سعت الأنظمة الحاكمة على مر العصور لاستخدام المناسبات الدينية كأداة سياسية تمكنهم من الحصول على الشرعية السياسية لسلطتهم ونيل التأييد الشعبي والجماهيري من خلال دغدغة المشاعر الدينية والروحية للناس، فضلاً عن الدعاية السياسية والتأثير على الجماهير، وإعطاء انطباع بتدين الأنظمة وعدم عدائها للدين، والتغطية على الفساد والانحراف الغارقة فيه.
وكان المولد النبوى الشريف الذي اعتاد الغالبية العظمى من المسلمين الاحتفال بذكراه في الـ12 من شهر ربيع الأول من كل عام هجري، أحد الأدوات السياسية التي أضفت بريقًا على شرعية الحكام، وكانت عاملاً مؤثرًا في تخدير الشعوب والسيطرة عليهم، وإشغالهم عن تنحية شرع الله عن الحكم والمطالبة به.
الدولة الفاطمية.. البداية من هنا
على الرغم من الاختلاف بشأن مسألة تحديد بداية الاحتفال بمولد نبي الإسلام، فإن المحققين اتفقوا على أنها لم تُعرف في القرون الثلاث الأولى من تاريخ الإسلام، ومالوا إلى أن الفاطميين أول من احتفل بالمولد النبوي بشكل منظم ومرتب، ثم انتشر مع الدولة الفاطيمة في مصر والشام والمغرب، ورثه من كان بعدهم حتى وصل إلى ما نشاهده من مظاهر احتفالية كبيرة ومتنوعة في سائر أرجاء العالم الإسلامي.
كان الهدف الرئيس من إحداث هذه الموالد هدفًا سياسيًا لتثبيت حكم الفاطميين، ولم يكن لمحبة النبي ولا لمحبة آل بيته فيه أي نصيب
ويذهب كثير من المؤرخين، إلى أن الخلفاء الفاطميين ابتدعوا مظاهر جديدة وصرفوا ببذخ شديد بداية، وقد برعوا في ذلك، وتمكنوا من بسط نفوذهم إلى بلاد كثيرة من العالم الإسلامي، وظهرت معهم معظم العادات والتقاليد التي نهتم بها حتى اﻵن، وكان الهدف الرئيس من إحداث هذه الموالد هدفًا سياسيًا لتثبيت حكمهم، ولم يكن لمحبة النبي ولا لمحبة آل بيته فيه أي نصيب.
وبحسب ما كتب المؤرخون من أمثال تقي الدين المقريزي في كتاب “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، وأحمد بن علي القلقشندي في كتاب “صبح الأعشا في صناعة الإنشا”، فإن الخليفة الفاطمي المعز لدين الله نظّم أول احتفال بالمولد النبوي عام 362 هجريًا، وذلك بعد دخوله مصر ببضعة أشهر، وكان هدفه من إقامته تقريب المصريين إليه وضمان انقيادهم لحكمه وسلطته.
وغير المعز لدين الله، كان الفاطميون بصفة عامة يهتمون بالمناسبات الدينية لأسباب سياسية أكثر منها دينية، إذ كانوا يعدون الولائم يوم المولد النبوي ويوزعون على المصريين أنواعًا مختلفة من الحلوى حتى يحصلوا على ولائهم، وكانت تلك بداية ظهور حلوى المولد بشكلها المعروف حاليًا.
يؤكد ذلك ما جاء في كتاب “تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي” للشيخ حسن السندوبي، الذي كتب: “ولما استقر الحكم للمعز لدين الله، أخذ يفكر في الوسائل الكفيلة باستمالة القلوب وامتلاك النفوس واستثارة العواطف حتى تألف الأمة المصرية تصرفات هذه الحكومة الجديدة وترضى عن سياستها في إدارة البلاد، ولما كانت الميول العامة لطبقات الأمة المصرية متجهة إلى حب آل بيت الرسول مع الاعتدال في التشيع لهم رأى المعز لدين الله أن أقرب الأسباب للوصول إلى أغراضه من هذا الميل العام الالتجاء إلى الأمور التي تمت بصلة إلى المظهر الديني، فهداه تفكيره إلى أن يقرر إقامة مواسم حافلة وأعياد شاملة في مواعيد مقررة وكان من أولها وأجلها وأفضلها الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف”.
لكن الفاطييين كانوا أكثر اهتمامًا بالمناسبات الشيعية على وجه الخصوص، ولم يكن الاحتفال بالمولد النبوي الأول بالنسبة لهم، فقد سبقه الاحتفال بأعياد الغدير وعاشوراء، كما يذكر ذلك الدكتور عبد المنعم عبد الحميد في كتابه “الحياة الاجتماعية في العصر الفاطمي: دراسة تاريخية وثائقية”.
ولم يكن المعز لدين الله الحاكم الوحيد الذي فكر بهذه الطريقة، بل إن المنافسة السياسية بين الوزراء والخلفاء تسببت في استحضار هذه الاحتفالات، حيث ذكر المقريزي أن الوزير الأفضل شاهنشاه ابن بدر الجمالي أحكم قبضته على الدولة، وهمّش سلطة الخليفة المستعلي بالله أحمد، وكان سبيله إلى ذلك إلغاء الاحتفالات الدينية، ولما وصل الخليفة الآمر بأحكام الله إلى السلطة، أعاد تلك الاحتفالات مرة أخرى، واتخذ منها وسيلة لاستعادة بعض نفوذ أسلافه من الخلفاء الأقوياء.
المولد كوسيلة للدعاية السياسية في زمن الأيوبيين
مع انهيار الدولة الفاطمية، عمل صلاح الدين الأيوبي على اقتلاع المذهب الشيعي بمحو المظاهر الاجتماعية كافة التي ميزت العصر الفاطمي، فأبطل جميع المراسيم والاحتفالات التي كان الفاطميون يمارسونها في مصر، لكن أشكال الاحتفال بالمولد الشريف تمكنت من التسلل إلى الخارج حتى وجدت هذه المناسبة الشعبية مواطن مختلفة لها في اليمن والمغرب والأندلس.
رغم كون كوكبوري سنيًا معارضًا للتشيع، فإنه اتخذ من الاحتفال بالمولد النبوي وسيلةً للدعاية السياسية القوية لدولته الصغيرة ونيل التأييد الشعبي والجماهيري
أما على مستوى الأنظمة الحاكمة، فقد حرص بعض الحكام في الخارج على استغلال تلك الذكرى الاحتفالية في الحصول على الشرعية السياسية لسلطتهم، حيث توسعت الاحتفالات بالمولد النبوي على يد حاكم أربيل حاكم (في شمال العراق حاليًا)، مظفر الدين كوكبوري بن بكتكين، وكان متزوجًا من ربيعة خاتون أخت صلاح الدين الأيوبي ومرتبطًا معه بحلف سياسي قوي.
ورغم كون كوكبوري سنيًا معارضًا للتشيع، فإنه اتخذ من الاحتفال بالمولد النبوي وسيلةً للدعاية السياسية القوية لدولته الصغيرة ونيل التأييد الشعبي والجماهيري، وقد كتب العالم الأندلسي أبو الخطاب ابن دحية له مجلدًا في المولد النبوي أسماه “التنوير في مولد البشير النذير”، فأجازه على ذلك بألف دينار.
ويذكر “سبط ابن الجوزي” في كتابه “مرآة الزمان” أن كوكبوري كان ينفق على المولد كل عام نحو 300 ألف دينار، وقال أيضًا: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوى، وعشرة آلاف دجاجة ومئة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى”.
ويشير ما كتبه ابن خلكان، في كتابه “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان”، إلى أن الغرض السياسي المستهدَف من إقامة تلك الاحتفالات قد تحقق إلى حد كبير، إذ يذكر أن “جموع المحتفلين كانوا يقصدون أربيل في موعد الاحتفال في كل عام، من نواحي العراق والجزيرة وبلاد العجم”.
ويؤكد ذلك شمس الدين الذهبي بوصفه الاحتفالات الضخمة بالمولد، وذلك في كتابه “سير أعلام النبلاء”، حيث يقول: “القباب الخشب كانت تُنصب له ولأمرائه القادمين من الجوار”، ويُفهم من ذلك تعاظم النفوذ السياسي والروحي لحاكم أربيل.
البذخ على الاحتفالات للتغطية على ضعف المماليك
في العصر المملوكي، ارتبط الاحتفال بالمولد النبوي بنيل الشهرة والصيت، فكان الطابع المميز لهذا العصر هو الاتجاه للبذخ والإسراف في مظاهر الاحتفال، إذ تبارى سلاطين المماليك في الإنفاق على الاحتفالات والأعياد الدينية، وربما كان السبب الأهم في ذلك يعود إلى إحساس المماليك بغربتهم عن محيطهم المجتمعي، وإدراكهم للمفعول القوي والتأثيرات الكبرى التي تحدثها تلك الاحتفالات في قلوب المصريين.
ونقل العديد من المؤرخين شهاداتهم على مظاهر للترف والدعة التي كانت تحدث في مثل هذا اليوم، حيث نقل المؤرخ شمس الدين السخاوي في كتابه “الضوء اللامع لأهل القرن التاسع”، عن بعض شيوخه، إعجابهم الشديد بالاحتفال الذي أقامه السلطان الظاهر سيف الدين برقوق بمناسبة المولد النبوي.
يؤدي الاحتفال دورًا مهمًا في إلهاء الناس عن التفكر في الخسائر المادية الفادحة التي تحيق بالدولة، وإظهارها بمظهر القوة والفتوة أمام شعبها ورعاياها
ويمكن تفسير ذلك بوجود دلالات سياسية متعددة، تمثلت في إضعاف شوكة المعارضين والمنافسين، فالاحتفال بهذه المناسبات يساعد على التفاف الشعب حول هؤلاء السلاطين، وهو ما يزهدهم في المعارضين لهم، لا سيما إذا كانوا لا يهتمون بهذه المناسبات.
كما يؤدي دورًا مهمًا في إلهاء الناس عن التفكر في الخسائر المادية الفادحة التي تحيق بالدولة، وإظهارها بمظهر القوة والفتوة أمام شعبها ورعاياها، رغم أنها كانت تعاني من انخفاض المداخيل المالية وكساد الحركة التجارية وتراجع الأهمية الإستراتيجية لمصر بعد اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح، هذا كله بالإضافة إلى زيادة التوترات العسكرية في بلاد الشام جراء المشاحنة مع القوتين الصفوية والعثمانية.
المولد في زمن الاحتلال والحروب
لم يقتصر استغلال الساسة للمولد النبوي على العصور الوسيطة فحسب، بل امتد أيضًا ليصل إلى العصر الحديث، ويمكننا تمييزه إبان الحملة الفرنسية وعهد محمد علي باشا كوسيلة للتعمية على بعض الممارسات المعادية للدين الإسلامي.
استعمل نابليون سياسة الحفلات ليجذب إليه قلوب المصريين من جهة، وليعلن عن نفسه في العالم الإسلامي بأنه صديق الإسلام والمسلمين
وقد تطور هذا في العصور المتأخرة إلى وسائل أكثر تعمية كأن تفتح في بعض الموالد بعض المشاريع الكبرى وتقام المهرجانات الدينية من أجل الاحتفال بسيد المرسلين، وتكون الرسالة التي يراد لها أن تبلغ الجميع أنه ليس أغير على النبي ودينه من هؤلاء، ويقدم الرسول في أدبياتهم على أنه شخصية تاريخية كان لها أثرها في تاريخ الأمة العربية شأنها شأن العظماء، ومع انتهاء الحفل يسدل الستار حتى إشعار آخر.
وأوضح نموذج لذلك ما ذكره المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، في رواية تاريخية تعود إلى عصر الحملة الفرنسية عى مصر، وجاء في كتابه في كتابه الشهير “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، أن القائد الفرنسي نابليون بونابرت كان يهتم بشكل خاص بتنظيم احتفال كبير يوم المولد النبوي لعلمه بأهمية هذا اليوم لدى المصريين.
وبحسب الوصف الدقيق للجبرتي في كتابه، أمر نابليون الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد وأعطاه ثلاثمئة ريال فرنسي، وأمره بتعليق الزينات، بل وحضر الحفل بنفسه من أوله إلى آخره، ويعلق عبد الرحمن الرافعي قائلاً: “استعمل نابليون سياسة الحفلات ليجذب إليه قلوب المصريين من جهة، وليعلن عن نفسه في العالم الإسلامي بأنه صديق الإسلام والمسلمين”.
الحوثيون يفرضون إتاوات من أجل الاحتفاء بالمولد النبوي
ووصف الجبرتي أيضًا كيفية مشاركة نابليون شيوخ الأزهر والأشراف في ليلة العيد، كما توقف عند مشاركة القائد الفرنسي في تناول الطعام بيديه المجردتين، على عادة المصريين في تلك الفترة، وسماعه حلقات الذكر الطويلة، وتمايله على أصوات المنشدين الصوفيين الذين تغنوا بمديح الرسول وقصص الملاحم العربية القديمة.
وبعد خروج الفرنسين من مصر، كان يُنادى للاحتفال بالمولد كل سنة فى عهد محمد علي باشا وأولاده وأحفاده الذين استمروا على رعاية شؤون المولد، وإحياء الاحتفال به طوال سنوات حكمهم، وفرض محمد على سيطرته الكاملة على المجال الديني في البلاد، وأصدر فرمان عام 1812 الذي قنّن فيه وضع الطرق الصوفية في مصر، وجعل جميع المتصوفة تحت سلطة شيخ الطريقة البكرية الذي كان يخضع لسلطته.
ومنذ ذلك الحين بدأ اصطباغ الاحتفال بالمولد النبوي بصبغة صوفية كاملة، حتى أصبح الاحتفال بالمولد النبوي من أهم المرتكزات لبعض الجماعات السياسية ذات الصبغة الصوفية للترويج لأفكارها على المستوى الشعبي وتكتسب به زخمًا إعلاميًا وسياسيًا عن طريق الظهور بالمظهر الشرعي المتلبس بمحبة النبي، خاصة بعد أن نجحت الاتجاهات التجديدية في الحد من ظاهرة الاحتفال بموالد أصحاب الأضرحة، وانصراف قطاع من الناس عن تلك الموالد بعد توفُّر ما يرغبون فيه من متع وشهوات بوسائل عديدة ومتاحة.
أصبح الاحتفال بالمولد النبوي من أهم المرتكزات لبعض الجماعات السياسية ذات الصبغة الصوفية للترويج لأفكارها على المستوى الشعبي وتكتسب به زخمًا إعلاميًا وسياسيًا
وقد أفرزت التحركات الصوفية إلى سعي الأنظمة الحاكمة لتحويها إلى أداة سياسية، ففي خطوة في خطوة غير مسبوقة، بتاريخ الحياة السياسية المصرية، جرى تصعيد الدكتور عبد الهادي القصب، شيخ مشايخ الطرق الصوفية، إلى رئاسة ائتلاف دعم مصر، ليتحول الصوفية إلى ديكور سياسي جديد لملء فراغ الجماعات المغضوب المحسوبة على تيار الإسلام السياسي من أمثال السلفيين وجماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية.
وفي زمن الحروب والانقلابات يجري البحث عن توظيف سياسي للمناسبات الدينية، فالسيسي يدعو المصريين في كل مناسبة للصبر والتحمل، بينما يحتفي مؤيدو جماعة “أنصار الله” الحوثي، بذكرى المولد النبوي، في مشهد طغت فيه مظاهر التحشيد ضد خصوم الجماعة، فضلاً عن استغلال هذه الذكرى سياسيًا، وما ترافق فيها من فرض إتاوات بالقوة على اليمنيين من أصحاب المحلات التجارية في المناطق الخاضعة لسيطرة مسلحي الحوثي.