بعد عقود من الرفض التام وإعطاء الوعود من أعلى مستويات في الدولة والعودة عنها، تراجعت إيران وسط معارضة قضائية ودينية، وسمحت لمئات الإيرانيات باقتحام عالم التشجيع في كرة القدم، بداية من المباراة النهائية في دوري أبطال آسيا بطهران، التي أقيمت في 10 من نوفمبر الماضي، لتعلن إيران بذلك الدخول في مارثون تنافسي جديد مع السعودية، ولكن هذه المرة في الإصلاحات الحقوقية المتعلقة بالمرأة.
من إيران للعالم.. الإعلام يأتي إلى هنا
عقب السماح بحضور سيدات إيران لمباراة منتخب بلادهن، بدا لافتًا أن الإعلام الحكومي وشبه الرسمي يركز كثيرًا على الموضوع باعتباره حدثًا غير تقليدي أو ربما رسالة موجهه للعالم، للالتفات إلى الإصلاحات الإيرانية الجديدة، وقالت وكالة تسنيم شبه الرسمية، إنه بعد السماح بدخول النساء إلى مباراة المنتخب، سمح لهن أيضًا بدخول ملعب أزادي في طهران، لمشاهدة فريق برسبوليس الإيراني الذي كان يسعى لتعويض خسارته بهدفين مقابل لا شيء، وكان يحتاج إلى مثل هذا التشجيع المكثف، في مباراة الذهاب أمام فريق كاشيما أنتلرز الياباني، ونجح الفريق في تحقيق لقبه القاري الأول، وكانت المبارة فرصة جيدة لإتاحة الحدث الأهم منها لأعين العالم، وهو الحريات الجديدة للمرأة الإيرانية.
عدم الحسم في اتخاذ قرار تشريعي حاسم، يجعل النساء والمعنيين بحقوق الإنسان في إيران والعالم، على درجة كبيرة من التوجس بسبب الماضي السيء للقضية، حيث سبق للرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، العودة في قراءة مشابه بعد أسبوعين فقط، من السماح للنساء بحضور مباريات كرة القدم في الملاعب، بسبب ضغوط رجال الدين والبرلمان
كانت الإصلاحات السعودية والسماح للمرأة في المملكة بالعديد من الامتيازات التي كانت محرمة عليها والاختلاط بحرية في فعاليات ما عرف باسم هيئة الترفيه، بجانب السماح لها بقيادة السيارة، له الأثر الكبير على إيران، في البدء بهذه الخطوة، خاصة أن الحكومة الإصلاحية استغلت تصاعد الانتقادات داخل الشارع الإيراني، وإبقاء المرأة الإيرانية رهن القيود الفكرية الظلامية، تجعلها في مرتبة أقل حتى من نظيرتها في السعودية، لتقرر إدارة روحاني التعامل وفقًا لتوجهاتها الفكرية والسياسية، والقبول بمبدأ مشاركة النساء في مشاهدة المباريات الرياضية.
ورغم هذه الدفعة الهائلة، فإن عدم الحسم في اتخاذ قرار تشريعي حاسم، يجعل النساء والمعنيين بحقوق الإنسان في إيران والعالم، على درجة كبيرة من التوجس بسبب الماضي السيء للقضية، حيث سبق للرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، العودة في قراءة مشابه بعد أسبوعين فقط، من السماح للنساء بحضور مباريات كرة القدم في الملاعب، بسبب ضغوط رجال الدين والبرلمان، التي امتثل لها المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي، ودعا نجاد إلى تراجع مشابه، فأعيد النظر في القرار، وفرض الحظر مجددًا على دخول النساء للملاعب والاختلاط بالرجال.
مناطحة السعودية.. الحداثة بالحداثة
كانت السعودية ـ قبل أزمة خاشقجي ـ حديث العالم فيما يخص إعادة النظر في حقوق للمرأة ومنحها حريات هائلة رغمًا عن رجال الدين الذين إما تواروا عن الأنظار أو فضلوا الصمت أو باركوا لولي الأمر مسعاه وهؤلاء ينتمون للمذهب الجامي أو المدخلي الذي لا يرد أمرًا لولي أمر، وانتقلت حالة الزخم نفسها إلى إيران التي كانت تحظر على نسائها الحضور في ملاعب كرة القدم، وبعد معارضات واحتجاجات نسائية، خرجت تصريحات عدة من شؤون الرياضة النسوية بوزارة الرياضة والشباب الإيرانية، تحكي تفاصيل التواصل مع الأجهزة المختصة في الجمهورية الإيرانية، لتوفير الظروف اللازمة لحضور السيدات في الملاعب لا سيما كرة القدم، على أن يتم تجهيز بنى تحتية بشكل متدرج، حتى لا يصطدمن مع رجال الدين والمؤسسات المحافظة والمتشددة في المجتمع.
الصرخة وصلت إلى الفيفا التي طلبت بدورها توضيحات من الاتحاد الإيراني لكرة القدم، لترد وزارة الرياضة والشباب على لسان وزيرها مسعود سلطاني فر، الذي وجه خطابًا لرئيس الفيفا جياني أنفانتينو، وقال إن بلاده تدرس إمكانية حضور النساء إلى الملاعب لمشاهدة مباريات كرة القدم
بعض الناشطات، لم ينتظرن قرار الوزارة بحضور المباريات، وقررن اللجوء لأساليب مختلفة من الضغوط على صناع القرار، وتخفت بعضهن في زي الرجال وهيئته، للتعبير عن الألم الذي يعتصرهن من التضييق عليهن بهذا الشكل.
الصرخة وصلت إلى الفيفا التي طلبت بدورها توضيحات من الاتحاد الإيراني لكرة القدم، لترد وزارة الرياضة والشباب على لسان وزيرها مسعود سلطاني فر، الذي وجه خطابًا لرئيس الفيفا جياني أنفانتينو، وقال إن بلاده تدرس إمكانية حضور النساء إلى الملاعب لمشاهدة مباريات كرة القدم، ولكنها تعمل على تهيئة الظروف المناسبة لحضور النساء بما يناسب ثقافة الشعب الإيراني.
ورغم الوعود بالانفتاح، فإن السلطات الإيرانية قطعت البث المباشر عن أحد المؤتمرات الصحفية لوزير الرياضة الإيرانية، لحظة سؤاله من أحد الصحفيين عن موعد السماح للنساء بحضور مباريات كرة القدم، بحسب هيئة الإذاعة البريطانية “BBC”، بما أوضح بجلاء حجم الأزمة النفسية التي يعيشها المسؤولون في البلاد جراء دفعهم من الداخل والخارج لاتخاذ مثل هذا القرار.
التأثير الدولي الذي تحقق بفعل صور المشجعات الإيرانيات اللاتي تنكرن في هئيه رجال، بجانب الضجة الإعلامية الدولية التي أثارتها مجموعة “أوبن ستاديومز” المنادية بحق المرأة في حضور الأحداث الرياضية بإيران، بسبب كشفها عن اعتقال بعض السيدات بسبب إصرارهن على حضور المباريات، جعل الرئيس الإيراني حسن روحاني، يعجل من استقبال رئيس الفيفا، في قصر الرئاسة بطهران، مارس الماضي.
وقال روحاني إن هناك 23 ألف فتاة يمارسن رياضة كرة القدم في إيران، ما اعتبره دليلاً على توجه نساء إيران لهذه اللعبة، وهو ما أكده رئيس الفيفا الذي أشار بدوره إلى أن الإيرانيين من أكبر مشجعي كرة القدم حماسة بالعالم، واعتبر صعود المنتخب الإيراني إلى مونديال روسيا، كثاني منتخب بعد البرازيل، دليلاً على قوة كرة القدم الإيرانية، وانتهز المقابلة للضغط للسماح للإيرانيات بدخول الملاعب كمشجعات، في إطار سعي الاتحاد الدولي لكرة القدم لتحسين مناخ العالم، عن طريق رياضة كرة القدم، ووضع وقتها إمكانات الفيفا بجانب السلطة الإيرانية وجهات صنع القرار، للنهوض بمستوى كرة القدم في إيران بشكل عام، بما في ذلك التشجيع.
ضغوط للتراجع.. والقضاء في المقدمة
تقف العديد من القوى السياسية والقضائية والدينية في إيران ضد انفتاح المجتمع الإيراني بهذا الشكل، وتعنف إجراءات التراجع أمام مجموعة من الفتيات، ربما يعتبروهن غير ناضجات أو مراهقات على أقصى تقدير، وكان التصريح الأكثر تحديًا للحكومة الإيرانية والمجتمع الدولي بالمقاومة للنهاية لمنع النساء من الدخول للملاعب، من المدعي العام في إيران محمد جعفر منتظري، الذي أدان بشدة دخول مجموعة نساء في العاصمة طهران إلى ملعب كرة قدم، واعتبر أن السماح بحضور المرأة مباراة كروية، أمر خاطئ ويجب ألا يتكرر ثانية.
المدعي العام خلط القضائي بالديني كما هو حق له بحسب صلاحيات المنصب، وقال إن دخول النساء إلى ملعب كرة قدم من شأنه أن يوقع في الحرام ببلد مسلم، وبشكل واضح لا يقبل الشك رفض ما يحدث، فالنساء اللائي يدخلن ملعبًا لكرة القدم، بحسب وصفه يرون “رجالاً نصف عراة”، لأن اللاعبين يرتدون الملابس الرياضة القصيرة، وهذه المشاهدة ستقود حتمًا إلى الحرام.
المعركة يبدو أنها ستزيد الأمور صعوبة أمام المجتمع الدولي فيما يخص الحريات ونظرة إيران للنساء والثقة في مؤسسات صنع القرار فيها
المشاهد التي جرحت كرامة المسؤول القضائي الرفيع الدينية إلى هذه الدرجة، بسبب دخول 300 سيدة إلى إستاد آزادي لأول مرة بعد 4 عقود، ضاعفت من إحساسه بالغضب حالة الاحتفاء الحكومية بهن وتخصيص أحد جوانب الملعب لتشجيع المنتخب الوطني الإيراني في المباراة، ولم يكن الأمر قاصرًا على الإيرانيات فقط بل سمحت السلطات أيضًا لبعض البوليفيات للدخول إلى الملعب، وهن يحملن أعلام بلادهن لتشجيع المنتخب البوليفي، وهو أيضًا كان محظورًا على الأراضي الإيرانية، بما جعل المدعي العام يتحدى القرار، ويعطي أسبابه القضائية التي تعود إلى الشرع المطبق في إيران، ودعمها برؤيته بشأن حرمانية رؤية “أقدام الرجال” وهو جدل محسوم فقهيًا منذ زمن طويل.
المعركة التي يبدو أنها ستزيد الأمور صعوبة أمام المجتمع الدولي فيما يخص الحريات ونظرة إيران للنساء والثقة في مؤسسات صنع القرار فيها، لم تكن على بال الرجل وهو يتعهد بأن لا يسمح مستقبلاً بأن تتكرر هذه الأمور، وقرر رصد كل مسؤول تسول له نفسه ويسمح بهذه الخطوة، ووجه أمرًا للنيابة العامة في طهران بالتحرك لاتخاذ الإجراءات القانونية ضد كل مخالف، بما يهدد بانتكاسه جديدة للإيرانيات، كما حدث من قبل مع أحمدي نجاد، ويضع أزمة أخرى وفرصة للتشفي من إيران للسعودية وأمريكا و”إسرائيل” وكل دولة على خلاف وصراع وجودي مع نظام الخميني.