قد تكون لحظة جلوسك إلى طاولة المطعم وإمساكك لقائمة الطعام واحدة من أكثر اللحظات حيرةً مرورًا عليكَ خلال أسبوعك، لتختارَ منها ما تريد أكله والتمتّع بطعمه. لذلك، ليس من الغريب أبدًا أنْ يلجأ العديد من المطاعم إلى استراتيجيات وتكتيكات معيّنة تعمل من خلالها على زيادة استهلاك الزبائن للطعام من أجل زيادة أرباح المطعم. فاللمسات المتواضعة من قبيل الموسيقى والتصميم الداخليّ والتعامل اللطيف، ليست سوى عناصر قليلة جدًا من عناصر “الخداع”، إن صحّ لنا تسميته، الذي يمكن أنْ يدفعك في الواقع إلى طلب وتناول المزيد.
تعتمد تلك الاستراتيجيات بشكلٍ أساسيّ على نظريات علم النفس، خاصّة تلك التي ترتبط بالإدراك والانتباه وإثارة العاطفة والإقناع. ولهذا يُطلق عليها اسم “سيكولوجية القوائم\هندسة القوائم” أو “Menu Psychology\menu engineering“، أي دراسة كيفية عرض وتصميم الأطباق والمنتجات في قائمة الطعام بطريقة تحفّز الزبون على طلب المزيد وتزيد من أرباح المطعم. ثمّ لدينا هناك نظريات المحاسبة الإدارية والتسويق لدراسة التسعير وتحديد الكلفة والترويج، إضافةً لاستراتيجيات التصميم الجرافيكي والتي تعتمد بدورها أيضًا على العديد من نظريّات علم النفس.
سيكولوجية القوائم أو هندسة القوائم هي دراسة كيفية عرض وتصميم الأطباق والمنتجات في قائمة الطعام بطريقة تحفّز الزبون على طلب المزيد وتزيد من أرباح المطعم
تتطلب هندسة القوائم أولًا تحليل العناصر الموجودة في القائمة الخاصة بك لتحديد العناصر الأكثر شعبيةً وبالتالي الأكثر قدرةً على جلب الأرباح وزيادتها. فهذا أمرٌ مهم للغاية، لأنك ستصمّم قائمتك اعتمادًا على هذه العناصر. ثمّ ستحتاج أيضًا التحقق من تسعير تلك العناصر بشكلٍ صحيح للحصول على أقصى ربحٍ ممكن.
عبء الاختيار: خيارات أقلّ لاستهلاك أكثر ورضىً أكبر
في كتابه “مفارقة الاختيار“، يعتقد عالم النفس الأمريكي “باري شوارتز” بأنّ الناس يجدون صعوبةً في اختيار أيّ شيءٍ في ظلّ العالم الذي نعيش فيه والمليء بالخيارات الكثيرة والمتعدّدة، في جميع المجالات تقريبًا. فأنتَ تدخل إلى السوبر ماركت لتجد أمامك ما لا يقلّ عن 10 أنواع من زيت الزيتون على سبيل المثال، وتذهب إلى متجر الإلكترونيات لتجد أمامك عددًا كبيرًا من سمّاعات التلفون المتنوعة والمختلفة. وحتى على نطاق الدواء والعلاج، بات الأفراد معرّضون لكمٍ هائل من الخيارات التي يجدونها أمامهم دون أنْ يعرفوا كيف وماذا يناسبهم ليختاروه.
وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، تعمل هذه الخيارات جميعها على تعزيز شعور العجز عند المستهلِك بدلًا من شعوره بحريّة الاختيار. وحتى لو تمكّن من تخطي شعور العجز واتخاذ القرار، فإنّ قناعته بنتيجة اختياره تبقى أقل ممّا لو كان معروضًا أمامه عددٌ أقلّ من الخيارات المتاحة.
هناك عدة أسباب لذلك. قد يكون أحدها أنّ مع توفّر قائمة مليئة بأنواع السلَطات أمامكَ على سبيل المثال، فإنك ستشعر بالندم على عدم اختيارك لنوعٍ آخر في حال كان اختيارك سيئًا ولم يعجبك وستبقى تعتقد أنه كان بالإمكان اختيار نوع آخر أفضل من الذي اخترته. أيْ أنّ هذا البديل المتخيّل يدفعك للندم على القرار الذي اتخذته، وهذا الندم يقلّل من حصيلة رضاك عن قرارك، حتى وإن كان قرارًا مقبولًا أو جيدًا.
تعمل المطاعم الذكية على الحدّ من القوائم والأصناف المعروضة لديها حتى تخلق لدى زبائنها شعورًا بالتحكّم والقدرة على الاختيار، دون أنْ يؤدي اختيارهم لتوليد القلق أو الندم لاحقًا
أمّا السبب الآخر، فهو ما يسمّيه الاقتصاديون “تكلفة الفرصة البديلة”، وهي أنّنا نقيّم خياراتنا اعتمادًا على مقارتنا لها بغيرها. وبالتالي، عند توفّر الكثير من البدائل للاختيار، فمن السهل على الزبون أو المستهلِك تخيّل الميّزات الجذابة والمغرية للبدائل التي أهملها أو لم يعطهما أولوية الاختيار، ليصبح بعدها أقل قناعةً بالذي اختاره.
تعي المطاعم الذكية هاتين النقطتين جيّدًا. وتدرك أنه كلما أتاحت قائمة الطعام خياراتٍ أكثر لزبائنها، فإنّ شعورهم بالندم على أيّ خيارٍ مخيّبٍ للآمال سيكون أسهل وأكبر. وبالتالي، تعمل على الحدّ من القوائم والأصناف المعروضة لديها حتى تخلق لدى زبائنها شعورًا بالتحكّم والقدرة على الاختيار، دون أنْ يؤدي اختيارهم لتوليد القلق أو الندم لاحقًا. وبكلماتٍ أخرى، بسّط قائمة مطعمك أو مقهاك، حتى لا يشعر زبونك بأنه اختار الخيار الخاطئ لاحقًا.
وجدت دراسة أنّ الناس يفضّلون عددًا مثاليًا للأصناف التي يجب أنْ تكون بالقائمة، بحيث تُشعرهم بحرية الاختيار دون قلق أو خوفٍ من الندم، وعلى ما يبدو فإنّ الرقم الذهبي هو سبعة
وبالفعل، تُظهر العديد من الأبحاث أن معظم قوائم الطعام تحتوي على أصناف أكثر بكثير ممّا يرغب الناس في الاختيار منه. فقد كشفت دراسة شائعة صدرت عن جامعة كولومبيا أنّ الأشخاص يفضّلون في الواقع خيارات أقل في قوائم الطعام لأنها تجعل عملية اتخاذ القرار أكثر سهولة. في حين أظهرت واحدة من دراسات جامعة بورنموث في المملكة المتحدة أنّ زبائن المطاعم، من الجنسيْن وجميع الأعمار، يفضّلون عددًا مثاليًا للأصناف التي يجب أنْ تكون بالقائمة، بحيث تُشعرهم بحرية الاختيار دون قلق أو خوفٍ من الندم، وعلى ما يبدو فإنّ الرقم الذهبي هو سبعة.
لغة الطعام: الكلمات أيضًا تُغري الزبائن
يمكن أن تؤدي الكلمات المستخدمة لوصف الطعام في القائمة إلى جذب الزبائن وزيادة الأرباح، ولكن في الوقت نفسه قد تكون أداةً لإرباكهم وقطع علاقتهم بالمطعم. فالمطاعم الذكية تريد أن يفترض زبائنها أنّ الطعام سيكون طازجًا وشهيًا ولذيذًا. وبالتالي، فهي لا تنتظر منه أن يتذوقه ليحكم عليه، بل تسعى منذ البداية لأنْ تخلق توقعاتٍ ممتازة من خلال الأوصاف المذكورة في قوائم طعامها. فعلى سبيل المثال، يعتقد أستاذ علم النفس التجريبي في جامعة أكسفورد “تشارلز سبينس” بأنّ إعطاء الطبق وصفًا عٍرقيًا، كأنْ يحمل اسمًا أو وصفًا إيطاليًا على سبيل المثال، سيجعل الناس يعتقدون أنّه أكثر أصالةً.
تعمل الأوصاف الجيدة على زيادة شعور الزبائن بالرضا عن وجباتهم، تمامًا كما يمكن للأوصاف الفاتنة أيضًا أن تعوّضهم عن سعر الوجبة المرتفع
وبالفعل، ففي واحدة من الدراسات، قدّم الباحثون نفس نوع النبيذ الى مجموعتين من الناس ولكن بملصقين مختلفين على الزجاجة، أحدهما يُشير إلى أنّ النبيذ مصنوعٌ في في شمال داكوتا، وهي منطقة غير معروف عنها أنها تصنع النبيذ، والملصق الآخر يوحي بأنّ النبيذ مصنوع في كاليفورنيا، المشهورة بنبيذها ذي الجودة العالية. وجد الباحثون أنّ المشتركين فضّلوا الزجاجة المكتوب عليها كاليفورنيا واعتقدوا أنّ نبيذها تغلّب على الزجاجة الأخرى في اختبار الطعم على الرغم أنّ كليهما من نفس النوع.
تعمل الأوصاف الجيدة على زيادة شعور الزبائن بالرضا عن وجباتهم، تمامًا كما يمكن للأوصاف الفاتنة أيضًا أن تعوّضهم عن سعر الوجبة المرتفع. فكلما استخدمت كلماتٍ فاتنة لوصف أطباقك وأصنافك، سيشعر الزبون بأنّ الطبق يستحق قيمته. كما يعتقد بعض الباحثين أنّ الناس يتذوّقون ما تخبرهم به أنتَ. إضافةً إلى أنّ أوصاف من قبيل “محليّ الصنع” أو “من المزرعة إليك” أو ما يشابهها، تساعد الزبون في إدراك جودة الطبق المقدّم.
ثمة الكثير من الخدع النفسية التي تستخدمها المطاعم في قوائمها إضافةً للحدّ من الخيارات واستخدام اللغة الفاتنة، كأنْ توضع الأطباق المكلفة وباهظة الثمن في رأس القائمة بحيث يشعر الزبون بأنّ جميع الأطباق الأخرى تبدو معقولة الثمن، كما تلعب الألوان المستخدمة في القائمة دورًا كبيرًا في إثارة الأحاسيس والعواطف واستحضار الذكريات التي تلعب بدورها دورًا هامًّا في تحفيز الطلب وزيادة الأكل. أو حتى خلق شعور بالنوستالجيا حيال الأطباق والمطعم.
لذا، في المرة القادمة التي تزور فيها مطعمًا، تمعّن جيّدًا في قائمة طعامه، وحاول اكتشاف فيما كان أصحابه أذكياء بما فيه الكفاية لاستغلال خدع علم النفس والتسويق لجعل لُعابك يسيل على الفور فتطلبَ المزيد من الطعام وتدفع أموالًا أكثر، أم أنها مجرّد قائمة عادية لا تفعل شيئًا سوى سرد المأكولات والمشروبات وذكر أسمائها وأسعارها فقط.