“جنوب مصر لم يعد منسيًا”، “الصعيد عروس المشروعات التنموية في عهد السيسي”، “صعيد مصر على الخريطة التنموية”، “هكذا شكَّل الرئيس السيسي واقعًا جديدًا لمحافظات الصعيد”، “في عهد السيسي الصعيد على الطريق”، “الرئيس يفتتح مشروعات كبرى بمحافظات الصعيد”، “السيسي يصدر قانون إنشاء هيئة تنمية الصعيد”.
هذه العناوين الفضفاضة وغيرها الكثير من “المانشتات” غالبًا ما تحتل الصفحات الأولى بالصحف المصرية عقب زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لمحافظات الصعيد “الوجه القبلي” البالغ عددها 8 محافظات من أصل 27 محافظة مصرية، رغم أن بعض هذه المحافظات لم يحظ بزيارته خلال 5 سنوات تقريبًا من حكمه.
حظيت محافظة أسوان بواحدة من هذه الزيارات، لكن لم تكن التنمية غرضها، بل كان حضور مؤتمر الشباب الذي انعقد في يناير 2017، قال السيسي وقتها: “أهل الصعيد دائمًا يثبتون أنهم حرَّاس الأمة”، واكتفى بالوعود لأهالي الصعيد بإنشاء بعض المشروعات في عدة محافظات، لكن لا يمكن توقع أنه لمجرد أن النخبة الحاكمة قد قررت التوقف عن التحيز ضد الصعيد فإن سياسات الدولة ستترجم ذلك التوجه.
التمييز ضد الصعيد.. أن تزيد من الشعر بيتًا
يعاني أهالي الصعيد من الإهمال المستمر، سواء كان على المستوى الأمني أم الاجتماعي أم الاقتصادي، واستمر مسلسل الإهمال مع استيلاء عبد الفتاح السيسي على الحكم، بل تعمد نظام السيسي الإساءة لأهالي الصعيد، حينما قال اللواء أبو بكر الجندي الذي تولى حقيبة التنمية المحلية في التعديل الوزاري بحكومة شريف إسماعيل: “سبب الأزمة في مصر هم أهل الصعيد الذين تسببوا في انتشار العشوائيات في مصر”، اعتذر الوزير لكن الاعتذار لم يشف الغضب الموجود تجاه سياسات التهميش.
السيسي خلال زيارته لمحافظة سوهاج
وفي واقعة سابقة، وتحديدًا في مايو 2015، كانت وزيرة التطوير الحضري والعشوائيات ليلى إسكندر قد فاجأت المشاركين في المؤتمر السنوي لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، خلال إلقاء كلمتها، بطرح نفس الفكرة من أنها تريد التخلص من الصعايدة وطردهم ومنعهم من دخول القاهرة، ولم تكتفِ بذلك، إنما أرجعت سبب أزمة العشوائيات إلى أهل الصعيد الذين يهجرون محافظاتهم ويتجهون للقاهرة، ونظرًا لفقرهم وعدم قدرتهم على شراء وحدات سكنية، قرروا بناء العشش والبيوت العشوائية غير المكلفة.
لم تعبر هذه المواقف إلا عن إرث قديم، فقد سبق ذلك واقعتان مماثلتان تكشفان عنصرية الأنظمة العسكرية الحاكمة ضد محافظات الصعيد، ففي عام 1964 تقدم زكريا محيي الدين، وكان رئيسًا للوزراء حينها، بمشروع طرد الصعايدة ومنع دخولهم القاهرة، وعرضه على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، زاعمًا أن القرار سيقضي على ما أسماه وقتها بالعشوائية والزحام، لكن عبد الناصر انزعج من المشروع، كونه يحمل الأصول الصعيدية.
تكررت الواقعة في عهد مبارك، ففي نهاية عام 2003، حاول الدكتور عبد الرحيم شحاتة، الذي كان يشغل منصب محافظ القاهرة آنذاك، إحياء مشروع زكريا محيي الدين بترحيل الصعايدة من القاهرة، للتخلص من الزحام، وهنا ثار أبناء الصعيد من مسؤولين وبرلمانيين وإعلاميين ضده، فما كان منه إلا التراجع، لكن ترك القرار مرارة في قلوب الصعايدة.
توجه الدولة الجانب الأكبر من الموارد والاستثمارات لبناء مدن جديدة في الصحراء، بدعوى الخروج من الوادي الضيق الذي زاده “الصعايدة” زحامًا
هكذا كانت الحكومات المتعاقبة تنظر إلى الصعيد على أنه منفى ومنطقة مغضوب عليها، لذلك توجّه الدولة الموارد للعاصمة والمدن الرئيسية، فبدلاً من أن توجه الدولة الجانب الأكبر من الموارد والاستثمارات إلى المحافظات الملتهبة بالعنف وتعاني الفقر والبطالة، توجهها لبناء مدن جديدة في الصحراء، بدعوى الخروج من الوادي الضيق الذي زاده “الصعايدة” زحامًا.
وهناك عدة عوامل ساهمت في تفاقم مشكلة الفقر بالصعيد أبرزها غياب العدالة الاجتماعية وعدم التوزيع العادل للثروة، كما أثرت الأوضاع الاجتماعية والارتباط بالعائلات الكبيرة في الصعيد على العمل السياسي أكثر من مناطق مصر، ويعزو كثيرون أسباب ذلك إلى ارتفاع نسبة الأمية والبطالة.
لكن بعدما فشل نظام السيسي في شراء ولاء الناس له عبر الإنفاق على الدعم وقطاعات التعليم والصحة والتنمية في الصعيد اعتمد ألاعيب مالية لمحاولة تعويض ذلك، وتتركز بشكل رئيسي في الإنفاق على أدوات السيطرة المادية المباشرة، لأجهزة الأمن التي اقتطعت جزءًا كبيرًا من موازنة الدولة، والإنفاق على أدوات السيطرة الناعمة ممثلة في وزارتي الثقافة والأوقاف، وإقامة المؤتمرات والمنتديات التي حظيت محافظات الصعيد على واحد منها.
بلغة الأرقام
تشكل 8 محافظات منطقة الصعيد “الوجه القبلي”، وهي محافظات (الفيوم، بني سويف، المنيا، أسيوط، سوهاج، قنا، الأقصر، أسوان)، وتضم 22 مليون نسمة يشكلون 22% من سكان مصر، لكن المخصصات التي تُرصد لهم في الموازنة أو في الخطط الحكومية أقل من هذه النسبة بكثير، فحجم التعامل بين مصر والبنك الدولي يتيح تقديم 2.5 مليار دولار الجزء الأكبر منها لتنيمة صعيد مصر.
ورغم مشاهد الأبراج السكنية والمنازل الفخمة وأشكال التحضر التي تبدو للزائرين، فإن الفقر والبطالة ما زالا يحاصران محافظات جنوب الصعيد بمصر، وتحتل العشوائيات مساحات كبيرة وتؤكد قتامة أوضاع السكان المعيشية، مقارنة بمحافظات الوجه البحري.
المناطق العشوائية تعكس قتامة الوضع الاقتصادي في محافظات الصعيد
وتأتي محافظات الصعيد في المراتب الأولى في الفقر والبطالة، فبحسب تقرير حكومي صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2016، يقع تحت خط الفقر 66% من سكان محافظتي أسيوط وسوهاج، تليهما محافظة قنا بنسبة 58%، و44% من سكان محافظة بني سويف، مقابل نسب أقل في محافظات الوجه البحري، حيث محافظة بورسعيد بنسبة 6.7%، ومحافظة الإسكندرية بنسبة 11.6%.
وبحسب الدكتور حامد مبارك المستشار ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإن الفقر يميل إلى التركيز في صعيد مصر، وبخاصة المناطق الريفية، فنسبة الفقراء هناك تصل إلى 88% من الإجمالي العام للسكان، كما أوضحت الدراسات التي أجريت على الفقر في مصر أن كل 10 فقراء مصريين منهم 7 في محافظات صعيد مصر “الوجه القبلي”.
ومع زيادة نسب الفقر يقل عدد العاملين، ففي حين تشير الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن معدل البطالة في مصر تراجع لـ10.6% خلال في الربع الأول من عام 2018، تتعدى هذه النسبة في الوجه القبلي إلى 20%.
تمثل النسبة الكبرى من الأمية في الوجه القبلي، حيث تبلغ 43%، بينما ترتفع النسبة لدى الإناث إلى 51.8%
ومع تدهور سعر الجنيه في مواجهة الدولار، والزيادات الكبيرة والمتتالية في أسعار أكثر السلع ومن بينها سلع أساسية، من المؤكد أن تلك النسبة ارتفعت كثيرًا، فضلاً عن أن أوضاع الصعيد ستزداد سوءًا مع عودة آلاف العاملين من دول الخليج، حيث مواجهة “كارثة” تقليص العمالة المصرية هناك.
كما زادت زيادة أسعار الطاقة من معاناة المعتمدين على الزراعة، وهي النشاط الرئيسي لأبناء الوجه القبلي، وبسبب الأوضاع المعيشية الصعبة، شهدت مصر في السنوات الأخيرة عشرات حالات الانتحار معظمها في محافظات الوجه القبلي، وتعدى الوضع الانتحار ليصل للقتل بسبب الأزمات الاقتصادية.
يرجع ذلك إلى تدني مستوى المعيشة والدخل وخاصة في الريف، فمتوسط الدخل الشهري في مصر لا يتجاوز الــ164 دولارًا، في حين يقدَّر متوسط الدخل في ناميبيا بست مرات مما هو عليه في مصر، بحسب كشفت النسخة الأخيرة من مؤشر “Numbeo” لمتوسط الراتب الشهري في العالم لسنة 2017.
كذلك تمثل النسبة الكبرى من الأمية في الوجه القبلي، حيث تبلغ 43%، بينما ترتفع النسبة لدى الإناث إلى 51.8%، في حين تبلغ نسبة المتسربين من التعليم بين سن 6 و18 سنة 20% في محافظات الصعيد مقابل 41% في المتوسط الوطني، فيما تمثل الهجرة الداخلية والخارجية في مصر نسبة 80% ومصدرها الصعيد.
من السادات إلى السيسي
بدأ مسلسل إهمال الصعيد مبكرًا في مصر، وفي كتابه “النظام القوي والدولة الضعيفة”، الصادر عام 2004، يستعرض سامر سليمان، أحد مؤسسي الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، تطور أوضاع الصعيد على الخريطة السياسية لثلاثة رؤساء المصريين بدءًا من محمد أنور السادات مرورًا بجمال عبد الناصر وصولاً إلى حسني مبارك.
منذ عام 1952 لم يكن هناك حاجة ملحة تدفع الدولة إلى السعي نحو تقليص الفجوة بين الشمال والجنوب، حيث لم يكن النظام وقتئد – لطبعه الاستبدادي – بحاجه إلى ضمان تأييد إقليم معين أو التخوف من آثار عدم تنميته، ومن ثم نجد أن الرئيس جمال عبد الناصر رغم أصوله الصعيدية (محافظة أسيوط) لم يهتم كثيرًا بتنمية الصعيد.
ظلت اشتراكية عبد الناصر غائبة عن الصعيد، ويتضح ذلك في تخصيص أكثر من نصف النشاط الصناعي لـ4 محافظات هي القاهرة والإسكندرية والسويس وبورسعيد في حين حصل الصعيد على 15% فقط بينما بلغت نسبة سكانه 30% من إجمالي سكان مصر، ما أدى إلى تنامي الفجوة بينه وبين الشمال.
أظهرت تلك السياسات الناصرية تحيز الدولة ضد الصعيد في حقبة الخمسينيات والستينيات، إلا أن هذا التحيز لم ينقطع فيما بعد، إذ استمر في عهد أنور السادات أيضًا، فبلغت نسبة الاستثمارات العامة المخصصة للصعيد 9% فقط من إجمالي استثمارات الدولة، وهو ما انعكس بالطبع على مختلف نواحي الحياة بالصعيد، حيث ظهر التفاوت الكبير بين متوسط دخل الفرد في الصعيد ومتوسط الدخل ببقية المحافظات.
لم تنتبه الدولة لخطورة ذلك الوضع رغم انتشار الجماعة الإسلامية في الصعيد واغتيالها للرئيس السادات ومحاولة الانقلاب الفاشلة بأسيوط، واستمرت حالة التمييز السلبي الذي انعكس على نواحي الحياة بالصعيد، فنجد أنه عام 1980 على سبيل المثال كان نصيب المواطن في سوهاج من الاستثمارات العامة نحو 6.6% من نصيب المواطن في القاهرة، كما حصل الصعيد ككل على إجمالي 17.2% من هذه الاستثمارات على الرغم من أن عدد سكان الصعيد كان يتجاوز 32% من إجمالي عدد السكان.
لم تفلح الدولة في دفع مستثمري القطاع الخاص بتوجيه استثماراتهم نحو الصعيد، نظرًا لتهالك البنية التحتية من ناحية، وعدم استقرار الأوضاع الأمنية من ناحية أخرى
وفي عهد مبارك، تفاقم انعدام العدالة بين الشمال والجنوب، ولم يأت هذا التفاوت من فراغ، إذ كان نتيجة حتمية لاستثمارات الدولة المتحيزة ضد الصعيد، فمثلاً، انخفض نصيب الصعيد في الخطة الخمسية الأولى (1987-1991) من 16% إلى أن وصل 15.5% من الاستثمارات العامة، ولم تفلح الدولة في دفع مستثمري القطاع الخاص بتوجيه استثماراتهم نحو الصعيد، نظرًا لتهالك البنية التحتية من ناحية، وعدم استقرار الأوضاع الأمنية من ناحية أخرى.
يفسر الكاتب الراحل سامر سليمان ذلك المشهد المتكرر حتى الآن في عهد السيسي بقوله: “التحولات داخل النظم الاستبدادية لا تكون لصالح الديمقرطية أو مزيد من الحريات بل تحتفظ ببعض الثوابت وعلى رأسها الطبيعة الاستبدادية، مع ملاحظة انخفاض الميل الاستبدادي مع قدوم الرئيس الجديد، ولكنه بمرور الوقت يزيد من جديد”.