ترك العثمانيون، مع رحيلهم عن تونس، في هذا البلد العربي المطل على الحوض الجنوبي للبحر المتوسط، بصمتهم التي بقيت إلى اليوم شاهدة على عظمة حكمهم ومكانة حكامهم وقوة إمبراطوريتهم، بصمة شملت العديد من المجالات من الأكل إلى اللباس إلى اللهجة وصولاً إلى القصور التي تتزين بها معظم المدن التونسية، في هذا التقرير سنتعرف معًا أبرز هذه القصور التي استطاعت البقاء والصمود في وجه الزمن والطبيعة والبشر.
قصر باردو
بقيت مدينة منوبة لفترة طويلة مقرًا للحكم في العهد العثماني، والضاحية الباياتية والأميرية المفضلة والفناء الخلفي لحكام البلاد في تلك الفترة، وهو ما يفسر العدد الكبير من القصور الموجودة هناك ومن أبرزها قصر الحكم بباردو.
كان هذا القصر في الماضي مقرًا لحكم البايات وأصبح يضم اليوم متحف باردو ومقر البرلمان التونسي، ويتألف القصر من القصر الصغير والقصر الكبير، وقد بني هذا القصر عهد الحسين بن علي باي فوق سهل يبعد نحو 4 كيلومترات عن تونس العاصمة وتعود تسميته إلى كلمة ذات أصل إسباني “البرادو” وتعني الحديقة أو الحقل.
لم يكن القصر الصغير بباردو، القصر الوحيد الذي تحول إلى متحف، فقصر الورد عرف نفس المصير
يمثل هذا القصر الترف والرفاهة التي شهدتها العمارة التونسية في فترة البايات، وقد زادته الإضافات التي امتزجت بالتأثيرات الأندلسية والآسيوية والأوروبية، جمالاً على جماله الأصلي، فبدا كالتحفة الفنية، ومنذ سنة 1882، مع تحول مقر الحكم والحاشية إلى قصر المرسى نتيجة التقشف المتبع، وقع منح المباني المخصصة للحريم إلى سلطات الحماية الفرنسية ليتم تحويلها إلى متحف صغير يضم أولى المجموعات الأثرية التي تعود إلى العصور القديمة.
بني القصر الصغير (المتحف)، حول فناء محاط برواقين متقابلين تم تزيين وسطه بفسقية من رخام كرارة، وقد استعمل هذا الرخام في تبليط الأرضية وتزيين أطر النوافذ والأبواب، وتم تغطية جدران القصر بالقاشاني التونسي ويوجد في القصر قاعتي احتفال.
القصر الكبير بباردو
أما القصر الكبير (البرلمان)، فقد بني حول فناء داخلي وأروقة مسقوفة ويتم إضاءته بواسطة نوافذ مرتفعة ومقوسة، يضم القصر قاعتين فخمتين متقابلتين مخصصة للضيوف؛ القاعة الأولى هي قاعة القبة ويتخذ سقفها شكل قبة من ستة عشر جانب، تقابل هذه القاعة الصالة الثانية التي تتخذ شكل صليب وتم زخرفتها على الطريقة التونسية.
قصر الوردة
لم يكن القصر الصغير بباردو، القصر الوحيد الذي تحول إلى متحف، فقصر الورد عرف نفس المصير، فقد تحول إلى متحف يحفظ ذاكرة الجيش التونسي سنة 1986، ويعود بناء قصر الوردة إلى عام 1798 في عهد حمودة باشا باي الذي حكم تونس في الفترة الممتدة بين سنتي 1782 و1814.
يقع قصر قبة النحاس وسط حدائق وبساتين تحيط به من جميع الجهات
استعمل هذا القصر الذي قد كان يسمى “البرج الكبير” لمدة طويلة مكانًا لاصطياف العائلة الحاكمة كما استعمل لاستقبال الشخصيات الأجنبية البارزة وإيوائها، قبل أن يتحول سنة 1839 أي خلال عهد أحمد باشا باي إلى ثكنة للمدفعية، ثم ثكنة للخيالة بداية من سنة 1841، وذلك تزامنًا مع الإصلاحات التي شهدها الجيش والبحرية التونسية في تلك الفترة.
ويقع القصر في محافظة منوبة غرب العاصمة تونس، وتضم ساحته، آليات ثقيلة، كالمجنزرات والدبابات والمدفعيات كمدفعية الأسوار، إضافة إلى العربات والمعدات التي اُستعملت في السنوات الأولى للاستقلال، إضافة إلى طائرة أمريكية الصنع من نوع “إف 86” استخدمها الجيش التونسي في السبعينيات.
المتحف العسكري بتونس
يحتوي المتحف العسكري، على مجموعات أثرية ثمينة، تزيد على 23 ألف قطعة من الأسلحة البيضاء والنارية، إضافة إلى رسوم زيتية ونماذج لمعارك وسفن حربية ومدافع وأسلحة ثقيلة تنتمي إلى كل حقب التاريخ العسكري التونسي.
قصر قبة النحاس
لا يبعد قصر قبة النحاس في منوبة كثيرًا عن القصر الوردة، وقد تم بناء هذا القصر في عهد محمد رشيد باي بين سنتي 1756 و1758، وسمي بهذا الاسم لأن قبة من النحاس كانت تغطي مسبح القصر وقد صنعها حرفيون تونسيون خصيصًا للباي رشيد حتى تقيه الشمس في أثناء السباحة.
وعلى غرار هندسة القصور عمومًا في منوبة، يرتفع الهيكل العام المستطيل الشكل عن سطح الأرض ليمنح الزائر شعورًا بالشموخ والأنفة، ومن داخل الساحة الكبيرة ينطلق البصر نحو واجهة بيضاء ضخمة، تغطي بعضًا منها الظلال الوارفة للأشجار الضخمة، ويمر الزائر إليها عبر سلم واسع مبني من الحجر.
يحتضن قصر قبة النحاس العديد من الحفلات والملتقيات
يقع القصر وسط حدائق وبساتين تحيط به من جميع الجهات ويتكون إجمالاً من ثلاث طوابق، وتتوَج الواجهة الرئيسية مشربية احتلت أعالي الطابق العلوي وحشر أسفلها سلم رخامي يفضي إلى رواق متكون من أعمدة مصنوعة من حجارة الكذال.
قصر السعادة
على بُعد بعض الكيلومترات عن العاصمة تونس، يوجد قصر السعادة بمدينة المرسى، التي بني في عهد محمد باشا الذي امتد لطيلة 4 سنوات بين 1855 و1859، مقرًا لإقامة الملوك والبايات، ويعتبر هذا القصر جديدًا نسبيًا مقارنة بباقي القصور العثمانية، وتم تشييد هذا القصر على يد الناصر باي إكرامًا لزوجته العلجية قمر، وكان ذلك خلال الحرب العالمية الأولى بين سنتي 1914 و1915.
قاعة الجلسات في قصر السعادة
تقول بعض المراجع التاريخية إن العلجية قمر التي جلبها الصادق باي (امتدت فترة حكمه من سنة 1859 إلى سنة 1882)، كان لها شأن كبير في تاريخ الدولة الحسينية، فقد تزوجت الأميرة قمر ثلاثة بايات كانت أول الأمر زوجة للصادق باي المذكور، وعندما توفي سنة 1882 تزوجت بعده علي باي وبعد وفاته تزوجت الناصر باي سنة 1908 وكان قد تولى إمارة البلاد سنة 1906.
في أثناء تولي الرئيس المخلوع زين العابدين الحكم، تم تحويل هذا القصر إلى مقر لبلدية المرسى، وسبق أن سكنه الرئيس الحبيب بورقيبة عندما تم انتخابه أول رئيس للجمهورية التونسية في 25 جويلية 1957 وذلك في انتظار انتهاء أشغال الترميم والتوسيع بقصر قرطاج.
قصر زروق
يعد قصر زروق الموجود في مدينة قرطاج التاريخية، آخر القصور التي سكنها البايات في تونس قبل الاستقلال عن المستعمر الفرنسي وإعلان الجمهورية، وكان هذا القصر مقر إقامة “الأمين باي” إلى أن تم عزله عن الحكم سنة 1957.
مثل هذا القصر آخر مقر للبايات في تونس
بعد أن تم إبعاد الأمين باي من السلطة، آوى هذا القصر الجميل العديد من المؤسسات المكرسة للأبحاث بما في ذلك المعهد الوطني للآثار، والمؤسسة الوطنية للترجمة والأكاديمية التونسية للعلوم والآداب والفنون، وحاليًّا هو مقر مؤسسة بيت الحكمة.
استعملت معظم هذه القصور عقب استقلال تونس كمركز للحكم في البلاد
يتميز القصر بتنوع تصاميمه كالطراز التركي والعربي والأندلسي، ويحاط قصر زروق بأطلال رومانية قديمة تشتهر بها مدينة قرطاج، ويرجع تاريخ تشييده إلى القرن الـ19 في سنة 1860 من الجنرال أحمد زروق واستعمل كمركز مراقبة للبلاد خلال ثورة علي بن غذاهم سنة 1864.
قصر حمودة باشا
وجود القصور العثمانية لم يكن في الضاحية الشمالية والغربية لتونس العاصمة فقط، بل شمل أيضًا مدينة تونس العتيقة، ففيها العديد من القصور من بينها دار حمودة باشا، هو قصر تم تشيده على يد حمودة باشا المرادي عندما كان أميرًا، وذلك سنة 1630.
تحولت دار حمودة باشا إلى معلم ترفيهي
يقع القصر في نهج سيدي بن عروس المرموق، قرب مقر الحكومة بالقصبة، وتعتبر دار حمودة باشا من أعرق وأكبر قصور المدينة العتيقة التي لم تغير عمارتها، وكان هذا القصر مقرًا لإقامة الأمير حمودة باشا المرادي في المدينة العتيقة، مع زوجته الأولى، الأميرة عزيزة عثمانة، قبل أن يخلف والده على سدة العرش ويصبح باي في سنة 1631، وينتقل للإقامة في دار الباي.
استعملت معظم هذه القصور عقب استقلال تونس كمركز للحكم في البلاد وكمؤسسات لعديد من الإدارات التابعة للدولة، من خلالها يتعرف الزائر على حضارة تونس الكبرى وتاريخها العميق ومعمارها الجامع بين الحضارات التي تعاقبت عليها.