لم تتوقف صافرات الإنذار في الداخل الإسرائيلي عن الدوي منذ مساء أمس الجمعة، إثر سقوط طائرة مسيرة في أجواء تل أبيب بعد فشل الدفاعات الإسرائيلية في اعتراضها، الأمر الذي أثار حالة من الهلع بين الإسرائيليين في العاصمة ومحيطها، دفعتهم للاختباء في الملاجئ والتقوقع بداخلها لساعات طويلة.
ومع صباح اليوم السبت أعلن “حزب الله” استهداف قاعدة “7200” العسكرية جنوب مدينة حيفا (شمال الأراضي المحتلة) وقصف مصنع متفجرات بها، برشقة من الصواريخ النوعية، ليصل عدد الهجمات التي شنها الحزب على حيفا وصفد وبلدات في الجليل، وتجمعات لجنود، ومواقع عسكرية إسرائيلية في الجليل والجولان، 24 هجمة خلال الـ24 ساعة الماضية، بمعدل هجمة كل ساعة.
ويعد استهداف تل أبيب بمسيرة قادمة من الأراضي اللبنانية، والفشل في التصدي لها، بعد 19 يومًا من الحرب الإسرائيلية ضد لبنان، ادعى خلالها جيش الاحتلال تدمير معظم البنية التحتية لـ”حزب الله”، تطورًا مهمًا ومحوريًا في مسار المواجهة التي يبدو أنها لن تنتهي عسكريًا في الوقت القريب.
تل أبيب تحت القصف.. نقلة نوعية
إن كان هناك من عنوان أساسي لما حدث خلال الساعات الماضية فهو “تل أبيب لم تعد ببعيدة عن القصف”، وما عاد ساكنيها بمأمن عن الاستهداف، بل أصبحوا ضيوفًا دائمين على الملاجئ والمخابئ تحت الأرض هربًا من الصواريخ والمسيرات التي تتجول في سماء المدينة ليل نهار، ودوي صافرات الإنذار الذي تحول إلى طقس معتاد وورد منتظم بين الساعة والأخرى.. هذا هو حال عاصمة الكيان المحتل بعد 20 يومًا من الحرب في لبنان و373 يومًا من الحرب في غزة.
وفي السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري وفي الذكرى الأولى لبدء العدوان على غزة، تعرضت تل أبيب لـ3 هجمات منفصلة من 3 جبهات متباعدة: “حزب الله” في لبنان، وجماعة أنصار الله “الحوثي” في اليمن، و”كتائب القسام” الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” في غزة، في ضربات رمزية ذات دلالة محددة.
ولم يكن سقوط المسيرة اللبنانية في قلب عاصمة الاحتلال سوى مقدمة لمرحلة جديدة من التصعيد، عنوانها الأبرز أن “حزب الله” يسير باتجاه التعافي من الضربات التي تعرض لها خلال الآونة الأخيرة، وأحدثت زلزالًا مدويًا في بنيته القيادية والعسكرية، تلك الضربات التي أوهمت وأغرت حكومة بنيامين نتنياهو أن شن عملية برية في جنوب لبنان لجز ما تبقى من إمكانيات الحزب نزهة خلوية لن تتجاوز أيامًا معدودات.
فالرشقات الصاروخية التي لا تتوقف باتجاه الجليل الأعلى مرورًا بحيفا وصولًا إلى تل أبيب، تعكس استيعاب الحزب – إلى حد ما – للضربة الإسرائيلية القوية التي تعرض لها، واستعادة زمام المبادرة مرة أخرى، والوقوف مجددًا على أرض ثابتة لاستهداف العمق الإسرائيلي بضربات دقيقة وليست عشوائية، وهو ما أحدث حالة الارتباك الحالية التي يحياها الداخل الإسرائيلي.
رسالة التعافي لم تتوقف عند استهداف قلب “إسرائيل” فقط، لكنها تجاوزت ذلك إلى الانتقال من مرحلة الدفاع إلى الهجوم والمعاملة بالمثل، حيث حذر “حزب الله” في بيان له سكان بعض مستوطنات الشمال من أن منازلهم ستكون أهدافًا لقوته الصاروخية والجوية، كونها مراكزًا لتجمع ضباط وجنود إسرائيليين يتخذونها قواعد عسكرية لهم، مطالبًا إياهم بالمغادرة فورًا، وهو التحذير الأول من نوعه منذ بداية الحرب والذي يعكس تحركات الحزب الحثيثة لاستعادة معادلة الردع مرة أخرى بعد الشروخات التي تعرضت لها خلال الأيام الماضية.
الحزب في بيانه أشار إلى قدرة عناصره على التصدي لكل محاولات التسلل الإسرائيلي للأراضي اللبنانية خلال الساعات الـ48 الماضية، قائلًا إنه “بعد الفشل المدوي والتصدّي البطولي الذي واجهه ويواجهه الجيش الإسرائيلي في محاولات تقدمه باتجاه القرى الجنوبية الحدودية مع فلسطين المحتلة في القطاع الشرقي، حاول في اليومين الماضيين استحداث محاور تقدم جديدة في القطاع الغربي من اتجاه موقعي رأس الناقورة وجل العلام باتجاه المشيرفة واللبونة، محاولًا الاستفادة من التضاريس التي يعتقد أنها ستساعده”، مضيفًا “فتصدى له مقاتلو الحزب في كل محاولة بالأسلحة الصاروخية وقذائف المدفعية والصواريخ الموجهة وأجبروه على التراجع، متكبدًا خسائر فادحة في صفوف جنوده”.
ولفت البيان إلى أن جيش الاحتلال عجز خلال ما أسماها المناورة البرية في جنوب لبنان، عن إظهار دباباته وآلياته العسكرية على الحدود للجانب اللبناني خشية استهدافها، ورغم ذلك يتم استهدافها بالصواريخ وقذائف المدفعية، ويتكبد خسائر فادحة، مختتمًا بيانه بالقول إن مستوطنات شمال فلسطين المحتلة ستبقى خالية من المستوطنين حتى وقف الحرب على غزة ولبنان.
إرباك الجبهة الداخلية الإسرائيلية
الاستهداف المتتالي لتل أبيب ومحيطها وإن لم يسفر عن سقوط ضحايا بشكل مباشر، لكنه أربك حسابات حكومة الاحتلال في مساعيها لتماسك وتلاحم وترميم الاختراقات التي تعرضت لها الجبهة الداخلية مؤخرًا، حيث تخييم الهلع والفزع على الأجواء بأكملها.
وأحدثت المسيرة بسقوطها، وما نجم عن الصاروخ الاعتراضي من شظايا، أضرارًا عدة في عدد من المباني حسبما أكد الجيش الإسرائيلي، فيما أشارت القناة الـ12 العبرية إلى انقطاع التيار الكهربائي في مدينة هرتسيليا بعد تفعيل صافرات الإنذار وهرولة عشرات الآلاف نحو الملاجئ.
ومن أخطر ما أحدثته تلك النقلة النوعية في مسار المواجهة بين الحزب وجيش الاحتلال توسعة جغرافيا الاستهداف، فالأمر لم يعد مقصورًا على الجليل ومناطق الشمال، وإحداث بعض الحرائق في المزارع والغابات المنتشرة هناك على طول خط الحدود، إذ امتد إلى ما كان يتخوف منه الإسرائيليون، حيث المدن الرئيسية النابضة ومعاقل الاقتصاد والسياسة لدى الكيان.
فحيفا التي أُمطرت بالصواريخ والمسيرات هي ثالث أكبر مدينة من حيث عدد السكان بعد القدس وتل أبيب، إذ يبلغ تعدادها 300 ألف نسمة (بينهم 34 ألف عربي)، وتعد حلقة الوصل بين شمال الكيان وجنوبه، ويعتبرها البعض عاصمة الشمال، وهي مركز تربوي وثقافي كبير، وتحتل المرتبة السادسة من حيث المساحة في البلاد بنحو 70 كيلومترًا مربعًا، فضلًا عن موقعها اللوجيستي الاستراتيجي بالنسبة للكيان، كونها تضم أحد أكبر مراكز التجارة البحرية، وتمتلك ميناءً ربما يكون الأهم إلى جانب ميناء أسدود.
وتسببت الضربات الصاروخية المستمرة على المدينة في توقف 15% من المصانع والشركات، وتقليل ساعات عمل أكثر من نصف المصانع، بجانب إغلاق المدارس ورياض الأطفال، ووضع آليات وضوابط جديدة للعمل في المنشآت والشركات تخضع لتعليمات الجبهة الداخلية التي طالبت الجميع بالتزام المناطق القريبة من الملاجئ.
الوضع ذاته مع العاصمة الإدارية والاقتصادية والسياحية تل أبيب، التي يتوقع أن تتعرض هي الأخرى لهزات قوية في أعقاب الاستهداف المتكرر لها، ما يعني الزج بملايين المستوطنين وسكان الكيان إلى الملاجئ والمخابئ تحت الأرض، بما فيهم حكومة نتنياهو ومجلس الكابينت.
تقويض مكاسب نتنياهو
بينما كان يتفاخر نتنياهو وحكومته بقرب عودة أقل من نصف مليون مستوطن إلى الشمال مرة أخرى بعد الضربات التي تلقاها “حزب الله” قبل أيام، إذ بموجة النزوح تتمدد من الشمال إلى الوسط والقلب، حيث أضعاف هذا الرقم يلتزمون الملاجئ وينزحون من مناطقهم، فيما تصاب مناطق إضافية بالشلل التام، الأمر الذي يشكل ضغطًا على الحكومة الإسرائيلية التي تفشل مرة تلو أخرى في تنفيذ تعهداتها بعودة النازحين إلى مناطقهم بعدما باتوا عبئًا اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا على دولة الاحتلال.
التطورات الأخيرة سواء على الجبهة اللبنانية وجبهات الإسناد الأخرى في اليمن والعراق، إضافة إلى المقاومة في غزة، تشير إلى فشل الاحتلال في تحقيق الأمن بعد عام كامل من الحرب، ففي الوقت الذي تدخل فيه المعركة يومها 373 لم يستطع جيش الاحتلال حماية عاصمته الإدارية والسياسية تل أبيب، ولا مدينته الصناعية اللوجستية حيفا، من رشقات المقاومة.
وسيقوض هذا الفشل بنسبة أو بأخرى الانتصارات التي حققها نتنياهو على الجبهة اللبنانية وإيقاع العشرات من قيادات الصف الأول لدى “حزب الله” على رأسهم أمينه العام، وهو ما قد يثير الشارع الإسرائيلي ضد حكومته خاصة بعدما باتت أجواء تل أبيب ساحة واسعة ودائمة لصواريخ المقاومة من كل الجبهات وإيقاع الخسائر الفادحة في صفوف جيش الاحتلال، عسكريين وعتادًا.
استعادة الردع.. هل يصمد “حزب الله”؟
في المقابل كثف الاحتلال من عملياته الصاروخية التي استهدفت مرتكزات “حزب الله” في الجنوب اللبناني والضاحية، وصولًا إلى العاصمة بيروت، واصل خلالها إسقاط القيادات العسكرية، سواء من الحزب أم الحرس الثوري الإيراني الذي يتواجد بعض جنرالاته في لبنان لترميم البيت من الداخل.
ويتوقع أن يسفر هذا التصعيد الأخير عن تصعيد إسرائيلي مضاد، ربما يكون أكثر شراسة وتأثيرًا على مستوى الخسائر والضحايا، في محاولة لترسيخ قواعد الاشتباك الجديدة التي يحاول نتنياهو فرضها بالقوة، وتدشين معادلة ردع وتوازن مغايرة لما أقرته حرب يوليو/تموز 2006.
يؤمن الحزب وما تبقى من قياديه، خاصة بعد تحييد بعض الحلفاء انصياعًا لمقاربات خاصة، أن المعركة التي يخوضها اليوم في مواجهة جيش الاحتلال معركة وجود، وعليه لا بد من كسر حالة الانتشاء التي عليها قيادات الاحتلال وإعادة قواعد الاشتباك والتوازن في معادلة الردع لما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وإلا فلن تقوم للحزب قائمة.
وهنا التساؤل: هل يصمد الحزب في مواجهة جيش الاحتلال حتى استعادة توازن معادلة الردع مجددًا؟ هل ينجح في التعافي سريعًا من الضربة التي تعرض لها على مدار الشهر الأخير؟ هل يستطيع الاستفادة من الدروس التي خرج بها من تجاربه الإقليمية، سواء في سوريا أو غيرها؟ هل ينجح في سد الثغرات التي مُنيت بها منظومته الأمنية والاستخباراتية؟ ثم السؤال الأهم: أين طهران مما يحدث لذراعها الأهم في المنطقة؟ أي خيار يمكن أن تميل له إيران في حال المفاضلة بين الحفاظ على مشروعها وتماسك نظامها والتضحية “بحزب الله”؟
تساؤلات تفتح الباب على مصراعيه أمام سيناريوهات عدة في مسار المعركة على تلك الجبهة، وتبقى الإجابة عنها حبيسة مقاربات كل طرف في التصعيد، وإرادة ورغبة الأطراف الإقليمية والدولية في نزع فتيل الأزمة قبل خروجها عن السيطرة، لكن على أي حال يبقى ما حدث خلال الساعات الماضية تطورًا لافتًا سيكون له ما بعده.