ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب: شاين هاريس وغريغ ميلر وجوش داوسي
خلصت وكالة الاستخبارات الأمريكية سي آي إيه إلى أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، هو من أمر بقتل الصحفي جمال خاشقجي في إسطنبول خلال الشهر الماضي، وهو ما يناقض ادعاءات الحكومة السعودية بأنه لم تكن له علاقة بهذه الجريمة، وذلك بحسب مصادر مطلعة على هذه القضية. ويشار إلى أن تقييم سي آي إيه، الذي أكد المسؤولون أن لديهم ثقة كبيرة في مضامينه، هو أوضح تقرير إلى حد الآن يربط بين بن سلمان وعملية الاغتيال، وهو ما يعقد جهود إدارة ترامب للحفاظ على علاقاتها مع حليفها المقرب.
كان فريق مكون من 15 ضابطا سعوديا قد سافر جوا إلى إسطنبول على متن طائرات سعودية، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وقام بتصفية خاشقجي داخل مقر القنصلية السعودية، بعد أن جاء للحصول على وثائق شخصية كان يحتاجها لإتمام زواجه من امرأة تركية. وفي سبيل الوصول إلى هذه الاستنتاجات، فحصت سي آي إيه العديد من المصادر الاستخباراتية، من بينها مكالمة هاتفية أجراها خالد بن سلمان، السفير السعودي في الولايات المتحدة وشقيق ولي العهد، مع جمال خاشقجي. وبحسب مصادر مطلعة على هذه القضية، وافقت على التحدث إلينا ومناقشة هذه المعلومات بشرط عدم الكشف عن أسمائها.
أخبر خالد بن سلمان المحرر الصحفي في الواشنطن بوست، جمال خاشقجي، بأنه عليه الذهاب إلى القنصلية السعودية في إسطنبول من أجل تسلم الوثائق، وقدم له تطمينات بأنه سيكون بأمان. ومن غير الواضح ما إذا كان الأمير خالد حينها على علم بأن خاشقجي سيلقى حتفه هنالك، إلا أنه أجرى هذه المكالمة بناء على تعليمات من شقيقه محمد، وذلك بحسب أشخاص مطلعين على فحوى المكالمة، التي رصدتها الاستخبارات الأمريكية.
على مدى الأسابيع الماضية، قدم السعوديون تفسيرات متعددة ومتناقضة حول ما حدث في القنصلية.
صرحت فاطمة باعشن، المتحدثة باسم السفارة السعودية بواشنطن، بأن الأمير خالد وخاشقجي لم يناقشا أي شيء متعلق بالذهاب إلى تركيا. وأضافت بالقول: “إن الادعاءات الواردة في تقييم سي آي إيه المزعوم خاطئة. ونحن نواصل سماع نظريات متنوعة دون أن نرى الأساس الذي تقوم عليه هذه التخمينات”. وكانت الاستنتاجات التي خلصت إليها سي آي إيه حول دور محمد بن سلمان، قد استندت أيضا إلى التقييم الذي أجرته الوكالة حول موقع ولي العهد كحاكم فعلي للبلاد، يشرف بنفسه حتى على أصغر الأمور في المملكة. وقال مسؤول أمريكي مطلع على استنتاجات سي آي إيه: “إن الرأي المتفق عليه هو أن هذا الأمر ما كان ليحدث بأي حال من الأحوال دون علم ولي العهد أو مشاركته”.
أضاف هذا المسؤول: “أن سي آي إيه تنظر إلى محمد بن سلمان على أنه حاكم جيد من الناحية التقنية، إلا أنه شخص متقلب ومتعجرف، ويمكن أن ينتقل من حال إلى حال في لمح البصر، وهو لا يفهم أن هنالك أشياء لا يسعه فعلها”. ويعتقد محللو سي آي إيه أن بن سلمان يحكم قبضته على السلطة في السعودية، وأنه ليس معرضا لخطر فقدان مكانته كولي للعهد، على الرغم من فضيحة اغتيال خاشقجي. حيث يقول هذا المسؤول: “من المتفق عليه بشكل عام أن ولي العهد على الأرجح سوف يتجاوز هذه الأزمة، ودوره في المستقبل كملك للسعودية هو أمر مسلم به”. وقد رفض المتحدث باسم سي آي إيه التعليق على هذه المسألة.
على مدى الأسابيع الماضية، قدم السعوديون تفسيرات متعددة ومتناقضة حول ما حدث في القنصلية. وخلال هذا الأسبوع وجه النائب العام السعودي الاتهام بشأن هذه العملية إلى “مجموعة من الأشخاص المارقين، الذين تم إرسالهم إلى إسطنبول لإعادة خاشقجي للسعودية، في عملية خرجت عن مسارها عندما تم احتجاز الصحفي بالقوة وحقنه بجرعة زائدة من مادة مخدرة، وهو ما أدى إلى وفاته”، بحسب تقرير النائب العام. كما أعلن النائب العام عن توجيه اتهامات ضد أحد عشر من المتهمين بالمشاركة في هذه العملية، وقال إنه سيطلب الإعدام ضد 5 منهم.
في هذا التسجيل، يظهر أن خاشقجي تم قتله بعد لحظات قليلة من دخوله للقنصلية، وذلك بحسب مسؤولين من عدة بلدان استمعوا إلى فحوى التسجيل أو اطلعوا على تقارير بشأنه
كانت جريمة قتل خاشقجي، الناقد البارز لسياسات محمد بن سلمان، قد فجرت أزمة على صعيد السياسة الخارجية بالنسبة للبيت الأبيض، وأثارت تساؤلات حول اعتماد الإدارة الأمريكية على المملكة السعودية كحليف رئيسي في الشرق الأوسط، وخط دفاع في المواجهة ضد إيران. وقد تحاشى الرئيس ترامب توجيه اللوم بشأن مقتل خاشقجي إلى محمد بن سلمان، الذي يحظى بعلاقة وثيقة بجاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي وأحد أبرز مستشاريه. وفي الخفاء، يقول بعض معاوني ترامب إنه عرضت عليه أدلة حول تورط ولي العهد السعودي، إلا أنه لا يزال متشككا بشأن ضلوع بن سلمان في إصدار الأوامر بالقتل.
كما وجه الرئيس أسئلة لمسؤولي سي آي إيه ووزارة الخارجية حول مصير جثة خاشقجي، وهو يشعر بالقلق في ظل العجز عن الإجابة على هذا السؤال. ولا تعرف سي آي إيه المكان الذي تتواجد فيه رفات خاشقجي، بحسب مصادر مطلعة على تقييم هذه الوكالة. ومن بين المعلومات الاستخباراتية التي جمعتها سي آي إيه، هنالك تسجيل صوتي من جهاز تنصت وضعه الأتراك داخل القنصلية السعودية، وذلك بحسب مصادر مطلعة على هذه القضية. وقد سلم الأتراك للوكالة الأمريكية نسخة من هذا التسجيل، واستمعت إليها مديرة الوكالة جينا هاسبل.
في هذا التسجيل، يظهر أن خاشقجي تم قتله بعد لحظات قليلة من دخوله للقنصلية، وذلك بحسب مسؤولين من عدة بلدان استمعوا إلى فحوى التسجيل أو اطلعوا على تقارير بشأنه. وقد توفي خاشقجي داخل مكتب القنصل العام السعودي، الذي أمكن سماع صوته وهو يعبر عن انزعاجه من أنه بات يتوجب في تلك اللحظة التخلص من جسد خاشقجي وتنظيف المبنى من أي أدلة، وذلك بحسب أشخاص مطلعين على التسجيل الصوتي.
كما اطلعت سي آي إيه على مكالمة هاتفية تمت من داخل القنصلية بعد القتل، أجراها أحد عناصر فريق الاغتيال السعودي، وهو ماهر المطرب، المسؤول الأمني الذي شوهد في عدة مناسبات بجانب ولي العهد، والذي أظهرت الصور دخوله وخروجه من القنصلية في يوم الجريمة. وقد اتصل المطرب بسعود القحطاني، الذي كان حينها أحد أبرز مساعدي ولي العهد، وأعلمه بأن العملية تم انجازها، وذلك بحسب أشخاص مطلعين على المكالمة.
إلى جانب الاتصالات الهاتفية والتسجيلات الصوتية، فإن محللي سي آي إيه تمكنوا من ربط الصلة بين بعض أعضاء فريق الاغتيال ومحمد بن سلمان شخصيا
خلال هذا الأسبوع أعلنت وزارة الخزينة الأمريكية عن عقوبات تشمل 17 فردا، قالت إنهم متورطون في قتل خاشقجي، ومن بينهم القحطاني والمطرب والقنصل العام السعودي في تركيا، محمد العتيبي. ويشار إلى أن استنتاجات وكالة الاستخبارات الأمريكية حول دور محمد بن سلمان في عملية القتل تتقاطع مع المعلومات التي حصلت عليها حكومات أخرى، وذلك بحسب مسؤولين في عديد العواصم الأوروبية، التي خلصت هي أيضا إلى أن هذه العملية كانت متهورة جدا، وبالتالي لا مجال لأن تكون قد تمت دون توجيهات من محمد بن سلمان.
كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قد أعلن أن حكومته عرضت التسجيل الصوتي على ألمانيا فرنسا وبريطانيا والسعودية. وإلى جانب الاتصالات الهاتفية والتسجيلات الصوتية، فإن محللي سي آي إيه تمكنوا من ربط الصلة بين بعض أعضاء فريق الاغتيال ومحمد بن سلمان شخصيا. إذ أن البعض من العناصر في هذا الفريق عملوا ضمن طاقم حراس ولي العهد، وسافروا إلى الولايات المتحدة لمرافقة كبار المسؤولين السعوديين، ومن بينهم ولي العهد، وذلك بحسب سجلات لجوازات السفر اطلعت عليها صحيفة واشنطن بوست.
كانت الولايات المتحدة، قبل مقتل خاشقجي، قد حصلت على معلومات استخباراتية تفيد بأن حياته في خطر. ولكن الوكالات الاستخباراتية الأمريكية لم تبدأ بالبحث في أرشيف الاتصالات حول هذه المسألة، إلا بعد اختفاء الصحفي السعودي في 2 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وقد اكتشفت وجود أدلة تفيد بأن العائلة المالكة السعودية كانت تسعى لإقناع خاشقجي بالعودة إلى الرياض. وذكر مسؤولان أمريكيان أنه لا يوجد أي دليل على أن المسؤولين الأمريكيين كانوا على علم بهذه المعلومات الاستخباراتية قبل اختفاء خاشقجي، أو أنهم فوتوا أية فرصة لتحذيره.
أورد أحد المسؤولين الأمريكيين، أن “خاشقجي قبل حادثة اختفائه لم يكن في دائرة الاهتمام، وحقيقة كونه كان يسكن في ولاية فرجينيا تعني أنه كان ينظر إليه كشخص أمريكي، وهو بمنأى عن نشاط الاستخبارات الأمريكية”. وكان ترامب قد أخبر مسؤولين كبار في البيت الأبيض بأنه يريد أن يبقى محمد بن سلمان في السلطة، لأن السعودية تساعد على التصدي لإيران، وهو الأمر الذي تضعه الإدارة الأمريكية على رأس أولوياتها الأمنية في الشرق الأوسط. كما ذكر ترامب أنه لا يريد أن يؤدي الجدل بشأن مقتل خاشقجي إلى عرقلة إنتاج النفط في المملكة.
من غير الواضح بالنسبة للمسؤولين الأمريكيين موعد ومدى جدية ما تحدثت عنه الحكومة السعودية، بشأن إعدام الأفراد المتهمين بقتل خاشقجي.
يبقى السؤال المعلق هو لماذا قد يقرر محمد بن سلمان تصفية خاشقجي، الذي لم يكن يدفع نحو عزل ولي العهد. ومن النظريات التي ذهبت فيها سي آي إيه في تفسير هذه المسألة، هي أن محمد بن سلمان كان يعتقد أن خاشقجي هو شخص خطير ينتمي للإسلاميين، وكان متعاطفا مع الإخوان المسلمين، وذلك بحسب أشخاص مطلعين على هذا التقييم. وبعد أيام من اختفاء خاشقجي، كان ولي العهد السعودي قد عبر عن هذا الرأي، في مكالمة هاتفية مع كوشنر، ومستشار الأمن القومي جون بولتن، الذي لطالما عارض الإخوان المسلمين واعتبرهم تهديدا لأمن المنطقة.
يلاحظ أن هذا الموقف الذي عبر عنه بن سلمان في الخفاء، والذي ينتقد الصحفي المغدور، يتناقض مع التصريحات العلنية لحكومته التي نعت خاشقجي واعتبرت قتله “خطأ جسيما” و”مأساة”. ومن غير الواضح بالنسبة للمسؤولين الأمريكيين موعد ومدى جدية ما تحدثت عنه الحكومة السعودية، بشأن إعدام الأفراد المتهمين بقتل خاشقجي. حيث قال مسؤول أمريكي “إن هذا الأمر يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها أو قد يستغرق 20 عاما. إلا أن تعامل ولي العهد مع هؤلاء المسؤولين الراجعين إليه بالنظر قد يؤثر سلبا على مكانته في المستقبل”. وأضاف هذا المسؤول: “إذا قام ولي العهد بإعدام الأشخاص الذين نفذوا تعليماته، فسيكون من الصعب عليه في المستقبل إقناع منظوريه بمساعدته.”
المصدر: واشنطن بوست