على غير عادتها، أعربت وزارة الخارجية الروسية عن قلق موسكو العميق إزاء تصعيد التوتر في قطاع غزة، مشيرةً إلى أن “إسرائيل” هي من خلقت حالة التصعيد الحاد الذي خلق حالة توتر في قطاع غزة، وعقب إعلان التهدئة، دعت الخارجية الروسية إلى العودة لاتفاق التهدئة المُبرم بين المقاومة و”إسرائيل” عام 2014، وعبرت عن تمنيها للتوصل إلى اتفاق تهدئة طويل الأمد.
لقد كان من اللافت تجاوز حدة الموقف الروسي ضد “إسرائيل” الموقف التركي الذي اتسم، مؤخرًا، بالحدية ضد “إسرائيل”، فبينما اكتفت رئاسة الجمهورية التركية بالتصريح بأنه “لا بد من تحرك المجتمع الدولي الذي التزم الصمت حيال الهجمات الإسرائيلية”، اتجهت الخارجة الروسية نحو التصعيد، متهمةً “إسرائيل” باختلاق التصعيد، لكن لماذا؟
في الحقيقة، يُعدّ موقف الخارجية الروسية مستحدثًا نوعًا ما، حيث جاء في اليوم الأول للحدث الذي وقع في خانيونس من خلال تسلل قوة إسرائيلية خاصة لمناطق داخل القطاع.
على الرغم من لقاء الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والإسرائيلي، في باريس على هامش مأدبة عشاء أقيمت خلال إحياء مراسم مئوية هدنة الحرب العالمية الأولى، فإن اللقاء لم يخرج بالنتائج المُتوقعة من كلا الطرفين
يبدو أن الباعث الأساسي لهذا الموقف هو وجود حالة خلاف بين الطرفين في سوريا، بعد استهداف “إسرائيل” لمدينة اللاذقية منتصف سبتمبر/أيلول المنصرم، على نحوٍ لم يكن مُتوقعًا من روسيا، كون هذه المنطقة، أي اللاذقية، غير مرصودة في إطار اتفاق الطرفين للسماح لـ”إسرائيل” باستهداف قوات حزب الله والقوات الإيرانية، المُبرم عام 2015.
وعلى الرغم من لقاء الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والإسرائيلي، في باريس على هامش مأدبة عشاء أقيمت خلال إحياء مراسم مئوية هدنة الحرب العالمية الأولى، فإن اللقاء لم يخرج بالنتائج المُتوقعة من كلا الطرفين، وخير دليل على ذلك هو ميل موسكو لتوظيف حادثة التصعيد التي ظهرت في غزة، في مسار خلافها مع “إسرائيل” في سوريا، حيث أرادت، على الأرجح، إحراج “إسرائيل” والتأكيد لها أنها قد تميل أكثر نحو دعم الفلسطينيين ومواجهتها في ملفات أخرى، في حال لم تتوصل لصيغة توافق بينية مناسبة فيما يتعلق بملف الأهداف التي يمكن لـ”إسرائيل” استهدافها في سوريا.
أيضًا، يعكس الموقف خلاف الطرفين فيما يتعلق بالحراك الأمني والجيوسياسي في حوض شرق البحر المتوسط، حيث تدعم روسيا حق لبنان في التنقيب عن الغاز الطبيعي في المُحيط التي ترى “إسرائيل” أنه تابع لها، ويُطلق على هذا المُحيط مسمى “بلوك 9″، ويظهر في المثلث المُنطلق من بحيرة طبريا، الواقع على الحدود بين المياه الإقليمية لكلٍ من لبنان و”إسرائيل”.
تحاول روسيا زيادة نفوذها في حوض شرق البحر المتوسط على حساب القطب الغربي الذي يحتضن “إسرائيل”
أيضًا، تحاول روسيا زيادة نفوذها في حوض شرق البحر المتوسط على حساب القطب الغربي الذي يحتضن “إسرائيل”، وترمي من خلال زيادة نفوذها في الحوض إلى بلوغ مرتبة المُصدر أو المُتحكم الأساسيٍ في توريدات الطاقة حول العالم، من أجل الإمساك بورقة ضغط دبلوماسية ضد القطب الغربي، وفي ضوء ذلك، تعمل روسيا على تثبيت أقدامها الأمنية والدبلوماسية في عدة مناطق جغرافية في المنطقة، عبر النفوذ العسكري والاقتصادي والعسكري الذي تُرجم ويترجم على أرض الواقع من خلال إتمام مشاريع لتوريد أسلحة روسية مُتطورة وتوقيع اتفاقات دفاع مشترك وإبرام عقود بين شركات الطاقة الروسية وبعض دول المنطقة، وتأتي التحركات الروسية في إطار الإستراتيجية الروسية المعروفة باسم “الأوراسيانية” التي تعني وصول روسيا إلى أهم أحواض المياه الدافئة الزاخرة بالطاقة والمُطلة على طرقٍ تجاريةٍ دوليةٍ مهمة.
وقد ظهر تحرك “إسرائيل” الأولي ضد التوجه الروسي في الحوض على وجه التحديد، بعد استهداف “إسرائيل” لمدينة اللاذقية، بالتزامن مع اقتراب سفن تابعة “للناتو” وأخرى تابعة لفرنسا، من المياه الإقليمية لسوريا، ما عكس رسالة إسرائيلية لروسيا مفادها: “نحن من القطب الغربي وندعمه ضد طموحك”، وهو ما حدا، حسب ما يبدو، روسيا لاستغلال الحدث في قطاع غزة، وإرسال رسالة لـ”إسرائيل” مفادها: “سنستغل كل حدث لا يصب في صالحك، في حال رفعتم لواء التحدي ضدنا، ولم تراعوا مصالحنا في المنطقة”.
ذاق الفلسطينيون، في السنوات الأخيرة، ويلات أشد مرارة على أيدي قوات الاحتلال، ولم يكن الموقف الروسي، يومًا، بهذه الشدة
يُذكر أن روسيا قد استخدمت أحداث قطاع غزة لإحراج “إسرائيل، في أبريل/نيسان منصرم، حيث استهدفت “إسرائيل” بعض المطارات العسكرية في حمص وحلب السوريتين، ما حدا بروسيا لإدانة “العنف العشوائي” الذي تقوم به “إسرائيل” ضد المتظاهرين سلميًا، ولعل أبسط دليل على نظرية اتجاه روسيا للتصعيد ضد “إسرائيل” من خلال التنديد بتحركاتها، أي “إسرائيل” داخل الأراضي الفلسطينية، يكمن في انعدام هذه اللغة التصعيدية في المواقف الروسية، وبروزها في الآونة الأخيرة، حيث خلاف الطرفين النسبي في سوريا.
في الختام، ذاق الفلسطينيون، في السنوات الأخيرة، ويلات أشد مرارة على أيدي قوات الاحتلال، ولم يكن الموقف الروسي، يومًا، بهذه الشدة، لذا فإنه من المُرجح أن هذه التصريحات التصعيدية مرتبطة على نحوٍ وثيق بخلاف الطرفين في سوريا، وعليه، يبدو أن روسيا تحاول المناورة ضد “إسرائيل” عبر استغلال ميادين وأوراق أخرى، في سبيل إقناع “إسرائيل” بضرورة مراعاة المصالح الروسية في سوريا.