إذا كنتَ من محبّي الاستماع للموسيقى والأغاني، فأنتَ تعي ضمنيًّا أنّ سماعك لقطعة ما للمرة العاشرة ليس تمامًا كمثل سماعك لها للمرة الأولى، أليس كذلك؟ تذكّر آخر أغنية جديدة سمعتها، واسأل نفسك كيف اختلف سماعك إياها مع الوقت. أو حتى اسأل نفسك عن السبب الذي يدفعك لسماع أغنيةٍ ما لعشرات المرات بالرغم من أنها لا تعدو عن كونها تكرارًا لكلماتٍ معيّنة أو ألحان بذاتِها.
لنأخذ الموضوع من زاويةٍ أخرى، لا بدّ وأنكَ تعرّضت لأغنية بغضتها بالبداية، ثمّ ما لبثتَ مع الوقت حتى أحببتها وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من قائمتك الموسيقية اليومية أو شبه اليومية. فما الذي حصل معك؟ هل تغيّرت ذائقتك الموسيقية أم أنّ فعل التكرار البسيط هذا يمكن له أن يعمل كعاملٍ سحريّ في تفضيلك الموسيقيّ؟
شغل موضوع الموسيقى بهذه الأسئلة العديدة وغيرها الكثير، عالمة النفس الأمريكية “إليزابيث مارغوليس” لسنواتٍ عديدة، فقامت بالعديد من الأبحاث في مختبرها في جامعة أركنساس، قبل أنْ تصدرَ كتابيها الاثنين، “سيكولوجية الموسيقى” و”في التكرار: كيف تلعب الموسيقى بالعقل“، وهو ما سنلجأ إليه في محاولتنا للعثور على بعض الإجابات الممكنة للأسباب التي تدفعنا لحبّ الكلمات والألحان المكرّرة في الموسيقى والأغاني التي نسمعها.
أغلبية المشاركين بدراسة “مارغوليس” أبدوا إعجابهم بالمعزوفة المعدّلة والمكرّرة أكثر من إعجابهم بالمعزوفة الأصلية
في بداية أبحاثها، قررت مارغوليس إجراء العديد من التعديلات على مؤلفات الملحّن الإيطالي الشهير “لوتشيانو بيريو”، والمعروف عنه بكرهه للتكرار ونفوره منه. إذ قامت بتحميل إحدى أشهر مقطوعاته الموسيقية ومن ثمّ التعديل عليها والتغيير فيها من خلال نسخ ولصق عدة فواصل زمنية فيها. أمّا الفكرة من وراء هذا التعديل فكانت واضحة: هل سيحبّ الناس موسيقى بيريو بعد تعريضها للتكرار أم سينفرون منها؟
وعلى عكس ما قد يعتقد الكثيرون وتمامًا كما اعتقدت مارغوليس، فأغلبية المشاركين بالدراسة أبدوا إعجابهم بالمعزوفة المعدّلة والمكرّرة أكثر من إعجابهم بالمعزوفة الأصلية التي كتبها مؤلّفها أساسًا بهدف إبعاد موسيقى القرن العشرين عن حالة التكرار التي تغلب على كافّة الأغاني والمقطوعات. فما السبب وراء ذلك؟
التكرار يحكم عقولنا
يمكننا الإجابة ببساطة شديدة على السؤال. نميل كبشرٍ في شتّى جوانب حياتنا إلى الشعور بالأُلفة مع الأشياء المكرّرة، في حين أنّنا نخشى الأشياء الجديدة من حولنا، وبمجرّد تعرّضنا لها فإنّ شعور الخوف أو الخشية منها يختفي شيئًا فشيئًا. وهذه ظاهرة نفسية يُطلق عليها في علم النفس الاجتماعي بمصطلحيْ “تأثير التعرّض المجرّد Mere-exposure effect” أو “مبدأ الألفة”. ولا تقتصر فقط على الموسيقى والأغاني، فهي تحكم تعاملنا مع الكثير من الأشياء، بما في ذلك الأشخاص والوجوه والأشكال الهندسية والظواهر البيئية والكلمات والقصص، وغيرها الكثير.
ننجذب إلى الأشياء المألوفة من حولنا لأننا نعتبرها آمنة ومن غير المحتمل أنْ تتسبّب أو تعرّضنا لخطرٍ ما أو أيّ شعورٍ غير مريح آخر
يمكن تفسير “تأثير التعرّض” أيضًا استنادًا إلى “نظرية العامل المزدوج two-factor theory” التي تفترض أن التعرض المتكرر لمحفّز ما يزيد من السلاسة الإدراكية له، أي السهولة التي يمكن من خلالها معالجة الحافز في الدماغ واسترجاعه من خلال الذاكرة لاحقًا، الأمر الذي يؤدّي بدوره إلى زيادة التأثير الإيجابيّ لذلك الحافز. فكّر في الإعلانات والدعايات المكرّرة، الانتخابية على سبيل المثال، وانظر إلى قوّة التكرار التي تحملها والآثار التي ترسّخها في عقول الأفراد. وبكلماتٍ أخرى، نحن ننجذب إلى الأشياء المألوفة من حولنا لأننا نعتبرها آمنة ومن غير المحتمل أنْ تتسبّب أو تعرّضنا لخطرٍ ما أو أيّ شعورٍ غير مريح آخر.
لماذا نحبّ التكرار في الموسيقى؟ – إليزابيث مارغوليس
الكلمات ليست مهمّة.. لماذا نُعجب بأغنيةٍ أجنبية؟
فكّر بالأمر من هذه الناحية. أنتَ لا تحبّ الاستماع للأغاني بغير اللغة التي تتحدّث بها. لكنّ أغنيةً أجنبية ما، إسبانية أو إيطالية على سبيل المثال، تصبح جزءًا من “الترند” خلال فترةٍ قصيرةٍ جدًا، بحيث أنّك قد تسمعها في اليوم مرة أو اثنتين لمجرّد ذهابك للسوق أو العمل أو مطعمٍ ما. قد تنفر منها بالبداية، خاصّة وأنّ ثمّة هوسٌ شديد غير قابل للتفسير بها. فلا كلماتها مفهومة ولا ألحانها قريبة ممّا ألفناه وتعوّدنا عليه. فجأة، تجد نفسك مرتاحًا لها، تدندن ألحانها التي قد تعلق في لا وعيك يومًا بأكمله، وربما أكثر. فما الذي يحدث هنا؟
مجدّدًا، أن تكون تلك الأغاني جزءًا من التريند يعني تعرّضنا لها بشكلٍ كبير في أماكن وأوقات كثيرة. وكما قُلنا، عقولنا تتعامل مع الأشياء المألوفة والمكرّرة بشكلٍ مختلف. فحين سماعك للأغنية للمرة الأولى، سينشغل عقلك بمحاولة معالجة محتواها الأساسي، اللفظي أو اللحني. ولكن مع التكرار، ننتقل من الشكل الخارجيّ للأغنية لنغوص في أعماقها بعيدًا عن محاولة معالجة كلماتها وفهمها واستيعابها.
يدعم علماء الأنثروبولوجيا فكرة التكرار جيّدًا. فالطقوس الأولى التي عرفها الإنسان اعتمدت على تسلسلات نمطية من الأفعال اعتمدت على قوّة التكرار لتركيز العقل على الحواس المباشِرة بدلًا من التفاصيل الأكثر شموليةً واتساعًا. وبالنظر إلى ذلك، ليس من المستغرب أبدًا أنّ العديد من الطقوس تعتمد في الواقع على الموسيقى، والتي عادةً ما تكون مكرّرة بشكلٍ كبيرٍ للغاية.
هل يمكن أنْ تحبّ أغنية لمجرّد تكرار سماعها؟
يعدّ هذا السؤال دارجًا للغاية. فكما أسلفنا سابقًا، الكثير من الأغاني والمعزوفات تصبح جزءًا كبيرًا من التريند بحيث لا يمكننا تجاوز سماعها أو تجنّبه. وعلى الرغم من أنّنا قد لا نُبدي أيّ إعجابٍ بها، إلّا أنّنا قد نعتاد عليها أو نتعلّق بها بشكلٍ لا واعٍ ولا شعوريّ للغاية. فكيف يمكن تفسير الفرق بين اعتيادك عليها وبين حبّك لها.
التكرار المتعارض مع تفضيلاتنا الموسيقية يعمل أيضًا بشكلٍ قويّ في التأثير على أدمغتنا. وهذا ما يفسّر لنا سبب غنائنا للحنٍ نكرهه أو لأغنية تنتمي لنوعٍ أو صنفٍ موسيقيٍّ لا نحبّه
وللإجابة على هذا، يخبرنا الباحث النفسيّ كارلوس بيريرا أنّ أدمغتنا تظهر نشاطًا أكبر في المناطق العاطفية عندما تكون الموسيقى التي نستمع إليها مألوفة، بغض النظر عما إذا كنا نحبها أم لا. ففي الدراسة التي أجراها مع زملائه في جامعة هلسنكي، تبيّن أنّ الأُلفة تشكّل عاملًا حاسمًا في جعل المستمعين مشغولين عاطفيًا بالموسيقى، وهو ما ظهر في بيانات الرنين المغناطيسيّ لأدمغة المشاركين بالدراسة.
وبالتالي، يمكننا القول أنّ التكرار المتعارض مع تفضيلاتنا الموسيقية يعمل أيضًا بشكلٍ قويّ في التأثير على أدمغتنا. وهذا ما يفسّر لنا سبب غنائنا للحنٍ نكرهه أو لأغنية تنتمي لنوعٍ أو صنفٍ موسيقيٍّ لا نحبّه. وبالتالي، في المرة القادمة التي تعلق كلمات أغنية لا تحبّها ولا تستسيغ كلماتها أو لحنها في ذهنط، كما حدث معي في ديسباسيتو أو غيرها من الأغاني على سبيل المثال، لا تستغرب أبدًا من السبب الذي يدفعكَ لغنائها مرارًا وتكرارًا دون وعيٍ منكَ أو رغبة.