“أنت محاصر في كهف مظلم، مقيد بالسلاسل ومجبر على النظر إلى جدار أمامك، وأنت في هذا الموقف منذ ولادتك! على هذا الجدار، سترى ظلالًا من الأشكال والأشياء مضاءة بنار موضوعة خلفك”!
إنها واحدة من أقدم التجارب الفكرية في تاريخ الفلسفة ألا وهي الحكاية الرمزية المسماة بالكهف لصاحبها أفلاطون التي تعد وسيلة لمساعدة جمهوره على تخيل عالم أو حقيقة خارج العالم الذي يعرفونه، في حكايته الرمزية المسماة بالكهف المذكورة في كتابه الشهير “الجمهورية”، يقدم أفلاطون لمحة بصرية لافتة للنظر للتمييز بين المعرفة والاعتقاد، وبذلك يقدم لنا ما يمكن اعتباره أقرب صورة لـ”القمرة” المبكر.
وفي تلك الحكاية كما يصورها أفلاطون تمثيل لغير المستنيرين فلسفيًا كسجناء مقيدين منذ ولادتهم في كهف تحت الأرض، غير قادرين على رؤية أي شيء سوى ظلال متحركة ملقاة على جدار خلفي، هذه الظلال التي يرونها هي الحقيقة الكاملة، لكن الفيلسوف لن يكتفي بهذا، سوف يكسر قيوده ويتجه نحو النور ويشرع في رحلة محفوفة بالمخاطر من الكهف إلى العالم الخارجي، في بادئ الأمر، سوف ينبهر بضوء النهار ولكن في النهاية سيكون قادرًا على الرؤية بوضوح، وعند القيام بذلك، سيرى أن ما اعتاد أن يأخذه للواقع لم يكن سوى ظل ووهم، عندها فقط قد يصل إلى المعرفة الحقيقية والتنوير الفلسفي كما يوضح أفلاطون.
قد يجعلنا كهف أفلاطون مألوفًا للغاية للسينما الحديثة، فنحن نجلس في الظلام لمشاهدة الصور المسقطة التي تلعب بها الدراما على الشاشة أمامنا
يصر أفلاطون على مسؤولية العودة إلى الكهف وإبلاغ زملائه السجناء السابقين بحالتهم الوهمية، ومع ذلك، لن يتم الترحيب بمحاولاته – في الواقع “سيقتلونه إذا ما وضعوا يده عليه”، أفلاطون هنا، دون شك، يشير إلى حياة (وموت) صديقه ومعلمه، سقراط، الذي حكم عليه بالموت من الجمعية الأثينية من أجل الصمود وإفساد الشباب.
وتعد النظرية من أشهر نظرياته الفلسفية على مدى التاريخ وفيها مجازًا واقعيًا لحياتنا وكيف يؤثر الواقع على رؤيتنا للأمور ووصولنا إلى الحقيقة، فرغم بساطتها فإنها فلسفة من الممكن أن تقودنا لاستخراج الكثير لتخبرنا كيف بوسعنا أن ننظر للعالم من زوايا تختلف عن تلك التي اعتدنا النظر منها، فحين ندرك أن الأفكار هي نتاج واقع أو محيط أو قيود ساهمت بتشكيل قناعاتنا سيساعدنا ذلك بلا شك لتقبل الاختلاف خاصة في الأفكار.
يبني أفلاطون فكرته الجوهرية في هذه النظرية على أن ما نراه أو ما اعتدنا أن نراه قد لا يكون الواقع أو الحقيقة بل مجرد ظلال خادعة للحقيقة، ولذا فالحواس بالنسبة له تخدع ولا يمكن الاعتماد عليها.
قد يجعلنا كهف أفلاطون مألوفًا للغاية للسينما الحديثة، فنحن نجلس في الظلام لمشاهدة الصور المسقطة التي تلعب بها الدراما على الشاشة أمامنا.
“الليلة الماضية كنت في مملكة الظلال، إذا كنت تعرف فقط كم هو غريب أن تكون هناك، إنه عالم دون صوت ودون لون، كل شيء هناك – الأرض والأشجار والشعب والماء والهواء – يغمس بلون رمادي رتيب، الأشعة الرمادية للشمس عبر السماء الرمادية، والعيون الرمادية في الوجوه الرمادية، وأوراق الأشجار الرمادية الرمادية، إنها ليست حياة بل ظلالها، إنها ليست حركة ولكن شبحها غير السليم”.
ماكسيم غوركي عند حضوره لفيلم لوميير عام 1896
ومع ذلك، هناك فرق مهم للغاية بين السجناء في الكهف ومرتادي السينما المعاصرين، حيث إن سجناء أفلاطون لا يدركون حقيقة أن ما يرونه هو مجرد ظلال ووهم، فهم يأخذون هذا الأمر إلى حقيقة، من ناحية أخرى، على الرغم من التقدم التقني في الفيلم، يمكننا تمييز ما نراه على الشاشة من “العالم الحقيقي” خارج السينما، ويمكن العثور على قصة أفلاطون في العديد من الأفلام بشكل مباشر كفيلم كونفيرمستا أو كلوكورك أورانج أو غير مباشر كما سنرى الآن:
1- عروض ترومان The Truman Show (1998(
من الأفلام الرمزية الأكثر وضوحًا للكهف، حيث يحكي الفيلم عن ترومان (جيم كاري) الذي يعيش حياته بشكل طبيعي على ما يبدو، وما لا يدركه ترومان أن حياته في الواقع هي عرض تليفزيوني يتم تصويره باستمرار وبثه على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع للمشاهدين في جميع أنحاء العالم، ويتضمن هذا الكثير من العمل، من مئات الكاميرات إلى العشرات من الممثلين الذين يلعبون دورًا خطيرًا في حياة ترومان حتى العمل المكثف الذي يجب القيام به لجعل المجموعة تبدو قابلة للتصديق.
وبطبيعة الحال، في مرحلة ما يجب أن ينهار كل ذلك ويدرك ترومان زيف كل شيء في حياته، وكلما كان يتحقق أكثر من ذلك الزيف كان يشعر بخيبة الأمل، ولكنه يتحرر في النهاية من ذلك الكهف!
2- ماتركس (المصفوفة)
يواجه توماس أندرسون وهو مبرمج ومخترق كمبيوتر في عمله وهواياته عبارة غامضة “المصفوفة”، في نهاية المطاف يلتقي بمورفيوس الذي يساعده على الرؤية خارج الكهف، ما يجعله يستطيع رؤية الواقع وتجربته كما لم يتمكن من قبل، لكن عليه أن يقاتل لمشاركة الحقيقة مع الآخرين.
3- جزيرة المصرا Shutter Island
يسافر تدي (ليوناردو ديكابريو) كمحقق برفقة محقق آخر إلى مصحة للمرضى النفسيين من المجرمين في ميناء بوسطن بحثًا عن مريض مفقود، وعند وصولهم تبدو الكثير من الأشياء بشكل غريب، ويتم إيجاد المريض المفقود في نفس الوقت الذي يبدأ تيدي من المعاناة من الصداع النصفي والكوابيس ما يجعل موظفي المشفى غير جديرين بالثقة بالنسبة لتيدي.
4- Synecdoche، New York
يعتبر هذا الفيلم تطبيقًا عكسيًا لنظرية الكهف، حيث يترك كادن كوتارد الحقيقة ويدخل الكهف كمخرج مسرحي، وبعد مواجهته لسلسلة من الأحداث المأساوية، يصبح المخرج مهووسًا بأحد العروض الذي يكرس حياته كلها ليجعل منه تحفة فنية، ويطمس الفيلم خيال كادن بحقيقة العالم من حوله، فيصبح من الصعب معرفة الشخصيات الحقيقية من الشخصيات الموجودة بعرضه المسرحي.