مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في الجزائر المقررة في أبريل/نيسان المقبل، تزداد أزمات حزب الرئيس الحاليّ عبد العزيز بوتفليقة (جبهة التحرير الوطني) يومًا بعد يوم، ليكون آخر فصل لها استقالة الأمين العام للحزب جمال ولد عباس المعروف بتأييده المفرط لبوتفليقة وعراب ترشيحه لولاية خامسة.
عاشت البلاد مساء الأربعاء مفاجأة سياسية لم يكن الكثيرون ينتظرونها، بعد أن نشرت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية والتليفزيون الحكومي خبرًا مقتضبًا مفاده أن ولد عباس استقال من على رأس الأمانة العامة للحزب العتيد.
تساؤلات
لكن هذا الخبر طرح الكثير من الاستفهامات لدى المتابعين للشأن السياسي الجزائري، كون الرجل لم يبد أي مؤشرات عن مغادرته الأمانة العامة للحزب، وبدا إلى حد بعيد من المرضي عنهم لدى صانعي القرار، خاصة جناح محيط الرئيس بوتفليقة، رغم أخطائه المتكررة وخطابه السطحي الضحل الذي أوصل حزب السلطة إلى مستوى هزيل من الفكر السياسي لم يعشه مطلقًا من قبل.
واكتفت وكالة الأنباء الجزائرية ببرقية مقتضبة جاء فيها أن الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني جمال ولد عباس قرر الأربعاء الاستقالة من منصب أمين عام هذا الحزب “لأسباب صحية تستلزم عليه قضاء عطلة مرضية مطولة”، حسبما علم من مصدر رسمي، ولم تذكر الوكالة الحكومية اسم هذا المصدر، غير أنها أضافت أنه سيخلفه مؤقتًا على رأس الحزب معاذ بوشارب في انتظار أن تقرر هيئات الحزب بشأن استخلافه.
رغم البرقية الصادرة عن وكالة الأنباء لسان حال السلطة الحاكمة في الجزائر، فإن مؤيدي جمال ولد عباس ينفون استقالته، ويقولون إنه سيعود إلى منصبه فور تعافيه من وعكته الصحية
ومعاذ بوشارب هو الرئيس الجديد للمجلس الشعبي الوطني (البرلمان) الذي تقلد هذا المنصب في ظروف غير عادية بعد الإطاحة بالرئيس السابق السعيد بوحجة بطريقة وصفت بأنها غير دستورية، لذلك تُطرح الكثير من علامات الاستفهام أيضًا عمن يقف وراء الصعود المتواصل لبوشارب الذي كان إلى وقت قريب مجرد مناضل بسيط في حزب السلطة.
ورغم البرقية الصادرة عن وكالة الأنباء لسان حال السلطة الحاكمة في الجزائر، فإن مؤيدي جمال ولد عباس ينفون استقالته، ويقولون إنه سيعود إلى منصبه فور تعافيه من وعكته الصحية.
وقال عضو المكتب السياسي للحزب أحمد بومهدي للصحافة: “الأمين العام تعرض الأربعاء خلال جلسة عمل لوعكة صحية فنقل إلى المستشفى حيث أعطاه الطبيب عطلة مرضية”، وفند بومهدي خبر “استقالة” ولد عباس بالقول: “ننتظر عودته لكن في انتظار ذلك فإن الحزب يسير بشكل عادي بالقياديين الحاضرين”.
وتشير الأخبار إلى أن ولد عباس نقل إلى مستشفى عين النعجة العسكري الذي ينقل إليه معظم المسؤولين لدى مرضهم.
ويبدو أن بومهدي إما أن يكون “أطرشًا في الزفة” أو يحاول تشكيل جناح معارض للاستقالة بهدف الحفاظ على منصبه للدخول في مفاوضات مع الجهة التي أقالت ولد عباس.
وبدا واضحا في الآونة الأخيرة أن أيام ولد عباس قد أصبحت معدودة، بعد أن قاطع التليفزيون الحكومي آخر تجمعاته السياسية الأخيرة، ولم ينقل تفاصيله في حالة نادرًا ما تحدث.
يظهر أن التخلص من ولد عباس جاء بسبب دعمه المفرط للوزير الأول أحمد أويحيى، خاصة في الآونة الأخيرة
وبالعودة إلى الساعات الأخيرة قبل الإقالة، ذكرت صحيفة ” الخبر” أن كل شيء انتهى لجمال ولد عباس حينما تلقى في حدود الساعة الحادية عشرة من ليلة الأربعاء اتصالاً هاتفيًا من جهة – لم تذكرها – تبلغه بأنه لم يعـد “مرغوبًا فيه” بعد الآن على رأس حزب جبهة التحرير الوطني، وبالنظر إلى هول الخبر تعرض ولد عباس لنوبة قلبية استدعت نقله إلى المستشفى، لكنه تعافى منها واستطاع أن يكون قبل منتصف نهار الأربعاء في مكتبه بمقر الحزب بحيدرة في أعالي العاصمة الجزائر، أين اجتمع بأعضاء من مكتبه السياسي الذين لم يبلغهم بأي شيء حول رحيله، قبل “أن يجمع أوراقه وأغراضه وغادر مبنى الحزب، وأبلغ قيادات الحزب بأنه متوجه إلى مقر مجلس الأمة، لكن الحقيقة أنه كان ذاهبًا إلى بيته، فساعة رحيله دقت”، وفق ما ذكرت الصحيفة واسعة الانتشار.
دعم أويحيى
يظهر أن التخلص من ولد عباس جاء بسبب دعمه المفرط للوزير الأول أحمد أويحيى، خاصة في الآونة الأخيرة، حيث رفض ولد عباس الوقوف ضد أويحيى في خلافه مع وزير العدل الطيب لوح الذي اتهم الوزير الأول بأنه من كان وراء حبس آلاف الكوادر والإطارات ظلمًا في التسعينيات خلال العشرية السوداء دون وجود تهم تجيز سجنهم، مضيفًا أن هذه الممارسات غير القانونية قد ولت بعد أن جاء الرئيس بوتفليقة الذي حرص على إصلاح العدالة وجعلها ضمن أولويات برنامجه.
وأثارت هذه التصريحات غضبًا واضحًا داخل التجمع الوطني الديمقراطي حزب الوزير الأول بالقول إن اتهام بعض الأطراف لأمينه العام أحمد أويحيى بسجن عدد من الإطارات خلال التسعينيات هو “باطل وافتراء عليه”.
وحسب حزب أويحيى، فإنه أمام هذا “التأويل والتهويل التي تغذيه هذه التصريحات التي لا تخفى نواياها على أي كان، علينا تذكير الرأي العام ببعض الحقائق وعلى رأسها كون أويحيى لم يكن آنذاك مسؤولاً عن قطاع العدالة عندما سجن بعض الإطارات في أوساط التسعينيات الذين قدر عددهم ببعض العشرات وليس الآلاف”، وبعد تداول أخبار عن اعتذار لوح عن تصريحاته السابقة، فندت وزارة العدل ببيان مفاده أن مسؤولها الأول متمسك بما جاء على لسانه بشأن قضية سجن الإطارات.
لا تخرج إقالة أو استقالة جمال ولد عباس عن ترتيبات صانع القرار في الجزائر لرئاسيات 2019 التي لا تزال الشكوك تحوم بشأن ترشح الرئيس بوتفليقة فيها لولاية خامسة أو لا
وعوض أن يدعم ولد عباس لوح الوزير المقرب جدًا من محيط الرئيس بوتفليقة، راح يبرئ حزبه من هذه التصريحات قائلاً: “تصريحات لوح لا تلزم بأي شكل من الأشكال الحزب، فهو تحدث باعتباره وزيرًا في الحكومة وليس كمناضل، لذلك فإن الحزب غير معني بهذه القضية”، ولم يتوقف دعم ولد عباس لأويحيى عند هذا الحد، بل زاد على ذلك بتبرئته من الخطأ الجسيم الذي ارتكبه في فرنسا عندما وصف شهداء الثورة التحريرية بـ”الموتى” في خطاب بث التليفزيون الحكومي جزءًا منه.
ورغم نفي الوزارة الأولى أن يكون الوزير الأول قد ارتكب خطأ فادحًا كهذا، فإن تداول فيديو لهذا المقطع من خطابه على نطاق واسع في الإنترنت جعل تفنيد الوزارة الأولى غير مقنع للرأي العام، ولم يستهجن حزب جبهة التحرير الوطني هذه التصريحات رغم ماضيه التاريخي، فهو الحزب الذي قاد ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، وقال ولد عباس: “أنا أعرف أويحيى ولا أشك في وطنيته، ما قاله كان في كلمة أمام 72 دولة، ولو كان هناك شك في وطنيته لما كلفه رئيس الجمهورية بمهام أخرى بعد هذه المهمة”.
واعتبر مناضلون في الأفلان هذا الدعم الجديد لأويحيى من الأمين العام للحزب الحاكم صفقة بين الرجلين ضد الرئيس بوتفليقة، خاصة أن الوزير الأول يُطرح دائمًا كمرشح بديل لبوتفليقة في الرئاسيات القادمة.
ترتيبات
لا تخرج إقالة أو استقالة جمال ولد عباس عن ترتيبات صانع القرار في الجزائر لرئاسيات 2019 التي لا تزال الشكوك تحوم بشأن ترشح الرئيس بوتفليقة فيها لولاية خامسة أو لا.
تشير تسريبات من الحزب الحاكم إلى أن إقالة ولد عباس استمرار للإطاحة بالسعيد بوحجة من الغرفة السفلى للبرلمان
وسلوك استبعاد الأمين العام للحزب الحاكم قبل المواعيد الانتخابية ليست بالجديدة، فالانقلابات علامة مسجلة لدى حزب السلطة ابتدأت في التسعينيات من القرن الماضي ضد الراحل عبد الحميد مهري فيما عرف بـ”الانقلاب العلمي”، وبعدها جاء الدور على علي بن فليس عندما ترشح في انتخابات 2004 ضد الرئيس بوتفليقة، ثم أعيد السيناريو بطريقة أخرى مع عبد العزيز بلخادم عندما مُنع من الترشح وأقصي بعدها من الحزب هو الآخر ببرقية وردت في وكالة الأنباء الجزائرية، وتكرر المشهد مع عمار سعداني في أكتوبر 2016 تحت مبرر الوضع الصحي مثلما حدث اليوم مع ولد عباس.
وتشير تسريبات من الحزب الحاكم إلى أن إقالة ولد عباس استمرار للإطاحة بالسعيد بوحجة من الغرفة السفلى للبرلمان، حيث تتكهن بأن يحل الرئيس بوتفليقة البرلمان عقب التصديق على مشروع قانون المالية 2019، لتنظم انتخابات تشريعية مسبقة ويؤجل موعد الرئاسيات بالتمديد لبوتفليقة لعامين إضافيين بدل ترشيحه لولاية خامسة، في حين أن السعيد بوحجة الذي استبعد من المؤسسة التشريعية سيعود بقوة كمرشح أول لتولي الأمانة العامة لحزب جبهة التحرير الوطني خلفًا لولد عباس بما أن إدارة معاذ بوشارب لحزب السلطة مؤقتة تنتهي باجتماع منتظر للجنة المركزية الذي أجله ولد عباس عدة مرات.
وفي انتظار أن تصبح هذه القراءات والترتيبات واقعًا أو مجرد أوهام، يظل الرأي العام في البلاد يتوقع مختلف السيناريوهات بما أن ما يطبخ في الكواليس صار هو الفيصل في صناعة القرار السياسي بالجزائر حتى ولو كان في عدة مرات على حساب القانون.