لم تكن المعركة التي دارت رحاها في مدينة الموصل، معركة عسكرية بين مجاميع مسلحة خارجة عن القانون وقوات حكومية تريد استعادة السيطرة عليها فحسب، إنما هي معركة حضارية بين مفاهيم متباينة لا تجد في الأثر الإنساني الذي تركه لنا الأجداد، إلا كومة من الأحجار لا تنفع بشيء، ومع الأسف فإن الذين كانوا يقاتلون تلك المجاميع الإرهابية ليسوا بأفضل حالاً منها، وهي تعتمد على مليشيات معبَّأة عقائديًا بالضد من تلك المجاميع، وتعتقد أنها تخوض معها معارك عقائدية ذات منبعٍ طائفي، وبالتالي فهي الأخرى تنظر إلى تلك الأماكن الأثرية والدينية بنظرة تنطلق من بعدٍ طائفي يجعلها لا تهتم كثيرًا برمزية هذه الآثار الحضارية.
لم تستثن المجاميع الإرهابية أثرًا من آثار المدينة إلا وهدمته بحجج واهية لا علاقة لها بالدين، ولو أن عملهم كان مستندًا لدليلٍ ديني، فلماذا بقيت كل تلك الآثار الدينية والحضارية في الموصل طيلة العصور الماضية التي حكمتها دول وإمارات إسلامية متعددة ولمئات السنين دون أن تتعرض للأذى
كل ذلك حدث في مدينة الموصل العتيدة التي تمتلئ شوارعها وأزقتها بمختلف الرموز الحضارية والدينية التي تدلل بشكل واضح على أصالة هذه المدينة العريقة، دفعت هذه المدينة ثمنًا باهظًا لِلوثة طائفية اجتاحت البلاد، وضحَّت بالكثير من تاريخها ومعالمها الحضارية، ناهيك عن دماء أبنائها التي سُفكت دون وجه حق.
سماء مدينة الموصل بعد غياب منارة الحدباء
لم تستثن المجاميع الإرهابية أثرًا من آثار المدينة إلا وهدمته بحجج واهية لا علاقة لها بالدين، ولو أن عملهم كان مستندًا لدليلٍ ديني، فلماذا بقيت كل تلك الآثار الدينية والحضارية في الموصل طيلة العصور الماضية التي حكمتها دول وإمارات إسلامية متعددة ولمئات السنين دون أن تتعرض للأذى؟
بعد طرد المجاميع الإرهابية من الموصل لم يتذكر أحد الخسارة العظيمة التي دفعتها هذه المدينة في تاريخها وحضارتها ولم يفكر أحد في خضم الفوضى التي يعيشها البلد، في الحديث عن كيفية انتشال ما تبقى من الإرث الحضاري لهذه المدينة أو يعيد بناء صروح تلك الرموز التاريخية
لقد فجروا جامع نبي الله يونس وجامع نبي الله شيت، ودمروا كل الآثار والرقم الطينية في متحف الموصل الزاخر بالآثار الأشورية والبابلية، ولم تسلم منهم مدينة النمرود الأثرية التي جرفوها، وأحرقوا مكتبة الموصل التي تحتوي على الآلاف من الكتب والمخطوطات النادرة في عملية وصفتها اليونيسكو بعملية تطهير ثقافي قام بها تنظيم داعش، كما دمروا تمثال الشاعر العباسي أبو تمام، بالإضافة إلى الكثير من المعالم الأثرية والحضارية بالمدينة.
وكان مسك ختام هذا التدمير الممنهج، هو تدمير جامع النوري ذي المنارة الحدباء، الذي دارت بقربه رحى المعارك بينهم وبين القوات العراقية التي كانت برفقة مليشيات مسلحة عقائدية لا تعطي لهذه الرموز الأثرية والدينية أي قيمة، ولا تزال تلك الجريمة التي وقعت بحق جامع النوري الكبير مجهولة الفاعل، فالطرفان يلقيان باللوم على الآخر وتحميله مسؤولية ذلك التفجير، والحقيقة أننا لا نبرئ أحدًا من الطرفين من تلك المسؤولية التاريخية، فالاثنان مسؤولان عن التدمير الحاصل بالمدينة ورموزها الحضارية.
مسجد “النوري الكبير” الذي بناه مؤسس الدولة الزنكية الأمير نور الدين محمود زنكي، عام 1173، وصلت القوات المهاجمة له على بعد 50 مترًا، حسب ما صرح به القائد العسكري للقوات العراقية المهاجمة، إلا أن تفجيرًا مفاجئًا حدث بالمنطقة ليتسبب بهدم الجامع ومئذنته الحدباء التي تتغلغل ذكراها في وجدان كل الموصلين ومن ورائهم كل العراقيين.
الخسارة الفادحة التي ألمت بالعراق، أعظم وأكبر مأساوية من أن تستطيع توثيقها كلمات وصفحات قليلة، فكم يا ترى يحتاج العراق المنكوب إلى مبادرات دولية ومحلية لانتشال إرثه التاريخي من الاندثار، ولملمة ما تبقى من آثاره المتناثرة؟
جامع النوري الذي بقيت مئذنته شامخة عصية على السقوط رغم حدبتها التي اشتهرت بها، لم تنحن للزمن ولا للغزاة الذين مروا بهذه المدينة على مدار أكثر من 844 عامًا، إلا أنها هوت أخيرًا إلى الأرض بفعل الطائفية المقيتة التي اجتاحت البلد.
بعد طرد المجاميع الإرهابية من الموصل لم يتذكر أحد الخسارة العظيمة التي دفعتها هذه المدينة في تاريخها وحضارتها ولم يفكر أحد في خضم الفوضى التي يعيشها البلد، في الحديث عن كيفية انتشال ما تبقى من الإرث الحضاري لهذه المدينة، أو يعيد بناء صروح تلك الرموز التاريخية، ذلك لأن بإحياء الصروح الحضارية والتاريخية لمدينة ما، فكأنك تقوم بأحياء المدينة كلها بأهلها وناسها.
إن الخسارة الفادحة التي ألمت بالعراق، أعظم وأكبر مأساوية من أن تستطيع توثيقها كلمات وصفحات قليلة، فكم يا ترى يحتاج العراق المنكوب إلى مبادرات دولية ومحلية لانتشال إرثه التاريخي من الاندثار، ولملمة ما تبقى من آثاره المتناثرة؟
إن الأمر يحتاج إلى تعاون دولي بمشاركة من المنظمات العالمية لإنقاذ ما تبقى من تلك المعالم الحضارية والإنسانية، وعلى مستوى عالمي تأخذ الأمر بعين المسؤولية إزاء هذا الأثر الحضاري والإنساني المهدد بالزوال.