بعد قرابة 40 يومًا على حادثة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي بمقر قنصلية بلاده في إسطنبول، ها هي القضية تدخل مرحلة جديدة من الإثارة لتتكشف بعض ملامحها بصورة كبيرة وذلك في أعقاب تصريحات وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، أمس، بشأن فتح تحقيق دولي في القضية وأنه بات “شرطًا تركيًا”.
إرهاصات التدويل جاءت في أعقاب المماطلة التي تبديها الرياض حيال التعاطي مع الملف، وعدم التعاون مع جهات التحقيق التركية وعرقلة بعض الإجراءات الضرورية لكشف المتورطين الحقيقيين بعيدًا عن مجرد الاكتفاء بتقديم “كبش فداء”، وهو ما أكدت عليه أنقرة أكثر من مرة في بيانات رسمية.
دخول بعض القوى الدولية على خط الأزمة دفع الجانب التركي إلى تقديم بعض تسجيلات الجريمة للولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا في محاولة لمواصلة الضغط من أجل التوصل إلى قرار بشأن معاقبة المتورطين في الجريمة، فيما ذهب فؤاد أقطاي نائب الرئيس التركي إلى التأكيد أن بلاده “لا تخفي أي معلومات أو أدلة عن المؤسسات والأطراف الدولية”، مضيفًا” “لن نتستر على أولئك الذين أمروا ونفذوا جريمة الاغتيال”.
هذا بينما اعتبر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو مقتل خاشقجي “انتهاكًا لمعايير القانون الدولي“، فيما دعت منظمات حقوقية دولية الأمين العام للأمم المتحدة بفتح تحقيق في الواقعة، وهو ما تفكر المنظمة في الاستجابة إليه حسبما جاء على لسان فرحان حق نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة حين قال: “نواصل مراقبة التحقيقات الجارية حاليًّا وسنرى ما سيتم التوصل إليه فيها والمنظمة ستتصرف بناءً على ذلك”.
تسارع الأحداث وتدافع بعض المنظمات الدولية والعواصم الغربية للتوصل إلى قرار رادع ردًا على الجريمة ربما يضع تدويل القضية واحتمالية فرض عقوبات دولية ضد المملكة أو بعض مسؤوليها سيناريو متوقع – بنسبة ما – على طاولة الأحداث خلال الفترة المقبلة.. ليبقى السؤال: هل تقبل الرياض فرض عقوبات دولية ضدها؟
مماطلة سعودية ثم اعتراف
حرصت أنقرة منذ بداية الأزمة على تقديم المتورطين في الجريمة إلى محاكمة عادلة، من خلال فتح قنوات تواصل مع الرياض على أعلى المستويات، دون رغبة مسبقة في توسيع دائرة التعاطي الإقليمي والدولي معها، غير أن غياب المرونة من الجانب السعودي منذ الوهلة الأولى كان الدافع الأكبر نحو وصول القضية إلى هذه المرحلة.
فالجانب السعودي الذي تعامل مع الإعلان الأولي عن اختفاء خاشقجي بتجاهل أقرب للسخرية، تبعه إنكار رسمي جاء على لسان ولي العهد محمد بن سلمان، استمر قرابة 18 يومًا، قبل أن تعترف الرياض رسميًا في 20 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بمقتل صحفيها داخل قنصليتها في إسطنبول إثر ما قالت إنه “شجار”، لتوقف بعدها 18 سعوديًا للتحقيق معهم، بينما لم تكشف مكان الجثة.
روايات الرياض المتعددة بشأن عملية القتل قوبلت بتشكيك واسع لا سيما بعد تفنيد النيابة التركية لها عبر تقديم أدلة ووثائق تشير إلى أن عملية الاغتيال كانت “وفقًا لخطة كانت معدة مسبقًا”، مؤكدة أن الجثة “جرى التخلص منها عبر تقطيعها” وهو ما أصاب العالم بصدمة كبيرة دفع إلى دخول الكثير من الكيانات الدولية والحقوقية على الخط.
وبعد تشكيك دام طويلا في رواية تقطيع الجثة هاهي النيابة العامة السعودية تعلن اليوم الخميس نتائج تحقيقاتها بشأن القضية، حيث أمرت بالإعدام لمن أمروا وشاركوا في عملية القتل، موجهة الاتهام إلى 11 شخصا في هذه القضية، فيما كشف وكيل النيابة العامة شلعان الشلعان في مؤتمر صحفي، أن الجناة، عمدوا إلى تقطيع جثة خاشقجي بعد مقتله، مناشدًا الجانب التركي بتزويده بما لديه من وثائق تخدم التحقيقات.
تفاعل دولي مع الجريمة والتشكيك في الرويات الرسمية السعودية
أمريكا.. تضارب أم استنزاف؟
يتميز الموقف الأمريكي على وجه الخصوص حيال تلك القضية بحالة من التضارب بين إدارة الرئيس دونالد ترامب والكيانات التشريعية، فكلما ضاقت دائرة الاتهام على ولي العهد السعودي، تعود لتتسع مرة أخرى بظهور تصريحات جديدة تنفي تورطه في القضية، لعل آخرها تلك التي أدلى بها مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون، الثلاثاء الماضي.
بولتون في محاولة للدفاع عن ابن سلمان قال: “من استمعوا لتسجيل مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول، في تركيا الشهر الماضي، وعلاقة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، قالوا إنه لا يتضمن ما يشير إلى علاقة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالحادثة”.
حرب غزة يمكن أن تحول أنظار ترامب بعيدًا وتركز اهتمام واشنطن على الدور الذي تلعبه المملكة في حماية المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية
لكن سرعان ما ردت عليه صحيفة “نيويورك تايمز” التي نقلت عن ثلاثة أشخاص قالت إنهم على صلة بالتحقيقات في القضية، أنّ العقيد السابق في الاستخبارات السعودية ماهر المِطرب، أحد منفّذي عملية الاغتيال، اتّصل هاتفيًا من إسطنبول بمساعدٍ لوليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، طالبًا منه إبلاغ “رئيسه” بأن المهمة أُنجزت.
ومع أن اسم ولي العهد لم يرد في التسجيل إلا أن الاستخبارات الأمريكية – وفق الصحيفة -، تعتقد بأنّ كلمة “رئيسك”، يُقصد بها ولي العهد، كما نقلت عن العميل السابق لدى جهاز “CIA” برس أو ريدل قوله إنه يعتبر هذه المكالمة دليلاً قويًا على تورط ابن سلمان في القضية وهو ما سيزيد من الضغط على البيت الأبيض لممارسة مزيد من الضغوطات على الرياض ودفعها لكشف ملابسات الجريمة وتقديم المسؤولين عنها إلى العدالة.
وفي الاتجاه ذاته كشف الخبير في الشؤون التركية محمد غياث سحلول أن التضارب فيما يدلي به ترامب ومن معه بالبيت الأبيض، إذ إنهم تارة يبرئون ابن سلمان وأخرى يتهمونه، يرجع إلى محاولة استنزاف المملكة ماديًا، قائلاً في تصريحات لـ”دويتشه فيله“: “الأوراق الرابحة تملكها تركيا ويحاول الأمريكيون نزعها منها، لكنهم لحد الآن لم ينجحوا إلا في استنزاف السعودية ماديًا”.
“Tell your boss" the mission is complete: Audio from Jamal Khashoggi’s killing is seen as strong evidence of a link to the Saudi crown prince. https://t.co/LIISFgLOsE
— New York Times World (@nytimesworld) November 13, 2018
الغرب يبحث فرض عقوبات
في مقال نشره ديفيد هيرست مدير تحرير ميدل إيست آي، كشف فيه محاولات ابن سلمان إشغال الرأي العام العالمي عن تورطه في القضية، وذلك عبر عدد من الإستراتيجيات وضعها فريق العمل الذي يتشكل من مسؤولين من داخل الديوان الملكي ووزارتي الخارجية والدفاع، ومن جهاز المخابرات، يقدم تقريرًا لولي العهد كل ست ساعات.
المقال تطرق إلى أن من ضمن الخطط الموضوعة لهذا الهدف محاولة ولي العهد إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبدء بصراع مع حماس في غزة – عملية خانيونس – كجزء من خطة لتحويل الأنظار بعيدًا عن قضية قتل خاشقجي، وأن حربًا كهذه يمكن أن تحول أنظار ترامب بعيدًا وتركز اهتمام واشنطن على الدور الذي تلعبه المملكة في حماية المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية، بحسب ما صرحت به مصادر داخل المملكة العربية السعودية للصحيفة.
تعرضت حكومات فرنسا وألمانيا إلى ضغوط داخلية وانتقادات حادة من جانب منظمات حقوقية بسبب مبيعات الأسلحة للسعودية، عزز من هذه الضغوط ما تم كشفه من أدلة جديدة بشأن مقتل خاشقجي
غير أنه من الواضح أن الأدلة التي تكشف تورط أعلى المستويات في السعودية في عملية القتل باتت واضحة ومتزايدة بشكل لا يمكن إنكارها، وهو ما أشار إليه جيف ستايسي المسؤول السابق في الخارجية الأمريكية، لافتًا إلى أنه في الأوساط التشريعية الداخلية تزداد درجة اليقين بتورط ابن سلمان في الجريمة وفق معلومات استخباراتية وصلت للمشرعين عن طريق جهات التحقيق التركية.
ستايسي وفي مداخلة له مع برنامج “الحصاد” المذاع على “الجزيرة” أمس، كشف أن الأدلة الجديدة أصابت ترامب بالصدمة، فالرجل لديه حسابات اقتصادية أخرى أفصح عنها قبل ذلك، لكن من المؤكد أنه سيكون هناك تباين في التعامل مع القضية مجددًا عقب فوز الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي الأخيرة.
واختتم المسؤول السابق في الخارجية الأمريكية حديثه بأن هناك ضغوطًا قوية داخل الأوساط السياسية في واشنطن ضد ترامب لاتخاذ موقف ضد الرياض، ليس بسبب قضية خاشقجي وفقط ولكن بسبب سياسات السعودية في اليمن وما تخلفه من كوارث إنسانية وغيرها، وتابع “يتعين علينا أن ننتظر لشهر يناير المقبل لنرى ماذا يمكن أن يقدمه الديمقراطيون في الكونغرس لدفع هذه القضية في مسار فرض عقوبات دولية ضد السعودية”.
أما رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي بوب كروكر، فكان الأكثر وضوحًا في مطالبه، إذ دعا وبشكل واضح إلى فرض عقوبات كبيرة على أعلى المستويات على الحكومة السعودية إذا كان خاشقجي ضحية قتل برعاية الدولة.
كروكر في تصريحات نقلتها شبكة “إن بي سي نيوز الأمريكية” قال: “غريزتي تقول إن الحكومة السعودية فعلت ذلك، غرائزي تقول إنها قتلته”، وتابع قائلاً “لا ينبغي أن تكون علاقة جاريد كوشنر المستشار في البيت مع الحكومة السعودية، عقبة أمام العواقب المحتملة”.
كما أضاف أن معاونيه طلبوا من وزيري الخارجية مايك بومبيو، والدفاع جيمس ماتيس، ومديرة وكالة المخابرات المركزية جينا هاسبل، القدوم إلى الكونغرس أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ، لتقديم إفادة سرية للتصدي للمخاوف المتعلقة باليمن ومقتل خاشقجي، ومن ثم فقد يصوت مجلس الشيوخ “قبل نهاية العام على تشريع ينص على وقف كل أشكال الدعم للسعودية في حرب اليمن”، هذا إضافة إلى احتمالية “التصويت على إجراءات لمنع مبيعات الأسلحة للرياض”، لافتًا إلى وجود رغبة لدى المشرعين الأمريكيين في إظهار ازدرائهم للسعودية، على خلفية الجريمة.
لم يكن كروكر وحده من طالب باتخاذ موقف متشدد ضد السعودية، إذ سبقه لذلك زميله الديمقراطي ديك ديربن في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين طالب بطرد السفير السعودي لدى الولايات المتحدة، فيما قال نظيره الجمهوري بيتر كينغ: “الحكومة السعودية هي أسوأ حكومة من الناحية الأخلاقية تعاملنا معها على الإطلاق”.
بدوره قال النائب الديمقراطي وعضو مجلس الشؤون الخارجية في مجلس النواب جيري كونولي: “إدارة ترامب تشجع ثقافة الإفلات من العقاب”، فيما ذكر موقع قناة “فوكس” أن براد شيرمان عضو مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي، بصدد عرض مشروع قانون خلال 10 أيام يستهدف وقف توريد السلاح إلى السعودية.
رغم أن تصريحات رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق لا تمثل الموقف الرسمي للمملكة غير أنها تعكس قلقًا داخليًا بشأن الولوج في هذا المستنقع الذي قد يقوض نظام آل سعود ويفقده الكثير من نفوذه وسمعته
أما صحيفة “واشنطن بوست” فقد دعت الإدارة الأمريكية إلى مطالبة السعودية بأجوبة واضحة وصريحة بشأن اختفاء خاشقجي وبذل مزيد من الجهود لكشف وقائع اختفائه، مطالبة الكونغرس بتعليق التعاون العسكري مع المملكة كخطوة أولى في حال عدم تعاون ولي العهد محمد بن سلمان.
أوروبيًا.. فقد دعا البرلمان الأوروبي أمس الأربعاء، لفرض المزيد من القيود على صادرات دول الاتحاد من الأسلحة إلى السعودية وفرض عقوبات على البلدان التي تستخف بقواعد الاتحاد في هذا الشأن، حيث قالت الألمانية عضو البرلمان زابينا لوزينغ، التي تقود جهودًا لمحاسبة حكومات أوروبية: “في اليمن، الأسلحة الأوروبية مسؤولة بشكل أساسي عن الحرب الدائرة”.
وقد تعرضت حكومات فرنسا وألمانيا إلى ضغوط داخلية وانتقادات حادة من جانب منظمات حقوقية بسبب مبيعات الأسلحة للسعودية، عزز من هذه الضغوط ما تم كشفه من أدلة جديدة بشأن مقتل خاشقجي التي صعدت من وتيرة الهجوم على حكومتي البلدين.
كان الناطق باسم الحكومة الألمانية شتيفان زايبرت، صرح بالأمس أن التبادل الاستخباراتي مع تركيا بشأن مقتل الصحفي السعودي أصبح بيد البرلمان (البوندستاغ)، وليس لأحد الحق في التعليق عليه سوى اللجان المختصة في المجلس، مشيرًا أن بلاده تدرس مع الشركاء الأوروبيين إيجاد موقف موحد تجاه حظر تصدير السلاح إلى السعودية.
ورغم أن دعوة البرلمان الأوروبي لفرض القيود على بيع الأسلحة للرياض غير ملزمة غير أن هذه هي المرة الثانية في أقل من شهر يسعى فيها عدد من النواب الأوروبيون إلى تبني قرار بفرض عقوبات على المملكة في أعقاب مقتل الصحفي السعودي وهو ما قد يؤخذ بعين الاعتبار في ظل تصاعد بورصة الانتقادات.
البرلمان الأوربي يقترح فرض حظر تسليح على السعودية
هل تقبل السعودية؟
لم يصدر رد فعل رسمي حتى الآن من السعودية بشأن الطلب التركي فتح تحقيق دولي خاص بالقضية، فيما قال رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل إن بلاده لن تقبل بإجراء تحقيق دولي، ملعنًا رفضها أي تدخل أجنبي، كما هو حال الكثير من الدول التي ترفض التدخل في الجرائم التي جرت على أراضيها أو ارتكبها مواطنوها، على حد قوله.
الفيصل وخلال ندوة بمعهد السلام الدولي في نيويورك الجمعة الماضية كشف أن أمريكا ذاتها رفضت التدخل في التحقيق في الانتهاكات بحق المعتقلين في سجن أبو غريب بالعراق، وعليه فإن المملكة لن تقبل التحقيق الدولي في قضية تمثل شأنًا سعوديًا، واصفًا النظام القضائي السعودي بأنه فعال وسليم، وأن التحقيق سيأخذ مجراه.
ورغم أن تصريحات رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق لا تمثل الموقف الرسمي للمملكة غير أنها تعكس قلقًا داخليًا بشأن الولوج في هذا المستنقع، الذي قد يقوض نظام آل سعود ويفقده الكثير من نفوذه وسمعته، محليًا ودوليًا، وهو ما ستسعى الرياض لتجنبه بشتى السبل مستخدمة في ذلك ما تمتلكه من مصادر للنفوذ، المالي والسياسي، وهو ما ستكشفه الأيام القادمة.