صرخة مدوية أطلقها رئيس المجلس العربي للمياه الدكتور محمود أبو زيد تكشف النقاب مجددًا عن التحديات الكارثية التي تواجه المنطقة العربية جراء ندرة المياه وضرورة وضع إستراتيجية سريعة ومحددة لمواجهة المخاطر المحتملة لتلك الأزمة التي قد تكون فتيل إشعال الحروب خلال العقود المقبلة.
أرقام مفزعة ساقها أبو زيد خلال كلمته أمس الأحد على هامش اجتماع مجلس المحافظين العربي للمياه؛ لمناقشة خطة عمله خلال (2019-2021)، تعكس خطورة الموقف، فالمنطقة العربية لديها 1% فقط من المياه العذبة على مستوى العالم، فيما تأتي أكثر من 60% من مياه الأنهار من خارجها ويقبع 40% من سكانها في مناطق الشح المائي، هذا بخلاف ما كشفه بأن هناك 14 دولة عربية تعد من بين الدول الأكثر معاناة من ندرة المياه على مستوى العالم.
أزمة ليست بالجديدة وتصريحات لم تكن الأولى من نوعها، غير أن الوضع يتفاقم سوءًا، مياه تزداد ندرة في ظل اختلال متفاقم بين المتوافر والطلب بسبب عوامل بعضها طبيعي وبعضها الآخر يعود لسياسات رسمية وممارسات شعبية أسرفت في الاستهتار باحتياطات الدول العربية من المياه العذبة، مشهد ينذر بالأسوأ في المدى القريب ما يقتضي صحوة تلتفت لخطورة التحديات وتبحث في الحلول الناجعة لها.
75% من سكان الوطن العربي يقعون تحت خط الفقر المائي المحدد بألف متر مكعب للفرد سنويًا، فيما 35% منهم نصيبهم من المياه المتجددة أقل من 500 متر مكعب سنويًا للفرد
ثلثا العرب تحت خط الفقر المائي
“الأثرى نفطيًا لكن الأفقر مائيًا” هذا هو الوصف الأنسب للمنطقة العربية وفي ذلك مفارقة لا يردم الهوة بين قطبيها مال ولا فائض الحديث عن مؤامرة تحاك، إذ تشير العديد من التقارير إلى أن ما يقرب من ثلثي الدول العربية تعاني الفقر المائي المدقع، و105 ملايين نسمة محرومين من مياه الشرب النقية.
علاوة على ذلك فإن قرابة 14 دولة عربية ترزخ تحت خط الفقر العالمي، من أبرزها الأردن الذي يأتي ترتيبه بأقل من 10% من خط الفقر العالمي، هذا بخلاف ضعف كفاءة الاستخدامات المائية إذ تجاوز معدل الفاقد 61% من مجمل الموارد المائية المستخدمة في الري في جميع الدول العربية، حسبما كشف المؤتمر العربي الثالث للمياه الذي عقد في الكويت مايو الماضي.
المؤتمر حذر من أن في ظل استمرار الوضع الراهن حيال التطور العمراني والنمو السكاني، فإن المنطقة العربية ستكون بحاجة لـ550 مليار متر مكعب من المياه اعتبارًا من العام 2025 لتحقيق الأمن المائي والغذائي، وفق ما جاء على لسان أمين عام وزارة المياه والري الأردني علي صبح.
فيما أشار محمد الحمدي، الخبير في مجال المياه في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، إلى أن 75% من سكان الوطن العربي يقعون تحت خط الفقر المائي المحدد بألف متر مكعب للفرد سنويًا، فيما 35% منهم نصيبهم من المياه المتجددة أقل من 500 متر مكعب سنويًا للفرد، وهو ما يُعتبر معدلاً متدنيًا جدًا من نصيب الفرد من المياه.
ويعود الشح المائي في المنطقة العربية لعدة أسباب على رأسها أن أكثر العالم العربي يقع في أشد مناطق العالم جفافًا وندرة مائية، وأقله بالمنطقة شبه الرطبة، إذ لا يحوز سكانه أكثر من 0.5% من الموارد المائية العالمية، رغم أنهم يمثلون 5% من سكان العالم، ويُتوقع لجميع بلدانه أن تقع تحت خط الفقر المائي خلال العقدين القادمين، وفق نادر نور الدين محمد أستاذ الموارد المائية واستصلاح الأراضي بجامعة القاهرة.
دول مجلس التعاون الخليجي أكثر مناطق العالم اعتمادًا على المياه المحلاة، إذ يصل إنتاجها لنحو 40%من المياه المحلاة في العالم
نور الدين لـ”نون بوست” كشف أن أغلب الدول العربية تقع تحت خط الندرة المائية، ومعظم موارد المياه في المنطقة تأتي من خارج حدودها ومعظمها غير عربية، وهو تحد آخر ربما يمثل عقبة أمام العرب في المستقبل، فهناك أنهار مثل النيل والفرات ودجلة والعاصي والأردن واليرموك وتهامة وجوبا، وجميعها أحواض عابرة للحدود.
هذا بخلاف الحوض الرملي النوبي، وهو المشترك بين مصر وليبيا والسودان وتشاد، كذلك حوض شمال الصحراء الذي يجري تحت الجزائر وتونس وليبيا، والخزانات الجوفية بشبه الجزيرة العربية تتشاركها السعودية والأردن والإمارات والبحرين والكويت وقطر واليمن والعراق، ثم أخيرًا تشترك لبنان وسوريا والأردن في أحواض جوفية كلسية.
أستاذ الموارد المائية حذر من تفاقم الوضع مستقبلاً خاصة مع الحاجة الملحة للتوسع في المساحات المزروعة لمواجهة أخطار الفجوة الغذائية العربية المتوقعة في المستقبل، إذ يستورد الوطن العربي ما يقرب من 59% من غذائه من الخارج، لافتًا إلى أن القطاع الزراعي وحده يستنزف نحو 85% من الموارد المائية المتاحة وهي معضلة بحاجة إلى إستراتيجية مكتملة وبحث مطول.
التصحر أبرز المخاطر الناجمة عن ندرة المياه في المنطقة العربية
التحلية.. الحل المؤقت المعقد
سجلت المنطقة العربية أعلى معدلات تحلية مياه في العالم، في محاولة للتغلب على مشكلات ندرة المياه الحاليّة، حل مؤقت ينتج مشكلات معقدة على المديين، المتوسط والبعيد، ما دفع إلى التحذير منه لما ينطوي عليه من كوارث بيئية مستقبلية قد تدفع العالم للتحرك لوضع إستراتيجية خاصة به.
وتعد دول مجلس التعاون الخليجي أكثر مناطق العالم اعتمادًا على المياه المحلاة، إذ يصل إنتاجها لنحو 40% من المياه المحلاة في العالم، حيث تعتمد كل من الكويت وقطر عليها بنسبة 100%، فيما تحصل سلطنة عمان على 85% من احتياجاتها المائية عن طريق البحر، بينما تحصل السعودية على 70% من احتياجاتها من المياه من أكثر من 30 محطة لتحلية المياه، مما يجعلها أكبر منتج للمياه المحلاة في العالم.
ومن المفارقات التي تعزز من تفاقم الأزمة زيادة معدلات استهلاك المياه في دول الخليج رغم ندرتها واللجوء إلى خيارات وبدائل مؤقتة، فبحسب الإحصاءات يزيد معدل الاستهلاك في السعودية (913 مترًا مكعبًا) والإمارات (690 مترًا مكعبًا) بنسبة 91 و83% على التوالي عن المعدل، وبما يعادل 6 أضعاف معدل الاستهلاك للفرد في بريطانيا.
مما يفاقم الوضع سوءًا السياسات الخاطئة التي تتبناها الحكومات والأنظمة التي تفقد بسببها الكثير من مواردها المائية الأساسية
لكن الاعتماد على هذا البديل المؤقت لن يكون الحل الأمثل لتلك المشكلة، نظرًا لما يترتب عليه من مشكلات معقدة قد تعيق إمكانية الاعتماد عليه مستقبلاً، هذا بخلاف ما ينجم عنه من كوارث بيئية خطيرة، إذ إن المحلول الملحي الناتج عن عملية التحلية يعد مشلكة حقيقية، حيث إنه لا يعود بالإمكان إعادة رميه في البحر، ويصبح الحل الوحيد هو طمره في الأرض، وهذا يساهم في زيادة ملوحة المياه الجوفية، وهو أمر مدمر للبيئة.
من زاوية أخرى فإن لجوء بعض الدول إلى إعادة رمي تلك المحاليل إلى المياه مرة أخرى قد لاقى انتقادات حادة من علماء الأحياء البحرية، فالملوحة العالية وارتفاع درجة حرارة الأجاج يمكن أن يكون له تأثير مدمر على النباتات البحرية والكائنات الدقيقة التي تؤثر بدورها على كامل السلسلة الغذائية البحرية في المنطقة.
استشعار الخطر حيال أزمة المياه دفع بعض الحكومات إلى البحث عن موارد جديدة لتلبية احتياجاتها المائية والحفاظ على حصتها دون تأثير، كأن شددت من عقوبات الإسراف في المياه ومنعت زراعة بعض المحاصيل التي تستهلك معدلات مياه كثيرة، هذا بخلاف لجوء آخرين إلى معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها في الشرب مرة أخرى.
السعودية الأولى عالميًا في المياه المحلاة
صراعات مستقبلية
وفق ما توصلت إليه الدراسات السابقة وما أقرته الممارسات الحياتية اليومية الراهنة فإن المستقبل من الواضح أنه سيكون أكثر خطورة، في ظل الزيادة المضطردة في أعداد السكان وتضاعف حجم الاحتياجات المائية وهو ما يدفع إلى تقليل حصة الفرد من المياه خلال العقود القادمة إلى أكثر من النصف بحسب بعض التقارير.
ومما يفاقم الوضع سوءًا السياسات الخاطئة التي تتبناها الحكومات والأنظمة التي تفقد بسببها الكثير من مواردها المائية الأساسية، كما هو الحال في نهر النيل في مصر، والصراع على المياه في العراق وغيرها، حيث بات الفقر المائي على بُعد خطوات من شعوب تلك الدول التي كانت تعرف بالأمس بأنها منابع المياه الرئيسية في المنطقة العربية.
ومن مصادر تعميق الأزمة كذلك أن معظم منابع المياه الرئيسية للمنطقة العربية خارج حدودها، إذ إن هناك 8 دول فقط مجاورة للدول العربية تتحكم فيما يقرب من 85% من منابع المياه الداخلية، تلك المنابع التي تعاني هي الأخرى من صراعات بينية، وهو ما يرجع احتمالية نشوب نزاعات إقليمية بين الدول العربية بعضها البعض، وبينها وبين بعض الدول المجاورة، وتعد أزمة”سد النهضة” تجسيدًا عمليًا لهذه المعضلة.