لم يكن اختيار تركيا للصومال كي تكون مقرًا لإنشاء أكبر قاعدة عسكرية لها خارج البلاد مصادفة، نظرًا للأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها هذا البلد المهمش الذي يعاني من صراعات واضطرابات داخلية مستمرة فالصومال على سبيل المثال قريب جدًا من ممرات النفط الحيوية. وقد استثمرت تركيا قبل افتتاح قاعدتها العسكرية “العام الماضي” بذكاء شديد في هذا البلد ذو الموقع الحيوي، فالصوماليون لم ولن ينسوا مطلقًا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان الزعيم الوحيد من زعماء العالم الذي زار بلدهم عام 2011 في وقت امتنع فيه الأشقاء والجيران العرب عن زيارة البلد العربي إذ إن العاصمة مقديشو قبل 7 أعوام كانت تعد من أخطر المدن وأقلها أمنًا على مدى عقدين من الزمان.
مكانة عظيمة لتركيا عند الصوماليين
من النادر أن تجد مواطنًا صوماليًا لا يكن احترامًا لتركيا رئيسًا وشعبًا فيكفي أن تنطق اسم أردوغان لتلاحظ مشاعر الحب والتقدير عند الصومالين. لكن ثمة حديث متداول خلف الغرف المغلقة يشير إلى وجود توتر مكتوم أو على الأقل فتور في العلاقة بين الطرفين رغم تبادل الزيارات على مستوى عالٍ وإقامة تركيا مشاريع عملاقة في الصومال، ومن شواهد وجود التوتر أن تركيا لم تدعُ الرئيس الصومالي فرماجو لحضور افتتاح مطار إسطنبول الجديد الذي دعت له عدد من الرؤساء الأفارقة، إلى جانب تخفيض مستوى مشاركة تركيا في اجتماع مجموعة الاتصال التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي بعد أن كانت تسارع للمشاركة بقوة في أي فعالية صومالية.
فهل غضبت أنقرة من البيان الصومالي الداعم للسعودية بلا أدنى تحفظ في قضية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي ؟ أم أن تركيا لم تكن راضية كذلك عن انضمام الرئيس الصومالي محمد فرماجو إلى قافلة ما يسمى ب”القرن الإفريقي الجديد” الذي تروج له أبوظبي تارة والرياض تارة أخرى؟
تركيا خفضت حجم مساعداتها العسكرية لمقديشو
“نون بوست” استطلع رأي المدونة والناشطة الصومالية المعروفة هبة شوكري فأكدت وجود توتر مكتوم في العلاقات بين البلدين، مشيرةً إلى خفض تركيا حجم مساعداتها العسكرية للصومال هذا العام من 30 مليون دولار إلى 20 مليون فقط، ولفتت شوكري في حديثها الخاص مع “نون بوست” إلى أن تركيا ردّت مباشرة على البيان الصومالي الداعم للسعودية بتخفيض مشاركتها في اجتماع مجموعة الاتصال لمنظمة التعاون الإسلامي فلم يحضر وزير الخارجية التركي كما كان مقررا.
زاد التوتر بين مقديشو وأبوظبي في أبريل/ نيسان الماضي عندما ضبطت السلطات الأمنية في مطار العاصمة الصومالية طائرة إماراتية كانت تقل أموالًا مشبوهة تبلغ قيمتها 9.6 مليون دولار، فقد أدانت حينها أبوظبي مصادرة الأموال
واعتبرت هبة شوكري أن عدم دعوة تركيا للرئيس الصومالي كي يشارك في افتتاح مطار إسطنبول الجديد بمثابة “صفعة دبلوماسية”، وأوضحت أن هذه المواقف التركية الأخيرة ليس سببها البيان الصومالي المؤيد للسعودية في قضية المغدور خاشقجي فحسب، بل لتذبذب السياسة الخارجية الصومالية، ولفتت شوكري في حديثها ل”نون بوست” إلى أن لهجة الإعلام الإماراتي والسعودي في التعاطي مع الصومال تغيّرت بعد زيارة رئيس الوزراء حسن خيري إلى الأخيرة إلى الرياض.
إن التغيير الذي تشهده منطقة القرن الإفريقي لا يمكن أن يكون مصادفةً بل إن هناك استفهامات متعددة تحيط به، صحيح أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد تبنّى في خطاب التنصيب مطلع أبريل/ نيسان الماضي تحسين العلاقات مع إريتريا الجارة اللدود لإثيوبيا ولكن المحاولة اصطدمت في البداية بهجومٍ شنّه رئيس النظام الإريتري أسياس أفورقي على إثيوبيا والسودان حيث زعم أن الرئيس البشير وآبي أحمد اتفقا خلال زيارة للأخير إلى الخرطوم على توفير الدعم اللازم لما أسموه “المقاومة الإريترية” بكل الوسائل التي تمكنها من القيام بالمهام الموكلة إليها، من خلال السماح لها بالتنقل بحرية على طول الحدود المشتركة.
إلا إن ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد الذي تبني بلاده قاعدة عسكرية في ميناء عصب الإرتري سارع بدعوة أفورقي إلى الإمارات ويبدو أنه أغراه بالأموال مقابل تطبيع العلاقات مع إثيوبيا، كما عمد ابن زايد إلى زيارة أديس أبابا في خطوة غير متوقعة وأودع في بنكها المركزي 3 مليارات دولار من أجل دفعها للمصالحة مع الجارة وتقديم الإمارات في صورة البلد الصانع للسلام بعد أن لوثتها حرب اليمن وطردها من ميناء جيبوتي.
ويبدو أن المخطط لم يتوقف عند محطتي أسمرة وأديس أبابا، فقد احتضنت إريتريا قمة ثلاثية مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي ــ أي بعد شهرين من المصالحة الإثيوبية الإريترية ــ وبحسب ما هو متاح إعلاميًا فإن القمة خلصت إلى اتفاق قادة الصومال وإثيوبيا وإريتريا على بناء تعاون أوثق في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد، كما اتفق الزعماء على العمل لجعل منطقة القرن الإفريقي منطقة مستقرة ومزدهرة.
ظاهريًا، لم تحدث “حتى الآن” انفراجة في العلاقات بين الصومال والإمارات التي توترت إثر اعتراض مقديشو على اتفاقيةٍ وقعتها شركة موانئ دبي مع جمهورية أرض الصومال “غير معترف بها عالميًا”، حيث أرسلت الحكومة الصومالية مذكرة رسمية إلى جامعة الدول العربية اعتبرت فيها اتفاقية “ميناء بربرة” غير شرعية كونها مبرمة مع دولة لا وجود لها ولا سند قانوني لتنفيذها.
رغم عدم ظهور بوادر تحسن رسمي في العلاقات بين مقديشو وأبوظبي حتى الآن، فإن مراقبين صوماليين لاحظوا انحسار موجة الهجوم الإعلامي الذي كانت تشنّه منصّات أبوظبي على الرئيس الصومالي فرماجو عقب القمة الثلاثية الأخيرة التي استضافتها مدينة قوندر الإثيوبية الأسبوع الماضي.
وزاد التوتر بين مقديشو وأبوظبي في أبريل/ نيسان الماضي عندما ضبطت السلطات الأمنية في مطار العاصمة الصومالية طائرة إماراتية كانت تقل أموالًا مشبوهة تبلغ قيمتها 9.6 مليون دولار، فقد أدانت حينها أبوظبي مصادرة الأموال. كما أوقفت سلطات أمن مطار بوصاصو بإقليم “بونتلاند” شمال شرق الصومال، مسؤولين إماراتيين بصحبتهم أمتعة وصناديق عسكرية في المطار.
ورغم عدم ظهور بوادر تحسن رسمي في العلاقات بين مقديشو وأبوظبي حتى الآن كما قلنا، فإن مراقبين صوماليين لاحظوا انحسار موجة الهجوم الإعلامي الذي كانت تشنّه منصّات أبوظبي على الرئيس الصومالي فرماجو عقب القمة الثلاثية الأخيرة التي استضافتها مدينة قوندر الإثيوبية الأسبوع الماضي.
واستدلّت المدونة هبة شوكري في حديثها ل”نون بوست” بتقريرٍ لصحيفة العرب الممولة إماراتيًا جاء فيه أن “الصومال يندفع نحو الخروج من خطأ الاصطفافات الإقليمية منذ إثارة مقديشو للخلاف مع الإمارات، وأن الرئيس الصومالي يسعى لدى نظيره الإريتري لإخراجه من حالة العزلة من أجل أن تكون بلاده جزءا من تحولات واعدة ترعاها السعودية والإمارات وتساهم فيها مصر وسط ترحيب ودفع دوليين.”
وأضاف تقرير الصحيفة الإماراتية نقلًا عن من أسماهم محلليين دون أن يذكر من هم : “مقديشو التقطت بشكل سريع دينامية التقارب بين أديس أبابا وأسمرة وما حظيت به من دعم دولي واسع، للخروج من أزمتها والابتعاد عن سياسة الاصطفاف الإقليمية.”
ولكن بالعودة إلى أرشيف الصحيفة ذاتها نجد أنها عادت للهجوم على الصومال وفرماجو خلال سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/تشرين الأول عقب تقرير آخر واكب زيارة الرئيس الصومالي فرماجو إلى أسمرة “أغسطس/ آب”، اعتبرت فيه أن “فرماجو يسعى لدى نظيره الإريتري لإخراجه من حالة العزلة من أجل أن تكون بلاده جزءًا من تحولات واعدة ترعاها السعودية والإمارات”، ونسبت ذلك إلى مصادرها المجهولة تحت لافتة “متخصصون في شؤون القرن الإفريقي” لذلك يرجح أن ما تنشره الصحيفة حول اندفاع فرماجو لمصالحة الإمارات والاصطفاف وراء الترتيبات الجديدة ليس سوى أمنيات أو تخمينات على الأكثر.
الرئيس الصومالي فرماجو يدرك جيدًا مكانة تركيا في نفوس الشعب الصومالي لاهتمام الحكومة التركية بتنفيذ مشروعات إنسانية واقتصادية استفاد منها آلاف الصوماليين
بطبيعة الحال، هناك شيء ما غير واضح المعالم في اللقاءات المتكررة بين الزعماء الثلاثة وتجزم هبة شوكري لنون بوست، بوجود صفقة بين الدول الثلاث تسمح للصومال بالاستثمار في ميناء بربرة التابع لإقليم أرض الصومال الانفصالي، فضلًا عن وجود مناورة على بناء قاعدة عسكرية بحسب هبة التي لفتت إلى التعتيم الإعلامي من الدول الثلاث وعدم كشفها عن مخرجات اللقاءين.
لن يقطع الصومال علاقاته مع تركيا
الرئيس الصومالي فرماجو يدرك جيدًا مكانة تركيا في نفوس الشعب الصومالي لاهتمام الحكومة التركية بتنفيذ مشروعات إنسانية واقتصادية استفاد منها آلاف الصوماليين، هذا بخلاف المصالح المشتركة بين البلدين واختيار تركيا الصومال مقرًا لأكبر قاعدة عسكرية لها خارج البلاد كما افتتحت جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين الأتراك (موصياد) ممثلية لها في الصومال الشهر الماضي.
فضلًا عن زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي أكار الأسبوع الماضي إلى مقديشو التي استمرت يومين، في إطار جولة إفريقية شملت السودان وليبيا والصومال، وخلال زيارته إلى مقديشو حرص الوزير التركي على لقاء الرئيس الصومالي فرماجو وقدّم الأخير شكره إلى أنقرة لدورها في إعادة بناء القوات المسلحة الصومالية كي تتمكن من تولي المسئولية الأمنية في البلد المتوتر أمنيا.
ويبقى مستقبل العلاقات التركية الصومالية رهينًا بمدى موازنة الرئيس فرماجو على علاقات الصومال بين جيرانه الذين يشكلون ما يسمى “القرن الإفريقي الجديد” الذي تروج له أبوظبي من جانب، وبين المحور التركي القطري الذي يتمتع باحترام وتقدير الغالبية العظمى من الشعب الصومالي حيث تدير شركة تركية ميناء مقديشيو منذ عام 2014، بينما قامت شركات تركية أخرى ببناء طرق ومدارس ومستشفيات، فيما تعمل الإمارات على دعم حكومات الأقاليم الصومالية وتحريضها ضد الحكومة الفيدرالية في مقديشو في محاولة لحملها على اتخاذ خطوات مناهضة لقطر وتركيا.
ربما أخطأ الصومال في البيان الداعم للسعودية بلا حدود دون الإشارة إلى عمق العلاقات مع تركيا كما جاء في البيان السوداني الذي كان متوازنًا في البداية قبل أن يتحول إلى تبني الرواية السعودية ولكن على الأقل حمل موقف الخرطوم بعض التقدير لتركيا. والأيام القادمة ستوضح إن كانت حكومة فرماجو ستحافظ على علاقاتها مع تركيا أم ستنقلب كليًا لصالح ترتيبات القرن الإفريقي الجديد حيث من المقرر أن تستضيف العاصمة الصومالية مقديشو القمة الثلاثية القادمة بين فرماجو وأفورقي وآبي أحمد.