهي تحكي معي بلا ملل وكأنني أنا صديقتها.
هدى عبدالمنعم وابنتها جهاد
فقط منذ بضع سنوات كنت أتحدث مع أمي واكتشفت أن زيارة الضيفة كانت من أجلي وأن أمي هرعت إليها كي تطمئن أنني لم أصب بصدمة من هذا الحادث، لكنها لم تخبرني حينها حتى أكون على طبيعتي.
لم تخجل أمي أبدًا من طلب المساعدة فيما يخصني أنا وأخواتي أو فيما يخص تربيتنا النفسية تحديدًا، كانت دائمة الاستشارة ودائمة التعلم، لم تتكبر أبدًا من باب أنها أم وأن التربية النفسية أو غيرها تأتي بالفطرة، بل آمنت بالتخصص وبقدرتها على ما يمكن أن تفعله وحدها وما لا يمكن وانتهجت هذا مع أربعتنا.
ربما هذا شيء عادي أو طبيعي في أيامنا تلك، لكنه في ذلك الحين لم يكن كذلك، نادرًا عندما كانت أم تطلب المساعدة من متخصص بشأن أطفالها طالما أن الأمر ليس طبيًا، منذ بضع سنوات وأنا أخضع للعلاج النفسي بشكل منتظم إلى حد ما، علاج من مرض الاكتئاب وليس مجرد استشارات نفسية، وأمي هي داعمي الأول في هذا.
أذكر مرة سمعت أحد المقربين يقول لها إن هذا وهم وهي تشارك فيه وكأم لا يجب أن “توهم” بناتها بشيء كهذا، حسنًا الحمدلله أنها لم تسمع له لأن دعمها في هذا يعني لي الكثير، في نظرتنا للحياة أنا وأمي نختلف كثيرًا إلى حد لا يمكن وصفه، لكننا يومًا اتفقنا أن علاقتنا يجب أن تقوم أبدًا على مبدأ الحب غير المشروط، وهي أحسنت الاتزام بهذا بشدة.
ما يراه الناس من زوايا البطولة يغلف أطنانًا من المشاعر الإنسانية المخيفة التي تحتاج سنوات لتعامل الروح معها وتحمل في طياتها ما يكفي أن يكون سببًا لأن ينتهي الكوكب بمن عليه
كيف تحولتِ يا أمي لخبر في كل مكان؟ كيف صرت أنتِ السؤال؟ كيف استطاع قلبًا أن ينتزعك منا بلا أي رحمة هكذا؟ أي حديث عن القوة والصلابة والابتلاء والأثر لا يجدي يا أمي، أي مواساة لا تجدي، أنا لا أريد مواساة ولا أريد أحدًا أن يخبرني أن بمجرد عودتك سينتهي هذا كله، لأنه لن ينتهي يا أمي.
لن تنتهي كوابيسي المفزعة في دقائق نومي القليلة ولن ينتهي شعوري بالرعب ولن تنتهي صدمتي التي لم أترك لنفسي عنان التعامل معها بعد، أنا أعلم أنه لن ينتهي بتلك البساطة يا أمي لأنني ما زلت أحاول التعافي من صدمات قبل ذلك، وما زال الطبيب يحاول معي في استيعاب ما كان أهون من ذلك بكثير (وهو فعليًا ليس هينًا) فكيف سيكون عليّ مواجهة كل ما يحدث الآن بداخلي وأنا أتجاهله يا أمي لأن عليّ أن أكون قوية واستسلامي للألم الآن بمثابة رفاهية لا خيار لي فيها؟ أين أنتِ يا أمي أنا بحاجتك؟!
يتحدث الملايين حول العالم عن بطولة خاشقجي لكنهم لا يولون الأنظار لما قد يشعر به أبناؤه وما قد يلاحقهم ما بقي من أعمارهم، يتحدثون عن أثر ما ألم به سياسيًا ودوليًا لكن أين أثره إنسانيًا؟
قوات الأمن المصرية أثناء مداهمة منزل المحامية هدى عبدالمنعم
أعلم تمامًا أنني مهما تخيلت لن أتخيل ولو عُشر ما يشعرون به، لأن لا أحد يشعر بأحد لو لم يجرب، أشعر أنني بحاجة إلى أن أظل أعتذر لهم لأعوامٍ قادمة لتجاهل الناس مشاعرهم وعدم تقديرها هكذا، لا أحد يشعر بما في داخلي يا أمي سوى أخواتي، من تبكي فينا تبكي فقط عندما يحل الليل ونجتمع عبر برنامج ما لنتحدث معًا وتشد كل منا من أزر الأخرى، غير ذلك فنحن قويات جدًا يا أمي تمامًا كما علمتنا، ومجتمعات جدًا أيضًا كما أردت دائمًا، لكننا خائفات جدًا يا أمي، وأنتِ وحدك أماننا.
كنت وأخواتي دائمًا نضحك ونتغامز عندما نرى اشتياق أبي لك في أي من سفراتك، تلك الآيام يحرقنا ما نراه فيه من قهر وألم لا يحتمله إنسان، يا أمي أنت تمارسين نشاطك الحقوقي على أكمل وجه وأيضًا تمارسين كونك زوجة وأمومتك على أجمل وجه، ما يراه الناس من زوايا البطولة يغلف أطنانًا من المشاعر الإنسانية المخيفة التي تحتاج سنوات لتعامل الروح معها وتحمل في طياتها ما يكفي أن يكون سببًا لأن ينتهي الكوكب بمن عليه، السجن ليس بطولة والاختفاء مرعب والفراق مميت وأنا يا أمي صرت أخاف من الوطن.