افتتح الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، أمس الإثنين 19 من نوفمبر/تشرين الثاني 2018، القسم البحري من خط “السيل التركي”.
وعن المشروع، قال وزير الطاقة الروسي ألكساندر نوفاك: “مشروع خط السيل التركي من أهم المشاريع الإستراتيجية المُشتركة بين موسكو وأنقرة”، مضيفًا، في مقابلة له مع الأناضول، أن هذه الصيغة من المشاريع تضمن علاقة إستراتيجية وثيقة بين البلدين، فهل فعلًا يُحقق خط “السيل التركي” ذلك؟ وهل يُشكّل نقطة تحول في المسار الإستراتيجي للتوجه التركي؟
خط “السيل التركي”
قبل الإجابة عن تساؤل المقال، لا بد من سبر أغوار تفاصيل المشروع الذي يُعتبر الثاني، ولكن الأكبر والأوسع بين تركيا وروسيا.
لقد طُرحت فكرة إنشاء خط السيل التركي “تركيش ستريم” لأول مرة، على هامش زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لأنقرة، في ديسمبر/كانون الأول 2014، وقد جاء عرض المشروع في إطار بحث روسيا عن بديل لمشروع الخط الجنوبي “ساوث ستريم” الذي كان من المُخطط إنشاؤه بين روسيا وبلغاريا، غير أن الضغوطات الأوروبية على بلغاريا، حالت دون تحوّل المشروع لواقع، كما أن تدهور العلاقات بين روسيا وأوكرانيا، دفع روسيا للبحث عن بديل، وقد وجدت ضالتها في تركيا.
ينطلق مشروع خط أنابيب “السيل التركي” من الأراضي الروسية، مرورًا بالبحر الأسود، ليدخل الأراضي التركي عبر ولاية قرقرلار إيلي الشمالية الغربية، ومنها إلى الأراضي اليونانية
وفي 11 من أكتوبر/تشرين الأول 2016، تم إبرام اتفاقية تمديد الخط بين البلدين، ويحتفل البلدان اليوم بانتهاء المسار البري للخط، وبدء عملية إنشاء المسار البحري التي تسبق خطوة إنشاء القسم الثاني من المسار البري داخل الدول الأوروبية التي سيمر عبرها الخط.
وينطلق مشروع خط أنابيب “السيل التركي” من الأراضي الروسية، مرورًا بالبحر الأسود، ليدخل الأراضي التركي عبر ولاية قرقرلار إيلي الشمالية الغربية، ومنها إلى الأراضي اليونانية.
يتألف المشروع من 4 أنابيب، تصل القدرة الاستيعابية للواحدة منها ما يقارب 15 مليار و750 متر مكعب من الغاز الطبيعي، ويبلغ طول المشروع ألف و117 كيلومترًا، 910 كيلومترات منها تحت قاع البحر الأسود، و260 كيلومترًا فوق سطح الأرض، وفيما يُتوقع أن يُضخ عبر هذا المشروع نحو 63 مليار مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا، يُنتظر أن تحصل تركيا على قرابة 14 مليار مترمكعب من هذه المادة سنويًا.
وتصل التكلفة الإجمالية المُتوقعة للمشروع ما يناهز 19 مليار دولار أمريكي، تتكفل شركة غاز بروم الروسية بإنشاء القسم البحري، بينما تتشارك البلدان في إنشاء القسم العابر للأراضي التركية.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين
مميزات المشروع بالنسبة للبلدين
ـ تحوّل تركيا لصنبور يوزع الطاقة:
لم يتم إنشاء المشروع على نحوٍ يجعل تركيا مجرد بلدٍ حاضن للمشروع، بل أوكل لها مهمة توزيع الغاز بعد أن يصل إليها، ما يجعلها قريبة من تحقيق المشروع الإستراتيجي القائم على التحوّل لصنبور يوزع الطاقة.
ـ توفير مصادر طاقة رخيصة لتركيا:
بفعل هذا المشروع، ستحظى تركيا بفرصة توفير 14 مليار مُكعب من الطاقة، وهذا سيوفر عليها من تكاليف الإنفاقات التي تُنفقها سنويًا لاستيراد الطاقة، وبالتالي رفع مستوى أمن الطاقة التركي.
المُرشح أن يُعطي الخط وغيره من الاستثمارات التي ستنتج عنه، تركيا فرصةً للعب على تناقضات توازن القوى، حيث تميل لرفع مستوى الاستثمارات الاقتصادية الكُبرى مع روسيا
رفع النفوذ الدبلوماسي لتركيا:
يمكن أن تغدو تركيا مركزًا حيويًا لنقل الطاقة، وذلك يجعلها دولة محورية محتضنة لأهم صنابير الطاقة حول العالم، وتحكمها بأهم محور اقتصادي في وقتنا الحاليّ، على الأرجح، يمنحها قوة سياسية مؤثرة تجاه الدول المستخدمة لها، وذلك يجعلها صاحبة دور دبلوماسي وقرار سياسي فاعلين على الساحة العالمية، لا سيما في ظل أن الدول التي تنقل من خلالها الطاقة هي دول مركزية حول العالم مثل روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، وذلك يُشير إلى رجاحة كفة ميزان القوى الإقليمي والعالمي إلى تركيا التي، على الأرجح، قد نرى لها نشاطًا دبلوماسيًا سياسيًا ملموسًا في القضايا الإقليمية والعالمية.
والمُرشح أن يُعطي الخط وغيره من الاستثمارات التي ستنتج عنه، تركيا فرصةً للعب على تناقضات توازن القوى، حيث تميل لرفع مستوى الاستثمارات الاقتصادية الكُبرى مع روسيا، في حال أحدثت الدول الغربية ضغطًا عليها، وتجنح لتنسيق أكبر مع الغرب، وبالتالي تُهمل مسار التعاون الاقتصادي الإستراتيجي مع روسيا، في حال لم تُحدث روسيا توجهات تحاكي طموحها.
تأمين الجبهة الداخلي:
إن تحكم تركيا بصنابير الطاقة المركزية قد يجبر بعض دول الاتحاد الأوروبي على إيقاف الدعم اللوجستي والإعلامي لحزب العمال الكردستاني، لضمان عدم الاحتدام مع تركيا التي تمسك بزمام صنابير الطاقة التي تشكل العمق الأساسي للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي الأوروبي.
يعتمد أغلب الشعب التركي على الغاز الطبيعي والطاقة الكهربائية للتدفئة، وإلى جانب ذلك يقاسي الشعب التركي من أسعار هائلة للغاز الطبيعي والنفط
رفع مستوى أمن الطاقة التركي:
تكون معادلة أمن الطاقة إيجابية في حين كان هناك تنويع للطاقة، حيث بات أمن الطاقة يشكل النقطة الأكثر حساسية حول العالم، وقد ظهر توجس الحكومة التركية الشديد من زعزعة أمن الطاقة الخاص بها بعد أزمتها السياسية مع روسيا، حيث حاولت تفادي تلك الزعزعة من خلال مطالبة الدول المصدرة برفع كمياتها لتخفيف حدة التبعية لروسيا، ولعل حاجة روسيا الماسة لمصدر اقتصادي مستمر يمول حربها في سوريا بعد فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات سياسية واقتصادية عليها هي التي حالت دون قطعها للغاز عن تركيا التي تغطي ما نسبته 55% من حاجتها من الغاز الطبيعي عبر الاستيراد من روسيا، ولكن مع تنوع مصادر الطاقة سيصبح أمنها المتعلق بالطاقة مستقرًا، ولن تخشى من أي زعزعة قد تصدر عن أزمة سياسية مع إحدى الدول الموردة أو المصدرة.
تدعيم القطاعات الاقتصادية المعتمدة بشكل كبير على الغاز الطبيعي:
بكميات طاقة ضخمة ومتدنية السعر، وينتج تدني السعر عن تعدد الدول المستخدمة للأراضي التركية، وتعدد الدول يعني المنافسة الأوسع والعرض الأكبر، وكلا العنصرين المذكورين يسببان تدني في السعر، في حين أن دعم القطاعات الاقتصادية يعني إنتاجية أكبر وبالتالي نمو اقتصادي أوسع.
الدور الإيجابي للسعر التنافسي في تخفيض سعر الخدمات على المواطنين الأتراك:
يعتمد أغلب الشعب التركي على الغاز الطبيعي والطاقة الكهربائية للتدفئة، وإلى جانب ذلك يقاسي الشعب التركي من أسعار هائلة للغاز الطبيعي والنفط، ولكن مع تنوع مصادر الطاقة المرافق لها سعر تنافسي سينعم المواطنون بخدمات ذات سعر طفيف، لا سيما فيما يتعلق بالطاقة المستخدمة في التدفئة وإنتاج الكهرباء وتحريك وسائل النقل وغيرها.
استقطاب الاستثمارات الخارجية:
تتم مشاريع نقل الغاز بشكل عام من خلال الشركات الوطنية أو شركات الطاقة الخاصة ذات التبعية لإحدى الدول الشريكة، ولكن هناك الكثير من الأعمال الجانبية لمشاريع المد تحتاج إلى شركات ذات تخصصات متنوعة، واستقطاب هذه الشركات للعمل في تركيا لا شك أنه سيهبها عائدًا محمودًا.
منح روسيا فرصة بديلة:
توجهت روسيا بعد استياء علاقاتها مع أوكرانيا، ومن ثم مع فشلها للتوصل إلى اتفاق مشترك مع بلغاريا، نتيجة االضغوطات الأوروبية عليها، إلى تركيا، كبديل لهاتين الدولتين، وبإتمام الخط، تكون قد حصلت على الفرصة البلدية التي كانت تبحث عنها، وهذا ما يخدم مشروعها الإستراتيجي القائم على بقائها كدولة مُتحكمة بتوريدات الطاقة الأساسية لدول الاتحاد الأوروبية.
تصفه المصادر الروسية، لا سيما قناة روسيا اليوم، بأنه المشروع الذي سيربط اقتصادي روسيا وتركيا عبر البحر الأسود لعقود من الزمن، وعليه قد يلعب هذا المشروع دورًا أساسيًا في ازدهار العلاقات المُشتركة بين الطرفين
ـ تعزيز العلاقات الثنائية بين تركيا وروسيا:
تصفه المصادر الروسية، لا سيما قناة روسيا اليوم، بأنه المشروع الذي سيربط اقتصادي روسيا وتركيا عبر البحر الأسود لعقود من الزمن، وعليه قد يلعب هذا المشروع دورًا أساسيًا في ازدهار العلاقات المُشتركة بين الطرفين، حيث سينغرس في نفوس مسؤولي البلدين شعور ضرورة الحفاظ على الفائدة المُشتركة وتطويرها، وقد يشمل هذا التطوير رفع التأشيرات بين الطرفين، وزيادة الطلب الروسي على الفواكه والخضراوات التركية، والنظر في آلية التعامل بالعملات المحلية، وغيرها الكثير من المزايا الاقتصادية التي قد يدفع الخط البلدين نحو النظر في تحقيقها، وهذا ما قد ينعكس إيجابًا على العلاقات الدبلوماسية والأمنية بين الطرفين.
ولكن في ضوء هذه المميزات، هل تتجه العلاقات بين الطرفين نحو تأسيس مسار مُشترك تجد أنقرة فيه بديلاً لمسار القطب الغربي الإستراتيجي:
يبدو أن سيناريو بقاء تركيا داخل القطب الغربي والاستمرار في اللعب على وتر التناقض بين الطرفين، هو السيناريو الأكثر رجوحًا، وذلك لعدة عوامل:
ـ اختلاف المشروع الإستراتيجي لكلا البلدين: فبينما تحاول روسيا تنفيذ مشروع الأوراسيانية الذي ترمي من خلاله للوصول إلى المياه الدافئة الزاخرة بمصادر الطاقة، والمُطلة على الطرق التجارية الدولية، في مناطق البلقان ووسط آسيا والشرق الأوسط، تحاول تركيا إعادة رواسخ العلاقات بين جماعات الدولة العثمانية في البلقان والشرق الأوسط وووسط آسيا، وذلك يعني وجود تضارب بين مشاريع الطرفين.
ـ العامل النفسي لدى ساسة أنقرة: إذ يرسخ في فكرهم توجه إستراتيجي نحو الغرب، بعد سنوات من الخلاف والتنازع بين تركيا والاتحاد السوفييتي ـ سلف روسيا -، فضلًا عن الخلاف التاريخي بين الدولة العثمانية والقيصرية الروسية، وفي سياق ذلك، يأتي الارتباط السياسي الأمني التاريخي بين أنقرة والقطب الغربي، كعنصر أساسي في غرس العامل النفسي لدى ساسة أنقرة في هذا الإطار.
ـ ملفات الخلاف الفاعلة بين أنقرة وموسكو في عدة ميادين: ربما هناك اتفاق بين الطرفين على صعيد اقتصادي، لكن هناك خلاف نسبي بينهما في الملف السوري، من حيث الملف الكردي وملف إعداد الدستور، وخلاف في ملف جزيرة القرم، حيث تدعم أنقرة الرؤية الغربية في عدم شرعية احتلال روسيا للجزيرة، وخلاف في الملف الليبي، حيث تدعم موسكو حفتر والدور المصري في ليبيا بينما تدعم أنقرة حكومة طرابلس، وملف حوض شرق البحر المتوسط، حيث تتخوف أنقرة من مساندة موسكو للتحرك اليوناني ضد تحركها، وغيرها العديد من نقاط الخلاف الأخرى.
ـ انتماء أنقرة “الناتوي”: هذا الانتماء الذي قد يمنعها، عبر مواده، من الإقدام على المزيد من المشاريع الإستراتيجية.
يبدو أن الفائدة التي تجنيها وستجنيها أنقرة من مشاريع الطاقة قد تدفعها للاتجاه نحو مد المزيد من هذه الخطوط، لكن يبقى توجه أنقرة في إطار اللعب على تناقضات توازن القوى بعيدًا عن الميل الكامل نحو تغير مسارها الإستراتيجي، هو السيناريو الأكثر رجوحًا،
ـ الضغط الأوروبي: وفقًا لمكتب دعم الاستثمار التابع لمؤسسة رئاسة الجمهورية التركية، فإن دول الاتحاد الأوروبي تُساهم بما نسبته 72% من مجموع الاستثمارات المباشرة في تركيا، ولعل هذه الاستثمارات التي تعني تنمية مباشرة عبر مصانع وشركات تجارية ضخمة تدر على تركيا بالدخل الغزير، تُعدّ أكثر حيوية من مشاريع نقل المواد الريعية الروسية التي تحتاج لعملة صعبة للحصول عليها.
ـ التوجه الإستراتيجي الأمريكي: تُحاول تركيا مواجهة الاحتكار الروسي لامتدادات الطاقة نحو دول الاتحاد الأوروبي، عبر دعم مشاريع نقل الغاز الأذري والجورجي نحوها، لذا قد تحاول واشنطن الضغط على أنقرة، للتقليل من مدى تقاربها لموسكو، وبحسبان الحاجة الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية التركية لواشنطن، وباعتبار الموقع الدبلوماسي لواشنطن، كدولة عُظمى تتحكم في مسار العلاقات الدولية، وبوضع توجه أنقرة نحو اللعب على تناقضات توازن القوى بعيدًا عن وضع جميع بيضها في سلة واحدة، بعين الاعتبار، يتضح حجم تأثير التوجه الإستراتيجي الأمريكي على أنقرة.
في الختام، يبدو أن الفائدة التي تجنيها وستجنيها أنقرة من مشاريع الطاقة قد تدفعها للاتجاه نحو مد المزيد من هذه الخطوط، لكن يبقى توجه أنقرة في إطار اللعب على تناقضات توازن القوى بعيدًا عن الميل الكامل نحو تغير مسارها الإستراتيجي، هو السيناريو الأكثر رجوحًا، بوضع العوامل المذكورة أعلاه، بعين الاعتبار.