في الـ4 من أكتوبر عام 2017، اُستقبل الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز في موسكو بكثير من الاهتمام والإعلام، وسط توقعات كبيرة لصفقات سياسية وتجارية كبيرة، كانت الزيارة الأولى لملك سعودي إلى روسيا غنية بالمجاملات الدبلوماسية، لكنها افتقرت إلى الجوهر، فما تمخضت عنه أيام الاجتماعات الثلاث كان أكثر تواضعًا بكثير مما كان متوقعًا.
وقَّع البلدان عددًا قليلاً من الاتفاقيات، كان معظمها مذكرات تفاهم، وتفاوض الجانبان على صفقة أنظمة الدفاع الصاروخية “إس 400″، لم تر طريقها إلى النور حتى الآن، لكن على خلفية عقود أسلحة تبلغ قيمتها 15 مليار دولار، التي وافقت عليها الولايات المتحدة مؤخرًا للمملكة، تبدو اتفاقيات موسكو – الرياض متواضعة، فقد بدا الأمر كما لو أن الاجتماعات رفيعة المستوى في الكرملين فشلت في خلق مظهر من الاختراقات السياسية والاقتصادية في العلاقات.
لا يمكن اعتبار ذلك مفاجئًا على الإطلاق، فروسيا والسعودية كان لديهما فترة انقطاع امتدت على مدار 56 عامًا، أصبحت خلالها الولايات المتحدة الشريك المسيطر والراعي الأمني للرياض، وكان من الممكن أن تكون نتيجة زيارة الملك سلمان مختلفة جدًا، إذا لم يقتل ستالين السفير السوفيتي في السعودية قبل 80 عامًا، بعد جهود جعلت العلاقات الروسية السعودية في أوج ازدهارها.
السوفيت في أول لقاء مع آل سعود
كانت الرياض وموسكو تتمتعان بعلاقات دافئة بشكل ملحوظ في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وكان الاتحاد السوفييتي رائدًا دبلوماسيًا في المملكة العربية السعودية، في الواقع، كان أول دولة تعترف بعبد العزيز آل سعود (والد الملك سلمان) ملكًا للحجاز وسلطان نجد في فبراير 1926.
نظر الاتحاد السوفيتي إلى مملكة الحجاز التي كان حاكمها الشريف حسين يتحكم في مكة والمدينة كوسيلة للوصول إلى العالم الإسلامي كله
كان الهجوم السوفيتي في شبه الجزيرة العربية في عشرينيات القرن العشرين تتويجًا لمحاولات عديدة من موسكو لكسب موطئ قدم في المنطقة قبل ذلك، ففي مطلع القرن الماضي، بدأت السفن العسكرية الإمبراطورية الروسية في ارتياد الخليج، حيث زارت السفينة الحربية الكبيرة “فارياغ” (طراد للبحرية الإمبراطورية الروسية دخل الخدمة عام 1901) الكويت في ديسمبر عام 1901.
استقبل أمير الكويت مبارك الصباح قائد السفينة الشهيرة على الرغم من اتفاقه مع بريطانيا العظمى بعدم استقبال ضيوف عسكريين أجانب، وخلال هذه الزيارة، تم تقديم الروس لأول مرة إلى عبد الرحمن آل سعود الذي كان منفيًا في الكويت في ذلك الوقت، إلى جانب ابنه الأكبر عبد العزيز، الذي استعاد الرياض بعد عام من منافسيه آل الرشيد.
الملك عبد العزيز آل سعود عام 1930
وبينما كان آل سعود يسعون للحصول على دعم دولي، نظرت لندن إلى الشاب عبد العزيز بشيء من الشكوك، وكان ذلك سبب اتصاله بالقنصل الروسي في مدينة بوشهر الفارسية لدعوته للقيام بزيارة، وبالفعل، زار القنصل الكويت في عام 1903 رفقة سفينة عسكرية روسية، مما تسبب بغضب في لندن.
لم تكد الثورة البلشفية تنتهي حتى قررت موسكو التركيز بشكل جدي على الخليج، ورأى الاتحاد السوفيتي قيمة الوجود الدبلوماسي في المنطقة كوسيلة للوقوف في وجه بريطانيا، ونظر الاتحاد السوفيتي إلى مملكة الحجاز التي كان حاكمها الشريف حسين يتحكم في مكة والمدينة كوسيلة للوصول إلى العالم الإسلامي كله، وبسبب كونه على خلاف مع لندن، كان حسين يبحث عن حلفاء أجانب أقوياء، ولهذا السبب شارك ممثله في روما في المحادثات مع السوفيت.
رأى الاتحاد السوفيتي في توحيد العرب خطوة أولى نحو تمكين المسلمين في المنطقة وتقويض الحكم البريطاني عليهم
يكشف التواصل الدبلوماسي المكثف بين مفوض الشعب السوفيتي للشؤون الخارجية جورجي ألكسندروف تشيشيرين والدبلوماسيين السوفيت عن مدى أهمية رؤيته لشبه الجزيرة العربية ودورها في العالم الإسلامي، وتمثل ذلك في طلبه من “ديكتاتور” حكم الاتحاد السوفيتي آنذاك جوزيف ستالين بتعيين مسلم سوفيتي مبعوثًا إلى الحجاز.
وجاء في مذكراته إلى ستالين: “الدخول إلى مكة المكرمة له أهمية حاسمة بالنسبة لنا لأنه سيزيد من نفوذنا في الجزيرة العربية وخارجها”، واعترف تشيشيرين بأن الحج السنوي إلى مكة المكرمة، كان بمثابة فرصة مثالية للوصول إلى آلاف المسلمين من المستعمرات البريطانية والفرنسية وإثارة المشاعر المناهضة للاستعمار.
أول سفير في عهد ستالين إلى المملكة
في أغسطس 1924، وصل القنصل السوفيتي المسلم كريم حكيموف المعروف بـ”الباشا الأحمر” إلى جدة، كأول سفير للاتحاد السوفيتي إلى المملكة العربية السعودية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، بعد فترة وجيزة من وصوله إلى جدة، أطلق عبد العزيز حملته للسيطرة على الحجاز التي تركت الدبلوماسيين السوفيت الذين وصلوا حديثًا في معضلة لوقوفهم جنبًا إلى جنب مع الطرفين (عبد العزيز وحسين).
ألقت موسكو – عبر مسلميها السوفيت البالغ عددهم 30 مليون نسمة – بثقلها خلف الملك عبد العزيز، وقدمت له أصواتها لانتخابه رئيسًا للمؤتمر الإسلامي في مكة
أمر المفوض السوفيتي للشؤون الخارجية حكيموف بوضع نفسه كحليف لكل العرب دون إظهار تفضيله لأي من الطرفين، فقد رأى الاتحاد السوفيتي في توحيد العرب خطوة أولى نحو تمكين المسلمين في المنطقة وتقويض الحكم البريطاني عليهم، وكتب شيشيرين إلى حكيموف: “إذا اتبع ابن سعود سياسة توحيد العرب، فإن هذا سيكون في مصلحتنا، وعلينا أيضًا محاولة الاقتراب منه، كما فعلنا فيما يتعلق بحسين الذي حاول توحيد الجزيرة العربية”.
وبحلول ديسمبر/كانون الأول 1924، أخذ عبد العزيز مكة المكرمة، وكان حكيموف مقتنعًا بأن الوقت قد حان لتقديم نفسه لابن سعود، في نيسان/أبريل 1925، وعندما كانت جدة تحت الحصار، سُمح لحكيموف بأداء العمرة، وهي رحلة إلى مكة، حيث كان مقر ابن سعود، مما أتاح له فرصة مقابلته، وهو أمر لم يُسمح لأي دبلوماسي غربي غير مسلم بفعله، وتكشف رسائل حكيموف إلى موسكو أن لقاءه بعبد العزيز كان استثنائيًا، حتى إن فكرته عن الوساطة السوفيتية بين الحجاز ونجد كان يُنظر إليها بإيجابية من ابن سعود.
كريم حكيموف أول سفير للاتحاد السوفيتي في السعودية
وبحلول نهاية عام 1925، سيطر ابن سعود على جدة، وفي فبراير 1926 أعلن نفسه ملك الحجاز وسلطان نجد، وبمجرد أن علمت البعثة السوفيتية بالخبر، قام حكيموف بما جعله يحظى باحترام وصداقة ابن سعود، ففي 16 من فبراير من العام نفسه، قاد كريم حكيموف سيارته الشخصية التي تحمل العلم السوفيتي عبر الطلقات النارية من جدة إلى منزل ابن سعود في الصحراء لتسليم مذكرة رسمية تعترف بوضعه كملك.
جهود المبعوث “الستاليني”
كان الاتحاد السوفيتي أول دولة تعترف بلقب عبد العزيز الجديد، وتغنت الصحف السوفيتية بـ”السلطان الوهابي الشجاع الذي يقود حركة وطنية تحررية في الجزيرة العربية”، فرد الملك الجديد برسالة شكر فيها الاتحاد السوفيتي على حياده خلال الحرب مع حسين، وأعرب عن استعداده للعلاقات مع حكومة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ومواطنيها.
تحسنت العلاقات السوفيتية السعودية بشكل أكبر مع انعقاد المؤتمر الإسلامي في مكة في يونيو 1926، الذي كان هدفه حل النزاع بشأن مكة والمدينة، في ذلك الوقت، كان لسيطرة ابن سعود على هذه المشاهد المقدسة العديد من المعارضين من بين الأعيان الإسلامية، لهذا كان من الأهمية أن يكسب الملك اعترافًا في المؤتمر.
بعد أن أقام الاتحاد السوفيتي علاقات دبلوماسية كاملة مع الملك عبد العزيز، أرسل عام 1928 رئيس بعثة جديد إلى المملكة، وهو نزير بك تورياكولوف
أدرك الاتحاد السوفيتي هذا الأمر بما يتناقض مع أساسيات إيديولوجيته الشيوعية، فقد أرسل 6 علماء إسلاميين سوفيت للمشاركة في المؤتمر، وألقت موسكو – عبر مسلميها السوفيت البالغ عددهم 30 مليون نسمة – بثقلها خلف الملك عبد العزيز، وقدمت له أصواتها لانتخابه رئيسًا للمؤتمر.
ما هو أكثر من ذلك، ونتيجة لجهود حكيموف، اُنتخب مندوب سوفيتي كنائب لرئيس المؤتمر، وبعد أن أقام الاتحاد السوفيتي علاقات دبلوماسية كاملة مع الملك عبد العزيز، أرسل عام 1928 رئيس بعثة جديد إلى المملكة، وهو نزير بك تورياكولوف.
كان مصدر قلق لندن الرئيسي بشأن النفوذ السوفييتي في جدة هو أنها كانت تنشر الدعاية الشيوعية بين المسلمين خلال موسم الحج، وفي الواقع، كانت هذه إحدى الأفكار التي كانت لدى موسكو لدبلوماسييها في جدة، لكن في الحقيقة، كانت البعثة السوفيتية قد واجهت صعوبة في الوصول إلى كل من السكان المحليين والحجاج.
الملك فيصل خلال زيارته لموسكو عام 1932
وفي مواجهة الكثير من المقاومة، قرر الدبلوماسيون السوفيت التركيز على إنشاء روابط تجارية بين موانئ البحر الأسود السوفيتية والحجاز، ونجح حكيموف في إقناع الملك عبد العزيز برفع القيود المفروضة على السلع السوفيتية الموجودة في المملكة بسبب ضغوط لندن.
بين عامي 1929-1930، انهالت البضائع السوفيتية على المملكة عبر ميناء مدينة أوديسا الساحلية، وتمثل أكبر إنجاز للدبلوماسيين السوفيت في دخول سوق الكيروسين والبنزين التي كان يهيمن عليها البريطانيون بالكامل، كما أرسل الاتحاد السوفيتي مجموعة من الممرضات إلى المملكة لرعاية الحجاج في أثناء الحج.
الأمير فيصل في الاتحاد السوفيتي
نتيجة لجهود حكيموف في تطوير علاقاته مع ابن سعود، زار ابنه الأمير فيصل – الذي أصبح ملكًا عام 1969 – الاتحاد السوفييتي خلال رحلته الأوروبية الواسعة عام 1932، وحاولت موسكو خلال هذه الزيارة إقناع فيصل وحاشيته من خلال تعريفهم بإنجازات الصناعة السوفيتية، والتنازل عن الديون السعودية التي تراكمت في ذلك الوقت.
الأهم من ذلك، تمثل في تقديم مليون جنيه بريطاني في المساعدات المالية التي يحتاجها الملك عبد العزيز بشدة، وخلال زيارته لأذربيجان السوفيتية التي كانت تمر بطفرة نفطية خاصة، أُعجب الأمير فيصل بصناعة النفط في البلاد معربًا عن رغبته في توظيف نفس التكنولوجيا في المملكة.
مع تزايد قوة ستالين، أصبحت العلاقة بين النظام الشيوعي والإسلام غير مستقرة
كانت زيارة عام 1932 إلى الاتحاد السوفيتي من أهم مراحل أبرز العلاقات السعودية السوفيتية، حيث استخدم الملك عبد العزيز عرض موسكو بتقديم مساعدات مالية لدفع لندن لتقديم معونات أكبر، ولم يقبل عرض الاتحاد السوفيتي، من هذه النقطة، ظلت العلاقات بين الدولتين راكدة، ومع تزايد قوة جوزيف ستالين، أصبحت العلاقة بين النظام الشيوعي والإسلام غير مستقرة، ففي عام 1932، حظر الاتحاد السوفيتي بشكل غير رسمي على المسلمين أداء فريضة الحج.
واصل الممرضون السوفيت العمل في المملكة، واستمرت البعثة الدبلوماسية في نشر الدعاية السوفيتية بين السعوديين، وفي عام 1937، بقيت زوجة القنصل السوفيتي، وهي طبيبة، مع زوجة الأمير فيصل المفضلة لأشهر عديدة.
بعد قضاء بضع سنوات في اليمن وموسكو، عاد كريم حكيموف إلى جدة كرئيس للبعثة في عام 1935، على أمل تنشيط العلاقة التي توقفت عند غيابه تدريجيًا، حاول حكيموف التفاوض على عقود تجارية جديدة مع الملك، لكن موسكو لم تعد مهتمة.
وانتهت مهنة “حكيموف العرب”
في هذا التوقيت، وبينما كانت قوة هتلر تتزايد في أوروبا، كان ستالين متشككًا في جدوى وجود الاتحاد السوفيتي في الخليج منذ البداية، ولم يعد يرى في شراكة الملك عبد العزيز أي فائدة، في الواقع، كان إسقاط أي طموحات سياسية للخليج بمثابة إيماءة اعتقدت موسكو أنها ستساعدها في الشراكة مع إنجلترا التي سعى الاتحاد السوفييتي إلى دعمها ضد هتلر.
الملك عبد العزيز آل سعود مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزڤلت عام 1945
انتهت مهمة “الباشا الأحمر” الذي لقبه البعض بـ”حكيموف العرب” محاكاة مع “لورنس العرب” من حيث التأثير والمكانة لدى السلطان العربي، وذلك عندما سقط ضحية “الإرهاب السياسي” لستالين عام 1937، وفي سبتمبر من ذلك العام، وقال إنه استدعي إلى موسكو في زيارة روتينية إلى وزارة الخارجية، ولكن عند وصوله، ألقي القبض عليه للاشتباه في كونه جاسوسًا.
أُعدم حكيموف في يناير 1938، وأُعدم قبله زميله تورياكولوف الذي عمل معه في الملف السعودي في أكتوبر 1937، بينما كان الملك عبد العزيز غاضبًا من الأنباء التي تفيد بأن الدبلوماسيين السوفيتين الذين اعتبرهم أصدقاءه قد قُتلوا، وبعد شهرين من إعدام حكيموف في موسكو، اكتشف الجيولوجيون الأمريكيون أكبر رواسب للنفط الخام في العالم في الظهران.
دفع ذلك الاتحاد السوفيتي إلى تعيين رئيس جديد للبعثة في جدة في عام 1938، ومع ذلك، أسقط الملك عبدالعزيز هذا الأمر بقوله إنه “لا يرغب في رؤية أي شخص آخر غير حكيموف أو تورياكولوف في جدة”، واتهم موسكو بالتحريض على ثورة في العالم الإسلامي، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي.
لا تزال الجهود الدبلوماسية التي بذلها كريم حكيموف لإقامة علاقات قوية ودائمة بين موسكو والرياض لا نظير لها
في سبتمبر 1938، غادر جميع الدبلوماسيين السوفيت المتبقين جدة وأُغلقت المهمة، ومع القضاء على اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية كمنافس تولت بريطانيا والولايات المتحدة في وقت لاحق تنمية واستغلال النفط السعودي.
لم تُستعد العلاقات بين روسيا والسعودية بالكامل إلا عام 1992 بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، مر 26 عامًا منذ ذلك الحين، ولم تتعدَ العلاقات الروسية السعودية أكثر من زيارات رمزية متبادلة، بينما لا تزال الجهود الدبلوماسية التي بذلها كريم حكيموف لإقامة علاقات قوية ودائمة بين موسكو والرياض لا نظير لها.