كيف ستنجو إيران من أقصى العقوبات في تاريخها؟

لم يعد أمام الجمهورية الإسلامية خيار سوى اللجوء إلى المقاومة، في ظل إصرار إدارة ترامب على تضييق الخناق عليها.
بالتزامن مع انطلاق الجولة الأخيرة من العقوبات الأميركية، تواجه إيران احتمال تعرضها لحصار اقتصادي خطير في المستقبل، على الأقل إلى حين انتهاء الفترة الرئاسية لدونالد ترامب في كانون الأول/يناير سنة 2021. وفي اليوم الذي أعيد فيه فرض العقوبات، صرح الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في تحدٍ واضح أنه يتعهد “بخرقها” ومواصلة بيع النفط في الأسواق الدولية.
من جهتها، تؤكد واشنطن على مدى تصميمها على فرض “أشد العقوبات على الإطلاق” على الجمهورية الإسلامية، من خلال تهديداتها بخفض صادرات النفط الإيرانية إلى حدود الصفر. وقد نجحت الولايات المتحدة في فرض حصار اقتصادي على إيران حتى الآن. وفي حال تمكنت من تخفيض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر، فقد تواجه الجمهورية الإسلامية آنذاك أزمة اقتصادية مدمرة وذات تداعيات اجتماعية وسياسية.
تحدي الحصار
تتمتع إيران بالروح والخبرة لتحدي الحصار، بفضل صراعها المتواصل على امتداد عقود مع العقوبات الأمريكية والعالمية واسعة النطاق. ويتمثل الخطر الأكبر على إيران في التصعيد الذي قد تواجهه من قبل جبهات أخرى، على ضوء إعلان الولايات المتحدة عن قرارها بالحد من النفوذ الإيراني في المنطقة بأكملها. وستكون الجمهورية الإسلامية أقل قدرة على مقاومة رغبتها في مواجهة مضطهديها بشكل مباشر، في ظل تعرضها المتواصل للضغوط من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين.
في حال استمرت إيران في بيع النفط في الأسواق الدولية بمستويات مقبولة، فإنها لا تزال تواجه التحدي الأكبر والمتمثل في تلقي الأموال وتحويلها
في الأثناء، تتساءل المنظمات الإعلامية الدولية بصوت عالٍ عن مدى “قسوة” العقوبات الأخيرة، على إثر البيان الشبيه بخطابات الحرب الذي صرحت به إدارة ترامب. وتتمثل الإجابة المختصرة عن هذا التساؤل في أن هذه العقوبات لم يسبق لها مثيل بالفعل من حيث تأثيراتها. وإلى جانب قطاعات النفط والتمويل والنقل المتعثرة، تستهدف العقوبات أيضا وبشكل مباشر ما يقرب من 700 شخص وكيان إيراني ممن لعبوا أدوارا حاسمة في قلب موازين جولات العقوبات السابقة.
أناس يمرون أمام متجر صرف للعملات في طهران في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2018.
كانت إدارة باراك أوباما قد فرضت الجولة الأخيرة من العقوبات الأمريكية أحادية الجانب في كانون الثاني/يناير سنة 2012، التي كانت تتماشى مع عقوبات متعددة الأطراف وأوسع نطاقاً ورسوخا في قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والتي ركزت على جوانب البرنامج النووي الإيراني الأكثر إثارة للجدل، وخاصة تخصيب اليورانيوم. وتُعرف العقوبات الأمريكية الأخيرة بكونها أحادية الجانب، كما أنها لا تخضع حتى لموافقة حلفاء واشنطن الغربيين، بما في ذلك بريطانيا، ناهيك عن المجتمع الدولي الأوسع.
“الناقلات الأشباح”
أكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، على القلق الدولي الواسع بشأن الخطط والنوايا الأمريكية، وسارع لإدانة العقوبات ووصفها بأنها “غير شرعية بتاتا” ومخيبة للآمال للغاية. ونظرا لتاريخ العقوبات الممتدة على مدى أربعة عقود، تمتلك إيران خبرة واسعة في التحايل على هذه العقوبات من خلال استغلال الثغرات وخلق مساحة كبيرة للمناورة. وبالفعل، هناك تقارير تفيد بأن إيران تستخدم “الناقلات الأشباح” لتصدير النفط إلى العملاء. ومن المرجح أن تتعزز هذه الجهود مع انتهاء مهلة “الإعفاءات” المؤقتة التي منحتها إدارة ترامب لثمانية بلدان، على غرار الصين وكوريا الجنوبية والهند واليابان، في غضون 180 يوما.
لكن، حتى في حال استمرت إيران في بيع النفط في الأسواق الدولية بمستويات مقبولة، فإنها لا تزال تواجه التحدي الأكبر والمتمثل في تلقي الأموال وتحويلها. كما تمارس الولايات المتحدة ضغوطا كبيرة على نظام المدفوعات العالمي “سويفت” في بلجيكا لوقف جميع المعاملات المتعلقة بالعقوبات مع الكيانات المالية الإيرانية. وتتجسد أحدث العلامات الدالة على أن الشركات الدولية الكبرى والمؤسسات المالية تستجيب لتحذيرات واشنطن، في المزاعم التي تفيد بأن “سويفت” قامت في الوقت الراهن بوقف معاملاتها مع البنك المركزي الإيراني، وهو ما يُصعّب على إيران تسوية فواتير الاستيراد والتصدير.
مثلما اكتسبت إيران خبرة وتجربة في الالتفاف حول العقوبات، اكتسبت الولايات المتحدة على حد السواء معرفة بالأساليب الإيرانية المستخدمة لمواجهة العقوبات
في الواقع، لا يمكن لإيران أن تعتمد بشكل دائم على القوى الأوروبية لتقدم لها يد المساعدة في مواجهة الضغوط الأمريكية المتواصلة. وقد التزم الأوروبيون، ولا سيما البلدان التي وقعت على الاتفاق النووي سنة 2015، بإنشاء برنامج مالي بديل يسمى كيانا لأغراض محددة “أس بي في”، من أجل تفادي العقوبات الأمريكية. لكن في ظل الصعوبات والحساسيات المحيطة بالقضية، كان رد فعل الاتحاد الأوروبي بطيئا، ولم يتطوع أي بلد لإدارة هذا البرنامج. ويوم الثلاثاء، ذكرت وكالة “رويترز” أن المبادرة الخاصة بالاتحاد الأوروبي من أجل حماية التجارة الإيرانية ضد العقوبات الأمريكية التي أُعيد فرضها حديثا تواجه انهيارا محتملا، مع عدم استعداد أي دولة أوروبية لاحتواء البرنامج خوفا من العقوبات الأمريكية.
أساليب مقاومة العقوبات
تواجه إيران تحد ثان يتمثل في البعد “الذكي” الذي يتخذه نظام العقوبات الأخير. ومثلما اكتسبت إيران خبرة وتجربة في الالتفاف حول العقوبات، اكتسبت الولايات المتحدة على حد السواء معرفة بالأساليب الإيرانية المستخدمة لمواجهة العقوبات. وتتمثل الأطراف الفاعلة، في استراتيجيات المقاومة، في الأفراد والكيانات الخاضعة لهذه العقوبات التي يبلغ عددها 700. بالإضافة إلى ذلك، استهدفت الولايات المتحدة، في السنوات الأخيرة، أهم الأطراف الفاعلة في الشبكات الدولية الإيرانية المخالفة للعقوبات، بشكل منتظم.
سائقون إيرانيون يملئون خزان الوقود في سياراتهم في محطة بنزين بطهران في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2018.
ستحاول إيران استبدال هؤلاء الأفراد ذوي المكانة الهامة، لا سيما رجل الأعمال التركي الإيراني، رضا ضراب، الذي كان يقدم معلومات حيوية للمدعين العامين الأمريكيين حول الجهود الإيرانية لخرق العقوبات والأنشطة ذات الصلة. ويتمثل أحد الأهداف الرئيسية للعقوبات الأمريكية في تأجيج الاحتجاجات والاضطرابات داخل إيران، بهدف تغيير السياسة الخارجية للبلاد. أما الهدف النهائي فيتمثل في تسهيل عملية سقوط الجمهورية الإسلامية. وعلى الرغم من أن الرئيس الإيراني، حسن روحاني، يستخدم لهجة تحدٍ فيما يتعلق بتأثير هذه العقوبات، إلا أن التجربة التي خاضتها البلاد خلال الأشهر الستة الماضية وحدها تشير إلى أنه لا يمكن استبعاد مواجهة البلاد لاضطرابات اقتصادية كبرى ذات عواقب اقتصادية وسياسية.
انعدام استقرار اجتماعي
بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي في مطلع آيار/ مايو الماضي، شهدت العملة الإيرانية هبوطا في قيمتها، بالإضافة إلى ارتفاع في أسعار الذهب. وقد أثر ذلك على جوانب عديدة من الاقتصاد الإيراني، مما انجر عنه تبعات سلبية على ملايين الأشخاص وفي جميع أنحاء البلاد. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات التي تلت هذه الخطوة كان نطاقها محدودا، إلا أن الخطر سيظهر عندما تعصف هذه العقوبات بالبلد، خاصة وأن عامة الشعب هم الأكثر تضررا منها، والتي يمكن أن ينتج عنها اضطرابات اجتماعية أعمق.
في الوقت الحاضر، لا تواجه الحكومة الإيرانية خطرا داهما. كما أن كفاءة قواتها الأمنية تعني أن الاحتجاجات يتم احتوائها قبل أن تتاح لها الفرصة للتوسع. علاوة على ذلك، فإن غياب منصة معارضة ذات مصداقية داخل البلاد يجعل الاستفادة من هذه الاحتجاجات العشوائية أمرا مستحيلا. وبغض النظر عن هدفها الأبعد المتمثل في الإطاحة بالحكومة الإيرانية، تسعى إدارة ترامب إلى تحقيق ثلاثة أهداف منفصلة كجزء من استراتيجية العقوبات التي تفرضها على إيران.
يرتبط التحدي الذي تواجهه إيران بالحفاظ على مكانتها الإقليمية الحالية واحتواء نظام العقوبات في الوقت ذاته
في المقام الأول، تريد الولايات المتحدة من إيران التوقيع على اتفاق نووي جديد من شأنه أن يضمن تعطيل برنامج إيران النووي إلى الأبد. أما ثانيا، فتسعى الولايات المتحدة إلى فرض قيود على برنامج الصواريخ البالستية الإيرانية، وبالتالي، القضاء على أكثر وسائل الردع الإيرانية فعالية. ويتمثل هدف الولايات المتحدة الثالث في تغيير السلوك الإقليمي لإيران، بهدف تقليص نفوذ الجمهورية الإسلامية الكبير في الشرق الأوسط.
التحريض على المواجهة
تم تحديد هذه الأهداف كجزء من القائمة، التي تضم 12 طلبا، والمقدمة من قبل وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، لإيران خلال شهر آيار/مايو. وقد تم تفسير الطبيعة القمعية لهذه القائمة، التي كانت بمثابة دعوة لاستسلام إيران، في طهران على أنها علامة على عدم احترام واشنطن لالتزاماتها تجاه إيران. بعبارة أخرى، تهدف عملية إعادة فرض العقوبات على إيران إلى التحريض على المواجهة أكثر من كونها تهدف إلى تهيئة الظروف لجولة جديدة من المحادثات الثنائية. في ضوء هذا الواقع القاسي، ستواصل إيران رفض العروض الزائفة وغير الصادقة للمحادثات والمشاركات.
يرتبط التحدي الذي تواجهه إيران بالحفاظ على مكانتها الإقليمية الحالية واحتواء نظام العقوبات في الوقت ذاته. كما تعد عملية تحقيق التوازن أمرا صعبا مما يجعلها قابلة للتقويض باستمرار، لا سيما في حالة الصراعات الداخلية أو الأعمال الاستفزازية التي يقوم بها حلفاء واشنطن، خاصة المملكة العربية السعودية وإسرائيل. أما فيما يتعلق بقدرة الولايات المتحدة الأمريكية على إجبار إيران على الاستسلام، فتكمن الإجابة في ثقافة المقاومة والتحدي التي تنتهجها الجمهورية الإسلامية. ومع تصاعد وتيرة الضغط، ستقوم الجمهورية الإسلامية بتعبئة كل مواردها المادية والإيديولوجية، ليس فقط من أجل الاستمرار والمحافظة على مكانتها، بل لخلق مساحات جديدة للتوسع أيضا.
المصدر: ميدل إيست آي