خلال 24 ساعة فقط في الأسبوع الماضي استقبلت العاصمة القطرية الدوحة اثنين من الرؤساء الأفارقة هما نانا أكوفو رئيس جمهورية غانا وبول كاغامي رئيس جمهورية رواندا، وتأتي زيارة الرئيسين لتؤكد إيلاء الدوحة اهتمامًا كبيرًا لعلاقاتها مع دول القارّة السمراء، إذ إن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني هو الزعيم الخليجي الوحيد الذي أجرى جولتين إفريقيتين في عام واحد، فقد شملت جولته الأولى ثلاث دول هي إثيوبيا وكينيا وجنوب إفريقيا، فيما امتدت الجولة الثانية إلى 6 دول بغرب القارة هي مالي وبوركينا فاسو وغينيا وغانا والسنغال وساحل العاج.
كما كانت الدوحة محط اهتمام عدد آخر من القادة الأفارقة فزارها على سبيل المثال خلال العام الحاليّ كل من الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو والزيمبابوي إيمرسون منانجاجوا رغم استمرار الأزمة الخليجية للعام الثاني على التوالي ومحاولات السعودية والإمارات فرض عزلة على قطر وتشويه سمعتها بمزاعم دعم الإرهاب والتطرف؛ لذلك فإن توافد الزعماء الأفارقة وغيرهم من قادة العالم يدلل على نجاح الدبلوماسية القطرية ورسوخ مكانة قطر اقتصاديًا وسياسيًا وهو ما اعترف به ولي العهد السعودي عندما شهد بقوة الاقتصاد القطري في تصريح غير مسبوق منذ بداية الأزمة الخليجية.
إفريقيا قارة المستقبل
تتمتع القارة السمراء بموارد وثروات طبيعية وبشرية تجعلها القارة الأولى عالميًا بلا منازع من حيث توافر الفرص، وتشير الدراسات الأخيرة التي قامت بها مؤسسات التمويل الدولية إلى أن القارة الإفريقية تتمتع بقاعدة استهلاكية تضم أكثر من مليار و200 مليون نسمة، إلى جانب أنها تجمّعٌ لكيانٍ من أسرع الاقتصادات نموًا حول العالم ومنها إثيوبيا وغانا وتنزانيا، وتضم القارة السمراء 21 سوقًا على الأقل من الأسواق الزاخرة بفرص الاستثمار الاستثنائية للمستثمرين الراغبين في تحقيق العوائد القوية السريعة في الوقت نفسه.
وتعد الأسواق الإفريقية الملاذ الأخير الآمن لمؤسسات الاستثمار المباشر الناجحة حول العالم بشهادة مؤسسات اقتصادية كبرى، لذلك يمكن ملاحظة تنافس دول العالم على الاستثمار في إفريقيا مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة والهند إلى جانب الدول الإقليمية الصاعدة مثل تركيا وقطر والإمارات.
إلى جانب الفرص الاقتصادية الهائلة التي تزخر بها إفريقيا، لا يمكن نسيان أنها القارة التي ينضوي تحت لواء اتحادها 54 دولة من بينها 9 دول عربية، والقرارات التي تصدر عن مؤسسة الاتحاد الإفريقي تتصف بالتوافق والانسجام وقلّما يحدث خرق لقرارات الكيان الإفريقي
يرى السفير السوداني السابق في الأردن الصادق الفقيه أن إفريقيا أصبحت تعرف الآن في أوساط الصناعة المالية العالمية بأنها قارة القرن الـ21، بسبب ثرواتها الطبيعية وإمكاناتها البشرية، الفقيه الذي انتقل مؤخرًا من الأردن ليكون سفيرًا لبلاده في إثيوبيا أضاف “تقارير البنك الدولي تقول إن الصناعات الزراعية من المتوقع أن تصل في إفريقيا إلى تريليون دولار عام 2030، حيث تمتلك القارة 60% من الأراضي الصالحة للزراعة غير المزروعة في العالم”.
وإلى جانب الفرص الاقتصادية الهائلة التي تزخر بها إفريقيا، لا يمكن نسيان أنها القارة التي ينضوي تحت لواء اتحادها 54 دولة من بينها 9 دول عربية، والقرارات التي تصدر عن مؤسسة الاتحاد الإفريقي تتصف بالتوافق والانسجام وقلّما يحدث خرق لقرارات الكيان الإفريقي، مما يجعلها قارّة مؤثرة لمن يسعى للحصول على أصوات أكبر عدد ممكن من الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
اهتمام قطر بغانا لا يأتي من فراغ
غانا التي اختارها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد لتكون آخر محطة في جولة الإفريقية أواخر العام الماضي ووصل رئيسها نانا أكوفو إلى الدوحة الأسبوع الماضي، تتميز على وجه الخصوص بأنها من أكثر الاقتصادات النامية في العالم، وهي صورة مصغرة للقوى التي تحاول وبطريقة جذرية إعادة تشكيل علاقة إفريقيا مع العالم بحسب تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز”.
وأوضح التقرير الذي ترجمه “نون بوست”، أن “شركات تركية تسهم في توليد جزء من الطاقة الكهربائية بغانا، وتنهي شركة تركية أخرى المراحل الأخيرة من إنشاء جناح جديد من المطار الدولي، فيما هناك شركة خدمات فلبينية ستبدأ قريبًا في إدارة شركة الطاقة الكهربائية في غانا، حتى أهم جسر في غانا، الذي يحمل اسم القائد الوطني كوامي نكروما، بنته شركة برازيلية”، بحسب الصحيفة البريطانية واسعة الانتشار.
وفي تغطيته لزيارة الرئيس الغاني إلى قطر، نقل موقع joyonline أن الرئيس نانا أكّد حرص بلاده على إقامة علاقات جيدة مع قطر، مشيرًا في رسالةٍ ذات معنى، إلى أن غانا كدولة ذات سيادة، لن تسمح لأيّ من كان بثنيها عن السعي إلى إقامة علاقات مع قطر، ومن ناحيته أكد أمير قطر التزام بلاده بدعم جهاز الأمن في غانا للتعامل مع التهديدات الأمنية ومحاربة الإرهاب.
تعد العلاقات الاقتصادية الوطيدة التي تجمع بين الدوحة وأكرا بمثابة نموذج لمتانة الروابط بين إفريقيا ودول الخليج
الملفات الاقتصادية كانت حاضرةً بالطبع في مباحثات الزعيمين، فقد وقّعا بحسب الموقع نفسه 5 مذكرات تفاهم لإقامة شراكات بين البلدين، كانت أول مذكرة تتعلق بـ”الاتفاق على تجنب الازدواج الضريبي ومنع التهرب المالي فيما يتعلق بالضرائب على الدخل”، إلى جانب مذكرة تفاهم ثانية متعلقة بتنظيم توظيف القوى العاملة في دولة قطر، بينما تضمنت المذكرات الثلاثة الأخرى إلغاء متطلبات التأشيرة لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية والخاصة، وإنشاء لجنة للمشاورات بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك بين قطر والحكومة، فضلًا عن مذكرة تفاهم بين غرفة قطر ونظيرتها الغرفة الوطنية للتجارة والصناعة في غانا.
وتعد العلاقات الاقتصادية الوطيدة التي تجمع بين الدوحة وأكرا بمثابة نموذج لمتانة الروابط بين إفريقيا ودول الخليج، فالتواصل بين البلدين مستمر ولا يكاد يغادر وفد غاني قطر إلا ويصل وفد قطري آخر إلى غانا، ففي مايو/أيار الماضي اجتمع وزير مالية غانا كينيث أوفوري مع محمد بن طوار نائب رئيس غرفة قطر، ودعا الوزير الغاني أصحاب الأعمال القطريين لزيارة بلاده والتعرف على الفرص المتاحة، مشيرًا إلى أن دولة قطر وجمهورية غانا تربطهما علاقات صداقة قوية ومتميزة، ونوّه بأن اقتصاد بلاده يتطور بصورة سريعة ويرحب بالاستثمارات الأجنبية كافة.
بول كاغامي.. الرجل الذي نقل رواندا إلى الريادة يزور الدوحة
اليوم الذي غادر فيه الرئيس الغاني نانا أكوفو وصل إلى قطر الرئيس الرواندي بول كاغامي الذي في عهده باتت رواندا من أكثر دول القارة الإفريقية أمانًا، واقتصادها آخذ في النمو، ويحظى 98% من السكان برعاية صحية شاملة وتعليم مجاني، إضافة إلى تحقيق المصالحة بين الهوتو والتوتسي بعد سنوات من المذابح والإبادة الجماعية.
رواندا نجحت في محاربة الفساد، وتمكّنت من محاصرة الفقر المدقع، وتغطي الرعاية الصحية فيها 98% من السكان رغم أنها دولة حبيسة لا سواحل لها، صلتها بالعالم الخارجي تتم عن طريق جاراتها، وخاصة عبر ميناءي دار السلام في تنزانيا ومومباسا في كينيا
رواندا التي يرأسها كاغامي دولة تقع في وسط القارة السمراء ضمن نطاق ما يعرف بـ”هضبة البحيرات”، شهدت أوائل تسعينيات القرن الماضي واحدة من أكثر الاشتباكات العرقية دموية في التاريخ، لكنها استطاعت النهوض والوقوف على قدميها من جديد لبناء دولة موحدة مزدهرة، مفعمة بالأمل والنجاح والتنافسية على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
ورواندا نجحت في محاربة الفساد، وتمكّنت من محاصرة الفقر المدقع، وتغطي الرعاية الصحية فيها 98% من السكان رغم أنها دولة حبيسة لا سواحل لها، صلتها بالعالم الخارجي تتم عن طريق جاراتها، وخاصة عبر ميناءي دار السلام في تنزانيا ومومباسا في كينيا، تزيد مساحتها على ستة وعشرين ألف كيلو متر مربع، ويقدر عدد سكانها بـ12 مليونًا، يعيش 83% منهم في المناطق الريفية.
اتفاقيات اقتصادية بعد زيارة رجال أعمال قطريين إلى رواندا
فيما يتعلق بزيارة الرئيس الرواندي لقطر، اعتبرت صحيفة The New Times أن زيارة الرئيس كاغامي تم الاتفاق عليها خلال لقائه مع أمير قطر على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي، ولفتت الصحيفة الرواندية في تقرير ترجمه “نون بوست” إلى أن أبرز مخرجات اجتماع الشيخ تميم وكاغامي هو توقيع اتفاقات ثنائية تركز على تسريع التعاون الاقتصادي بين البلدين وشملت الاتفاقات مجالات الخدمات الجوية وتعزيز قطر لاستثماراتها في البلاد إلى جانب مذكرة تفاهم بشأن التعاون الاقتصادي والتجاري والتقني.
وأوضحت الصحيفة أن قطر ورواندا تتشاركان بالفعل في علاقات اقتصادية من خلال الطيران المدني، إذ إن الخطوط الجوية القطرية تشغّل رحلات مباشرة إلى رواندا منذ عام 2012، واختتمت بأن الاتفاقات الموقعة بالأمس ستنقل العلاقات الحاليّة إلى مستوى آخر.
ونشير إلى أن وزير البنى التحتية كلافر جاتيتي قد ذكر للصحيفة ذاتها أن “زيارة بول كاغامي تأتي بعد أيام قليلة من رحلة المستثمرين القطريين إلى رواندا حيث استكشفوا سبل جديدة للتعاون”، وزاد أن رجال الأعمال القطريين بحثوا الاستثمار في مجالات السياحة والزراعة وخاصة الأعمال الزراعية، وكذلك في مجالات التعدين، وأكد الوزير الرواندي أن توقيع معاهدة ثنائية للاستثمار سيمكّن المستثمرين القطريين من القيام بأعمال تجارية في رواندا.
الدبلوماسية القطرية.. جانب سياسي وآخر إنساني
قطر التي اختلق بعض من جيرانها أزمة معها منذ يونيو/حزيران 2017 بنشر أخبار كاذبة نسبوها إلى الأمير تميم بن حمد أظهرت في الـ500 يوم الذين مضوا على بدء الحصار مرونة مدهشة، وحصيلة الحصار كانت نموًا مضطردًا لاقتصادها حسب آخر تقرير لصندوق النقد الدولي على عكس ما كانت تنتظر السعودية وحليفتها الإمارات، بل هناك من يرى أن الأزمة تحوّلت إلى خسارة إستراتيجية للسعودية.
لعبت الدبلوماسية الإنسانية للدوحة دورًا آخر لا يقل أهمية، إذ افتتحت مؤسسة “قطر الخيرية” العام الماضي، مكتبًا إقليميًا جديدًا لها في جمهورية غانا بحضور العديد من الشخصيات الرسمية وممثلي المنظمات الدولية والمنظمات المحلية، بغرض الإشراف على مشاريعها الإنسانية والتنموية ومتابعة تنفيذها في دول غرب القارة الإفريقية
دبلوماسيًا، لعبت وزارة الخارجية القطرية وسفاراتها دورًا قويًا في التصدي للأزمة والحملة الإعلامية غير المسبوقة من الدول الأربعة، فقد عملت مؤسسات قطر في تناغم تام ونجحت في إفشال مخططات عزل قطر وتشويه صورتها بمزاعم دعم الإرهاب والتطرف، فلم تشهد علاقات الدوحة تأثرًا إلا مع دول صغيرة آثرت قطع العلاقات مع قطر استجابة لمغريات اقتصادية مثل موريتانيا وجزر القمر، واللافت أن دولًا مثل السنغال وتشاد أعادت سفرائها إلى الدوحة بعد أن تبين لها أنها الخاسرة من قطع العلاقات، ويتجلّى نجاح الدبلوماسية القطرية في ترتيبها لأمير البلاد الشيخ تميم عدة جولات خارجية ناجحة كان نصيب القارة السمراء منها جولتين خلال عام واحد، فضلًا عن جولاته الأوروبية والآسيوية.
كما لعبت الدبلوماسية الإنسانية للدوحة دورًا آخر لا يقل أهمية، إذ افتتحت مؤسسة “قطر الخيرية” العام الماضي، مكتبًا إقليميًا جديدًا لها في جمهورية غانا بحضور العديد من الشخصيات الرسمية وممثلي المنظمات الدولية والمنظمات المحلية، بغرض الإشراف على مشاريعها الإنسانية والتنموية ومتابعة تنفيذها في دول غرب القارة الإفريقية وزيادة فرص تعاون الجمعية مع شركائها الدوليين.
ووقعت المؤسسة ذاتها في مايو/أيار الماضي مذكرة تفاهم أخرى مع الهيئة الحكومية الدولية للتنمية (إيغاد) لتعزيز التعاون في مجال إغاثة حالات الطوارئ والمساعدات الإنسانية والتنمية المستدامة، في دول القرن الإفريقي.
والهلال الأحمر القطري كذلك نشط في تقديم مساعدات إنسانية للمحتاجين في إثيوبيا ووقّع الهلال القطري برئاسة السفير علي الحمادي قبل أيامٍ مذكرة ثنائية مع الصليب الأحمر لدولة بابوا غينيا الجديدة، وذلك على هامش المشاركة في المؤتمر الإقليمي العاشر للاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، الذي انعقد في العاصمة الفلبينية مانيلا.
تنويع الاقتصاد القطري وفتح أسواق جديدة
إذا أردنا أن نلخّص أسباب اهتمام قطر بعلاقاتها مع القارة السمراء فإننا يمكن أن نجملها في النقاط الآتية:
1- فتح أسواق جديدة.. الدول الإفريقية تتمتع بكثافة سكانية عالية تفوق 1.2 مليار نسمة مما يشكل سوقًا واعدًا للمنتجات القطرية مثل النفط والغاز.
2- تنويع الاقتصاد القطري.. رؤية 2030 التي تتبناها قطر ترتكز على تنويع الاقتصاد وعدم الاعتماد الكامل على المنتجات النفطية، ويشكل جهاز قطر للاستثمار الذراع الاقتصادية الأقوى في الدولة الخليجية حيث يدير أكثر من 320 مليار دولار حول العالم.
دعت الرياض إلى قمة سعودية إفريقية العام الماضي فور اندلاع الأزمة الخليجية لكن القادة الأفارقة تجاهلوها ولم تعلق عليها مفوضية الاتحاد الإفريقي، فقد جاءت في وقتٍ مشبوه بعد أيام قليلة من بداية النزاع الخليجي
3- إيجاد نفوذ سياسي ودبلوماسي.. ذكرنا أن الاتحاد الإفريقي يضم في عضويته 54 دولة تشكل كتلة سياسية مؤثرة عالميًا.
4- تسجيل حضور دائم للدبلوماسية القطرية ورسم صورة إيجابية عن قطر من خلال النشاط الإنساني وتقديم المساعدات الإنسانية لذوي الاحتياجات.
5- التصدّي لمحاولات السعودية والإمارات عزل قطر في القارة السمراء، إذ دعت الرياض إلى قمة سعودية إفريقية العام الماضي فور اندلاع الأزمة الخليجية لكن القادة الأفارقة تجاهلوها ولم تعلق عليها مفوضية الاتحاد الإفريقي، فقد جاءت في وقتٍ مشبوه بعد أيام قليلة من بداية النزاع الخليجي.