تحت عنوان “الفقر والرخاء المشترك 2018” أصدر البنك الدولي تقريره السنوي الذي يسعى من خلاله إلى محاولة القضاء على معضلة الفقر في الدول النامية بصفة عامة، استجابة لرؤيته الهادفة إلى تقليص نسبة من يعيشون في فقر مدقع إلى أقل من 3% بحلول عام 2030.
التقرير استعرض الجهود المبذولة لتطويق معدلات الفقر غير أنه وضع تعريفًا جديدًا لمفهوم الفقر مغايرًا تمامًا لما كان عليه في السابق وهو ما أضفى أهمية كبيرة على النتائج التي توصل إليها، إذ خلص إلى أن حساب معدل الفقر على أساس الدخل النقدي فقط – وهو المعمول به حاليًا – حساب مضلل وخاطئ.
التعريف الجديد للفقر الذي أقره البنك الدولي في دراسته الأخيرة وفق عدد من الاعتبارات المعيشية الموضوعة من المرجح أن يكون لها تداعيات سلبية على خريطة الفقر في الدول النامية ومنها العربية، فبينما تحاول معظم حكومات الدول الفقيرة تكييف تقاريرها بما يعكس صورة إيجابية عن جهودها لتحسين المستوى المعيشي، إذ بعشرات الملايين من مواطنيها باتوا على بعد خطوات قليلة من مستوى خط الفقر وفق مقاييسه الجديدة، وما لذلك من تداعيات بشأن استقلالية القرار لدى تلك الدول.
معيار مضلل
استقر البنك الدولي منذ نشأته عام 1945 على وضع تعريف محدد لمستوى خط الفقر يتمثل في كونه “أدنى مستوى من الدخل يحتاجه المرء أو الأسرة حتى يكون بالإمكان توفير مستوى معيشة ملائم في بلدٍ ما” وقد استقر على قيمة قدرها دولار واحد يوميًا للفرد بداية الأمر.
لكن مع 2008 رفع البنك مستوى هذا الخط إلى 1.25 دولار في ضوء تباين مستويات القوة الشرائية، غير أن هناك بعض الدول تضع خطوط فقر خاصة بها، فمثلاً عام 2009 كان خط الفقر في الولايات المتحدة للفرد دون سن 65 هو 11.161 دولار، ولعائلة من أربعة أفراد من بينهم طفلين هو 21.756 دولار.
وتراجعت معدلات الفقر العالمي خلال الربع قرن الأخير، فبينما كان 36% عام 1990، تراجع إلى 11.2% عام 2011 وصولاً إلى 10% عام 2015، ليبلغ العدد الإجمالي للفقراء 736 مليونًا مقارنة بملياري قبل 25 عامًا، ورغم هذا التراجع الواضح في المعدلات غير أن البعض في الجانب الآخر يرى بقاء تلك المعدلات كما هي إن لم تتعرض للزيادة في بعض المناطق، مفندًا الأرقام التي تعكسها الإحصاءات الرسمية التي ربما لا تعبر عن الواقع بصورة كاملة.
في مقال لـ”فرانشيسكو فريرا” كبير مستشاري مجموعة بحوث التنمية في البنك الدولي، أشار إلى أن منهجية البنك الدولي في مكافحة الفقر كانت تقوم في الأساس على قياس فقر الدخل مقابل خط معين، لافتًا إلى أن هذا يتطلب جهدًا كبيرًا كما أنه يعكس معايير الفقر المطلق في أشد بلدان العالم فقرًا.
ثبت لباحثي البنك أن حساب معدل الفقر على أساس الدخل النقدي فقط لا يمهد نحو إجراء مقارنات موضوعية وواقعية بين مستويات الفقر المعلنة ومستويات تحقيق الرفاهية بين الدول المختلفة، أو حتى داخل الدولة الواحدة عبر فترة من الزمن
ومع مرور الوقت وفي ظل المستجدات التي طرأت على معدلات القوى الشرائية لعملات بعض الدول والتباين الواضح في إستراتيجيات احتساب طبيعة الفقر ومظاهره، كان لا بد من مبادئ أخرى لوضع خط جديد للفقر، حددها “فريرا” في ثلاثة مبادئ أساسية.
الأول: استخدام أدق وأحدث مجموعة أسعار متاحة للمقارنة بين مستويات المعيشة الحقيقية فيما بين البلدان، الثاني: تقليص التغيرات التي تطرأ وإبقاء تعريف خط الفقر دون تغيير، وتثبيت قيمته الجديدة لتقترب بقدر الإمكان من 1.25 دولار في اليوم بالأسعار الحقيقية، الثالث والأخير فإنه عند تعريف “الأسعار الحقيقية”، فإن مستويات الأسعار الأكثر أهمية لقياس معدل الفقر العالمي هي تلك التي يدفعها أشد سكان العالم فقرًا.
وقد خلص المقال ومن قبله التقييمات الأولية إلى أن الاكتفاء بمعيار الفقر النقدي فقط كمحدد وحيد لخط الفقر هو معيار مضلل وغير موضوعي، كونه يضع العديد من الشرائح ضمن غير الفقراء في الوقت الذي يعانون فيه من فقر شديد وإن كان بصورة مختلفة، وهو ما دفع البنك في تقريره هذا العام إلى إعادة النظر.
المصدر: البنك الدولي
5 معايير جديدة للفقر
بعد أن ثبت لباحثي البنك أن حساب معدل الفقر على أساس الدخل النقدي فقط لا يمهد نحو إجراء مقارنات موضوعية وواقعية بين مستويات الفقر المعلنة ومستويات تحقيق الرفاهية بين الدول المختلفة، أو حتى داخل الدولة الواحدة عبر فترة من الزمن، كان لا بد من وضع اعتبارات أخرى لتحقيق الموضوعية في حساب تلك المعدلات.
وعليه فقط اعتمد البنك من خلال مجموعة بحوث الفقر والتنمية إلى وضع خمسة معايير سيتم الاعتماد عليها فيما بعد لتحديد معدلات الفقر العالمية في كل دولة، وهي:
أولاً: الدخل النقدي للفرد والأسرة.. وهو المعيار القديم، إذ يرى البنك أن ما يقرب من نصف سكان العالم يعيشون على نحو 5 دولارات فأقل في اليوم، وهو مؤشر أثار انتباه القائمين على التقرير بصورة ملفتة رغم مؤشرات التطور والنمو العالية في العديد من المناطق.
ثانيًا: مستوى التعليم.. بحسب التقرير فإن من بلغ سن الدراسة ولم يكن منتظمًا في المدارس فإنه يدخل تحت خط الفقر، الأمر كذلك ينطبق على البالغين الذين لن يكملوا تعليمهم، هذا بخلاف المستويات المتدنية لخريجي المدارس وغير المؤهلين للاندماج في سوق العمل.
الأفراد الذين يعيشون تحت تهديد الجريمة والكوارث ويخشون من التعرض لأي مخاطر، طبيعية كانت أو بشرية، يدرجون تلقائيًا تحت مستوى خط الفقر
ثالثًا: مستوى البنية التحتية والمرافق العامة.. وعليه فمن لا تصل إليه مياه الشرب النقية الصالحة للاستخدام يدخل تحت خط الفقر، كذا من لم يتمتعوا بخدمات الصرف الصحي أو المحرومون من الكهرباء والطرق الجيدة وغير ذلك.
رابعًا: مستوى الخدمات الصحية.. يدخل ضمن قوائم ما هم دون خط الفقر ممن لم يتلقوا خدمة صحية جيدة، أو لا تتوفر لهم منشآت صحية مهيأة، إضافة إلى الأطفال الذين لا يحصلون على الأمصال والتطعيمات ويعانون من سوء التغذية، وكبار السن الذين يفتقدون للرعاية الكاملة.
خامسًا: مستوى الأمن.. فالأفراد الذين يعيشون تحت تهديد الجريمة والكوارث ويخشون من التعرض لأي مخاطر، طبيعية كانت أو بشرية، يدرجون تلقائيًا تحت مستوى خط الفقر، ما يعني أن شرائح كبيرة من الدول التي تعاني من صراعات طائفية أو أهلية ستدخل ضمن هذه الفئة.
زيادة معدلات الفقر في العراق بعد اختبار المعايير الجديدة
ماذا عن الدول العربية؟
في محاولة لتطبيق المعايير الجديدة التي تم إقرارها في التقرير الأخير اختار البنك الدولي عينة من 6 دول لإجراء الاختبار عليها لكشف مدى التشوهات التي يمكن أن يتعرض لها قياس الفقر باستخدام معيار الدخل النقدي فقط، وكان العراق أحد الدول الستة المختارة.
التقرير وجد أن معدل الفقر في العراق كان 2.5% حين كان محسوبًا على أساس الدخل النقدي فقط، لكن ومع تطبيق المعايير الجديدة تحرك ليصل 10.4% إذا أخذنا معايير الفقر النقدي والتعليم والخدمات الأساسية، ثم يرتفع مرة ثانية إلى أكثر من ضعف المعدل الأخير إذا أخذنا في الاعتبار المعايير الخمس معًا، حيث يرتفع معدل الفقر بين السكان في هذه الحالة إلى 28.4%.
7.4% من السكان في الدول العربية يعيشون على أقل من 1.25 دولار، ولا يزال 2.2 مليار شخص يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد أو يشارفون على الوقوع فيه
الفقر وفق البنك لا ينحصر في نقص المال النقدي وفقط، بل يشمل أيضًا نقص عناصر الرفاهية الأساسية، وقد قطعت العديد من البلدان خطوات كبيرة على صعيد الحد من الفقر النقدي لكنها لا تزال متخلفة في مجالات حيوية مثل البنية التحتية الأساسية والتعليم الآمن.
ورغم انخفاض نسبة انتشار الفقر النقدي (أقل من 6%) في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومنطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، فإن هناك تقريبًا واحدًا من بين كل سبعة أشخاص يعاني من نقص خدمات صرف صحي ملائمة.
السؤال هنا: لو تم تطبيق المعايير الجديدة على الدول العربية لا سيما النامية منها ماذا يمكن أن تصل نسب الفقر الحقيقية في تلك الدول؟ ويكفي للوقوف على هذه الحالة أن دولة كمصر بلغ معدل الفقر فيها احتسابًا للمعيار النقدي فقط قرابة 27% فكيف لو تم حساب من لم يتلقوا تعليمًا جيدًا أو خدمة صحية مناسبة، هذا بخلاف دول بأكملها مثل اليمن وسوريا والسودان وغيرها؟
جدير بالذكر أن عدد الفقراء فقرًا مدقعًا في 10 بلدان عربية فقط (مصر وتونس والمغرب والجزائر والأردن والسودان وموريتانيا وجزر القمر والعراق واليمن) بلغ 38.2 مليون نسمة، بما يمثل 13.4% من السكان، وذلك بحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة ديسمبر الماضي، كاشفًا أن نسبة الفقراء في تلك البلدان بلغت 40.6% من السكان بعدد 116.1 مليون نسمة.
وبحسب تقرير التنمية البشرية لعام 2014، فإن 7.4% من السكان في الدول العربية يعيشون على أقل من 1.25 دولار، ولا يزال 2.2 مليار شخص يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد أو يشارفون على الوقوع فيه، وهو ما يعنى أن أكثر من 15% من سكان العالم معرضون للفقر، وسط افتقاد 80% من سكان العالم إلى الحماية الاجتماعية الشاملة.