هناك الكثير من الطرق الواضحة التي يؤثر فيها نمط حياتك على صحتك الجسدية والعقلية والنفسية، مثل العادات الغذائية والنوم والتمارين الرياضية والإجهاد الجسدي أو النفسي، وغيرها الكثير. وقد ركّزت العديد من الدراسات منذ عقود على هذه الجوانب بشكلٍ واضحٍ وصريح، إلا أنّ تلك التي ارتبطت بدراسة العلاقة يين الوحدة والصحة الجسدية والعقلية قد تكون أقلّ وضوحًا على الرغم من أنها واحدةً من أكثر أنماط الحياة المنتشرة بين الأفراد في القرن الواحد والعشرين.
بدايةً، يجب أنْ نفرّق بين نوعين مختلفين من الوحدة؛ الوحدة الذاتيّة أو الشخصية “subjective“، والتي عادةً ما تكون على شكل عاطفة أو شعورٍ بالوحدة حتى لو لم تكن وحيدًا، أيْ أنك قد تشعر بها حتى في حال وجودك بين أفراد عائلتك، أو بين جمعٍ من أصدقائك ومعارفك. ومن جهةٍ ثانية، هناك الوحدة الموضوعية “objective” والتي تُشير إلى حالةٍ فيزيائية للوحدة وغالبًا ما تكون في صورة عزلة اجتماعية واضحة وصريحة.
وبكلماتٍ أخرى، قد تكون الوحدة عبارة عن شعورٍ شخصيّ وذاتيّ بالفجوة بين مستوى رغبة الفرد بالاتصال والتواصل الاجتماعيّ مع الآخرين وبين المستوى الفعليّ لاتّصاله معهم. أيْ أنها الفرق الناتج ما بين الجودة المتصوّرة لعلاقات الشخص مع من حوله وبين علاقاته الفعليّة. أمّا العزلة الاجتماعية فهي مقياس موضوعي لعدد أو نسبة الاتصالات التي يمتلكها الناس. وبالتالي، فالأمر هنا يتعلّق بكمية العلاقات وليس بنوعها، إذ قد يختار البعض أنْ يكون لديهم عدد قليل من العلاقات والاتصالات دون أيّ مشكلة. وعندما يشعرون بالعزلة الاجتماعية، يمكنهم التغلّب على ذلك بسرعة نسبية عن طريق زيادة العلاقات وعدد الأشخاص الذين يمكن التواصل معهم.
هناك نوعان من الوحدة: الذاتية والتي عادةً ما تكون على شكل عاطفة أو شعورٍ بالوحدة حتى لو لم تكن وحيدًا، والوحدة الموضوعية والتي غالبًا ما تكون في صورة عزلة اجتماعية واضحة وصريحة.
الشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية مختلفان ولكنهما في الوقت نفسه متصلان ببعضهما البعض. إذ يمكن أن تؤدي العزلة الاجتماعية إلى الوحدة والعكس صحيح. أو قد يتطوّر الشعور بكليهما في نفس الوقت. وممّا لا شكّ فيه فكلاهما يشتركان أيضًا بالعديد من العوامل التي تؤثر على الصحة النفسية والجسدية والعقلية للأفراد يمكن أنْ تتطوّر مع الوقت إلى مشاكل جديّة.
فعلى سبيل المثال، وجدت إحدى الدراسات أنّ الأفراد الذين يعانون من الوحدة أو العزلة الاجتماعية معرّضون لخطر الوفاة المبكّرة نظرًا للعديد من الآثار النفسية والسلوكية والبيولوجية التي تؤدي بها العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة إلى تدهور الصحة وبالتالي إلى تسريع الوفاة. الدراسة التي شملت ما يقارب 3.4 مليون مشارك، توصّلت إلى أنّ كلا الشعوريْن يمكن أن يؤدي إلى زيادة خطر التعرض للوفاة المبكرة بنسبة 30٪، وهي النسبة التي تفوق خطر البدانة وانعدام النشاط البدنيّ وتلوث الهواء.
دراسة استمرّت لـ80 عامًا.. العلاقات الجيدة هي ما يبقينا أحياءً
في واحدة من أكثر الدراسات ندرةً وإثارةً للانتباه، قام مجموعة من الباحثين في جامعة هارفارد بتتبّع حياة 724 رجلًا على مدى 80 عامًا متواصلًا، بدءًا من سنّ المراهقة وحتى سنّ الشيخوخة، لمعرفة ما يُبقي الناس سعداء وفي صحة جيدة. أمّا أكثر النتائج وضوحًا من بين تلك التي توصّلوا إليها فكانت أنْ جودة العلاقات هي أول مؤشر على الصحة البدنية وطول العمر. العلاقات الجيدة تجعلنا أكثر سعادة وأكثر صحة.
روبرت والدينجر- المسؤولة عن واحدة من أكثر الدراسات الطولية الشاملة في التاريخ والتي هدفت لدراسة سعادة الأفراد ورضاهم
وقد تبين أنّ الأشخاص المرتبطين جيّدًا بعائلاتهم وأصدقائهم ومجتمعهم هم أكثر سعادةً وأكثر صحة جسديًا، وبالتالي يعيشون حياةً أطول من أولئك الذين يعانون من مشاكل الوحدة والعزلة الاجتماعية، والذين عادةً ما يبدأون بمعاناة المشاكل الصحية في منتصف أعمارهم، أو ربّما قبل ذلك. وفي جزء حديثٍ من الدراسة، وجد الباحثون أن النساء اللواتي يشعرن بالارتباط بشكل آمن مع شركائهن أقلّ اكتئابًا وأكثر سعادة، ويمتلكنَ أيضًا وظائف ذاكرة أفضل من اللواتي يعانين من من نزاعات أو مشاكل زوجية متكررة.
الوحدة تزيد من إجهادك، وتؤدي إلى أمراض مزمنة
من المحتمل أنك تعرف أن جسمك يُنتج المزيد من الكورتيزول عندما تكون مرهقًا أو مجهدًا، أليس كذلك؟ لذا عليكَ أنْ تعرف أيضًا أنّ مستويات الكورتيزول المرتفعة في ذلك الوقت تصبح أقلّ عندما تتواصل مع شخصٍ ما أو تختلط بمن حولك. ولهذا السبب كثيرًا ما ينصح خبراء الصحة النفسية والعقلية بأنّ التحدث عن المشاكل والصراعات مع صديقٍ أو زميلٍ، يخفّف من فائض الكورتيزول المفرَز، ما يؤدي إلى مزيدٍ من الراحة النفسية والجسدية.
وقد وجدت إحدى الدراسات أنّ الأشخاص الوحيدين عادةً ما تفرز أجسامهم مستوياتٍ أعلى من الكورتيزول، لا سيّما في الصباح الباكر، ولهذا غالبًا ما تراهم يقضون وقتًا أطول في السرير قبل النهوض، أو قد يعانون من الأرق والاستيقاظ المتكرّر خلال ساعات الليل، أو من انخفاض جودة نومهم بشكلٍ عام. وفيما يتعلّق بهرمون الكورتيزول أيضًا، فإنّ زيادة إفرازه قد تؤدي إلى الالتهاب وصعوبة الشفاء من الأمراض، إذ يدخل جهاز المناعة في “صدمة” عندما يغمر الكورتيزول الجسم، مما يجعله أكثر عرضة للأذى والالتهاب.
ينصح خبراء الصحة النفسية والعقلية بأنّ التحدث عن المشاكل والصراعات مع صديقٍ أو زميلٍ، يخفّف من فائض الكورتيزول المفرَز، ما يؤدي إلى مزيدٍ من الراحة النفسية والجسدية.
عوضًا عن ذلك، قد تؤدي الوحدة أيضًا إلى العديد من الأمراض كالسرطان ومخاطر الإصابة بأمراض القلب والضغط والنوع الثاني من داء السكري والخرّف، خاصة لدى أولئك الذين يعانون من الوحدة المزمنة لسنواتٍ طويلة.
الزواج يقلّل من خطر السلوكيات غير الصحيّة ويقلّل من معدّلات الوفاة مقارنةً بالوحيدين أو الذين يقضون فترةً طويلة من حياتهم دون شريكٍ عاطفيّ أو زوج
فيما وجدت دراسة أُجريت في عام 2007 أنّ الدعم الاجتماعي قد يُحسِّن من الاستجابة الكيميائية العصبية التي توفر المرونة اللازمة للتعامل مع التوتر والضغط النفسيّ في الحياة اليومية. وأظهرت النتائج التي توصلت إليها الدراسة أيضًا أن الدعم الاجتماعي قد يقلل من الحساسية البيئية والوراثية للتوتر ويمنح القدرة على مقاومة الإجهاد. وعلاوةً على ذلك، قد تؤدّي الوحدة إلى مستويات أعلى من الإجهاد والتوتّر المتخيّلين أو المتصوّرين، حتى في أوقات الاسترخاء والراحة.
وتشير دراسة أخرى إلى أنّ الزواج، على سبيل المثال، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بانخفاض احتمالية الانخراط في سلوكيات محفوفة بالمخاطر مثل التدخين وتعاطي المخدرات والشرب المفرط. كما وجدت أنّ المتزوجين لديهم معدلات وفيات أقل، وهو غالبًا ما يُعزى إلى الالتزام بعادات صحية أكثر مقارنةً بأولئك الوحيدين أو الذين يقضون فترةً طويلة من حياتهم دون شريكٍ عاطفيّ أو زوج.
جيناتك قد تنقل الوحدة!
يبدو الأمر غريبًا للوهلة الأولى، لكنّ العديد من الدراسات الحديثة توصّلت إلى أنّ الوحدة بمشاعرها المعقّدة وتبعيّاتها الكثيرة قادرة على التغيير في جياناتنا. فوفقًا لعالم النفس الاجتماعي في جامعة شيكاغو، جون كاثيوبو، فإنّ الوحدة أكثر خطورةً ممّا يعتقد عامة الناس، فهي تتعدّى علامات الاكتئاب والقلق والتوتّر. إذ غالباً ما نعتقد أن الوحدة تنشأ بسبب البيئة المحيطة بنا وتجارب الحياة فقط، لكن أظهرت بعض الدراسات أنّ الجينات يمكنها أيضًا أن تلعب دورًا في شعورنا بذلك. وهذا قد يجيبنا على سؤالنا عن سبب شعور شخصان مختلفان بشعورين مختلفين تمامًا على الرغم من تعرّضهما لنفس البيئة وخوضهما لنفس التجربة.
العديد من المخاطر والأعراض الأخرى تنتج مع شعورنا بالوحدة أو بالعزلة الاجتماعية، اضطرابات الأكل على سبيل المثال، مثل فقدان الشهية والنهَم المرضي واضطراب الإفراط في تناول الطعام. لذلك، يمكن أن تكون الوحدة عاملًا في زيادة الوزن أو فقدانه. كما قد تؤدي إلى الخرَف ومرض ألزهايمر، وحتى أنها تزيد من احتمالية تعرّضك لأمراضٍ خفيفة كالرشح والإنفلونزا. فيما كشفت دراسة أخرى أنّ نظام المناعة لدى الأشخاص الذين يعانون من الوحدة يركّز على محاربة البكتيريا بدلًا من الفيروسات، ممّا يعني أن الأشخاص الوحيدين هم أكثر عرضة للإصابة بالعدوى الفيروسية.
بالمحصّلة، ساعد التواصل الاجتماعي البشرَ على الاستمرار والبقاء، وسعوا له على مدى التاريخ. لذلك فانعدام وجوده يشكّل خطرًا وتهديدًا على صحتنا الجسدية والنفسية والعقلية. فالعلاقات والصداقات وجدت لتحمينا من التعرّض للسلوكيات الخطرة أو لتدعمنا في حال تعرّضنا لها.