في عام 2009 ظهر رئيس حزب الحقوق والمساواة التركي المتقاعد، اللواء عثمان باموق أوغلو، والكاتب الصحفي ألتان تان في مقابلة تلفزيونية مباشرة على الهواء، وأثناء اللقاء قال الأول للأخير بأن “أتاتورك (مؤسس الجمهورية التركية) ليس إلهًا محصنًا”، فرد عليه الثاني مغتاظًا ومهددًا “سأحرق لسانك”، ليتوقف حينها بث البرنامج بعد أن احتدت المشادة الكلامية بين الطرفين.
أمرٌ شبيه تكرر منذ أيام قليلة، فخلال مراسم الاحتفال بذكرى وفاة أتاتورك في مدينة إدرينا غرب تركيا، صرخت الطالبة أمينة شاهين أثناء مرورها في المنطقة قائلة: “أتاتورك ليس إلهًا”، فتم اجترارها إلى مركز الشرطة واعتقالها بتهمة الإهانة العامة لذكرى أتاتورك، ما أدى إلى حدوث ردود فعل قوية على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تصدر وسم/هاشتاج “#atatürkilahdegildir على موقع تويتر رفضًا للإهانة التي تعرضت لها شاهين، بحسب وصف رواد الهاشتاج.
تثير هذه الحوادث المتتالية والمنتشرة في أكثر من منطقة في العالم تساؤلات عن الأسباب التي تدفع الشعوب والأفراد إلى تشبيه الشخصيات العامة – خاصةً السياسية والدينية- بالآلهة والتعامل معهم على أنهم أبطالًا أو نماذجًا مثالية أقرب إلى الكمال والعظمة.
متى أصبح الحاكم إلهًا؟
بحسب الوثائق التاريخية، بدأت هذه الظاهرة مع تأسس النظام الملكي في الحضارة السومرية القديمة، إذ تشير السجلات السومرية إلى أن الأنظمة الحاكمة تستمد سلطتها وعقيدتها السياسية من الله، وتبعًا لهذا الادعاء باتت الشعوب تنظر إلى الحكام بعين التبجيل والتعظيم، حيث يمكننا تتبع آثار هذه الاعتقادات في كيانات مختلفة حول العالم مثل أنظمة الأباطرة في اليابان أو الملوك في أوروبا والفراعنة في مصر القديمة.
فلم يكن هناك بديل أفضل من هذه الحجة لإقناع الشعوب بسياسات وإجراءات الحكام، وترويضهم على الطاعة والتبعية والخضوع للسلطة. لكن بالرغم من زوال هذه الاعتقادات -إلى حد ما- في عصرنا الحالي، إلا أن بعض المجتمعات لا تزال تحاول إلصاق صفة الألوهية برجال الدين والسياسة، وقد يمتدّ الأمر حتى بعض المشاهير في عالم الفن والتمثيل والموسيقى.
مقال بعنوان “أتاتورك نصف إله” في صحيفة “جمهورييت” التركية
يمكن تفسير الظاهرة استنادًا للعديد من العوامل الثقافية والنفسية. فبالنسبة إلى الحالة التركية، لقد اعتاد الشارع التركي لسنواتٍ طويلة على قراءة المقالات وسماع التصريحات التي تمدح بطولات أتاتورك وأفعاله، مثلما فعلت جريدة “جمهورييت” التركية التي نشرت في عام 1935 مقالًا بعنوان “أتاتورك نصف إله”، وغيرها من المنابر الثقافية التي عززت هذه الصورة تباعًا.
يضاف إلى ذلك بعض الشعراء الذين أصبحت أشعارهم وعباراتهم تتردد في المدارس التركية كنوع من الإجلال والتفخيم مثل “يا أتاتورك العظيم الذي قدم لنا هذا اليوم، سوف أسير في طريقك بلا هوادة” ووصفه بأنه “الشمس التي تنور الأمة”، و “الإله الذي دخل إلى سامسون”، وهي المدينة التي أعلن منها أتاتورك حرب الاستقلال التركية، ما أدى تدريجيًا ودون وعي إلى خلق حالة من القبول الاجتماعي لصورة أتاتورك “البطل الخارق” أو “الإله”، وبالمقابل تمّ تغييب جانبه الإنساني بشكلٍ واضح وصريح.
يحتاج الناس ولا سيما الذين يعيشون في مناطق الأزمات إلى قائد ينظر إليه على أنه منقذ وملهم لهم. فلا شك أن “البطل الخارق” لا يظهر سوى في الأوقات الصعبة وهذا ما ينطبق على أتاتورك
ففي عام 2008، نُشر فيلم وثائقي باسم “أتاتورك” يتحدث عن حياته الشخصية ويركز على جانبه الإنساني وبعض من خصاله التي لم تظهر يومًا للعلن مثل الغضب وجنون العظمة والأنانية، وقد سبّب هذا الفيلم صدمة لأتباع أتاتورك، فانهالت الانتقادات على مخرجه، لدرجة أنّ العديد من أصوات الحزب الشعبي الجمهوريّ خرجت داعيةً بعدم مشاهدته، خاصة الأطفال كيْ لا تتشوّه صورة أتاتورك في أذهانهم وعقلهم الجمعيّ.
تفسر لنا عائشة أوزجان في صحيفة “حرييت دايلي نيوز” التركية عن سبب تأليه الكماليين لأتاتورك، فتقول: “يمثل أتاتورك القوة الروحانية للشعب التركي، فهو مصدر إلهام وطاقة”، بعبارة أخرى، يحتاج الناس ولا سيما الذين يعيشون في مناطق الأزمات إلى قائد ينظر إليه على أنه منقذ وملهم لهم. فلا شك أن “البطل الخارق” لا يظهر سوى في الأزمات وهذا ما ينطبق على الزمان والمكان الذي ظهر فيه أتاتورك حينما منح الشعب التركي استقلاله واستقراره وخلصه من أخطاء الدولة العثمانية التي خيبت ظنه في الفترة الأخيرة. وشيئًا فشيئًا، بات أتاتورك الشخص الأمثل لتقمص صورة الإله.
يمكن تفسير الظاهرة من حاجة الافراد للكمال الذي يرونه في الشخصيات التي يبجلونها، لاعتقادهم أن تلك الشخصية أو غيرها قادرة على فعل أو الإتيان بما لا يستطيعون الإتيان به بأنفسهم
سيكولوجيًا، يمكن تفسير الظاهرة من حاجة الافراد للكمال الذي يرونه في الشخصيات التي يبجلونها، لاعتقادهم أن تلك الشخصية أو غيرها قادرة على فعل أو الإتيان بما لا يستطيعون الإتيان به بأنفسهم، ويتجلى الأمر أكثر في أوقات الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا يذكرنا بما قاله فولتير، أحد أهم منظري الثورة الفرنسية وفلاسفتها بأنه “لو لم يكن الله موجودًا لاخترعناه”.