بهدف توحيد شعوب القارة السمراء وإحياء روح التضامن تأسست “منظمة الوحدة الإفريقية” عام 1963، ولعبت هذه المؤسسة في بداية نشأتها دورًا كبيرًا في مساعدة العديد من حركات التحرر في القارة الإفريقية، مثل وقفتها المشرفة مع مواطني جنوب إفريقيا وثورتهم ضد التمييز العنصري بقيادة المناضل نيلسون مانديلا.
لكن إنجازات هذا المنظمة التي تحولت لاحقًا إلى اتحاد تبقى محدودة مثل التدخل العسكري لمحاربة حركة الشباب في الصومال والحركات المتطرفة في نيجيريا والساحل الغربي، وعلى الرغم من أن الكيان الإفريقي يحاول أن يستلهم تجربة الاتحاد الأوروبي خاصة فيما يتصل بالجوانب الاقتصادية والدبلوماسية، فإنه لا يتمتع بشعبية كبيرة ويواجه انتقادات كثيرة من مواطني الدول الإفريقية التي تتهمه بالبعد عن تطلعاتها وحماية رؤساء ديكتاتوريين استولوا على الحكم مدى الحياة وبالتقاعس عن محاربة الفساد وعدم معاقبة المتورطين فيه، وبعدم الدفاع عن حقوق الإنسان وقمع الرأي والناشطين السياسيين.
تغيير المسمى من منظمة إلى اتحاد دون إنجازات ملموسة
عندما أعلنت دول القارة السمراء الانتقال من تكتل منظمة الوحدة الإفريقية إلى الاتحاد الإفريقي في يوليو/تموز عام 2002 كانت الآمال العراض تراود رؤساء وشعوب الـ55 دولة الأعضاء في التحول إلى التكامل والتنمية والاستقرار بحل النزاعات التي تعصف بنحو 22 من دول القارة، كما هدف تأسيس الاتحاد إلى تسريع وتسهيل الاندماج السياسي والاجتماعي والاقتصادي للقارة، وذلك لتعزيز مواقف إفريقيا المشتركة بشأن القضايا التي تهم القارة وشعوبها، تحقيقًا للسلام والأمن، ومساندة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
تكرر غياب زعماء دول المغرب العربي مثل العاهل المغربي والرئيس الجزائري بوتفليقة والرئيس التونسي السبسي رغم اتجاه الملك محمد السادس مؤخرًا إلى الاهتمام بعلاقات بلاده مع القارة السمراء
من أجل هذه الغايات والعناوين الطموحة تنعقد القمم الإفريقية وتتفرق دون أن تصل إلى إنجاز ملموس على الأرض عدا بعض النجاحات المتفرقة، وفي قمتهم الاستثنائية الأخيرة التي استضافتها العاصمة الإثيوبية أديس أبابا الأسبوع الماضي، بَحَث القادة الأفارقة خطوات الإصلاح المؤسسي بعد أن تداولوا خلال القمتين السابقتين ملف “مكافحة الفساد” من دون التوصل إلى نتائج حاسمة في هذه الخصوص.
أبرز الحضور والغياب في قمة إصلاح الاتحاد الإفريقي
لم تكن قمة أديس أبابا الاستثنائية التي انعقدت 16 و17 من نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ بأفضل حالٍ من الأخيرة التي شهدتها العاصمة الموريتانية نواكشوط في يوليو/تموز الماضي من ناحية الحضور، فقد زهد في المشاركة بها رؤساء عرب أفارقة أبرزهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي توقّع مراقبون مشاركته حرصًا على الاجتماع برئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لمحاولة إحداث اختراق في ملف سد النهضة الذي يتخوف منه النظام المصري، إلا أن السيسي أرسل رئيس الوزراء مصطفى مدبولي والأخير نقل رسالةً خطية من السيسي إلى آبي أحمد، في خطوة أثارت الاستغراب إذ إنه من المفترض أن تنتقل رئاسة الاتحاد الإفريقي إلى مصر في العام المقبل وحضور السيسي لهذه القمة كان مهمًا كي ينسق مع نظرائه الأفارقة للدورة التي سترأسها بلاده ولأجل مد جسور الصلة وتوطيد علاقته مع قادة القارة السمراء، فيما نقلت تسريبات دبلوماسيين مطلعين أن النظام المصري لم يكن متحمسًا بما يكفي لمقترحات إصلاح المنظمة خاصة تلك التي تتعلق بالاستقلال المالي.
وتكرر غياب زعماء دول المغرب العربي مثل العاهل المغربي والرئيس الجزائري بوتفليقة والرئيس التونسي السبسي رغم اتجاه الملك محمد السادس مؤخرًا إلى الاهتمام بعلاقات بلاده مع القارة السمراء.
كذلك غاب رئيس إريتريا أسياس أفورقي في وقتٍ توّقع فيه كثيرون أن يحضر بعد المصالحات واتفاقات السلام التي وقعّها مع جارتيه إثيوبيا والصومال ولكن على ما يبدو أنه تعمّد الغياب ربما لأنه تفادى مقابلة الرئيس السوداني عمر البشير والجيبوتي إسماعيل جيلي نسبةً لتوتر علاقاته معهما أو لأنه لا يزال غاضبًا من الاتحاد الإفريقي عامة فهو يرى أن المنظمة انحازت إلى أديس أبابا ولم تكن محايدة فيما يتعلق بالصراع بين بلاده وإثيوبيا.
أما بقية دول شرق ووسط إفريقيا وغربها وجنوبها فقد شكلوا حضورًا في القمة التي ترأسها بول كاغامي رئيس رواندا وشدّد في كلمته الافتتاحية على ضرورة اتفاق القادة الأفارقة على مشروع إصلاح مؤسسي للاتحاد.
مقترحات الإصلاح المؤسسي للاتحاد الإفريقي
تتمثل أبرز الإصلاحات التي نادت بها قمة أديس أبابا، معالجة الاختلالات الهيكلية والصعوبات المالية، ففي مقترحاتٍ كشف عنها العام الماضي، أعلن الرئيس الرواندي كاغامي تصوره لاتحاد إفريقي يركز على قضايا أساسية، تترأسه مفوضية قوية تعتمد على الذات بتسديد النفقات من الدول الأعضاء وليس المانحين الأجانب لضمان الاستقلال المالي، موضحًا أن مساهمات الدول الأعضاء في صندوق السلم ـ على سبيل المثال ـ بلغت حاليًا 60 مليون دولار، وهو أعلى مستوى منذ إنشاء صندوق السلم في عام 1993، ومع ذلك يقدّر كاغامي أنه إذا تم الوفاء بجميع الالتزامات غير المسددة سيصل حجم موجودات الصندوق إلى 100 مليون دولار.
لم يبتعد رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي كثيرًا عن مقترحات رئيس الدورة الحاليّة، إذ تطرّق الأول في كلمته إلى المجالات التي تحتاج إلى إصلاحات مهمة
كما اقترح أن تنتخب الدول الأعضاء رئيسًا للاتحاد يمكنه أن يعين نائبًا أو نائبة له ومفوضَيْن، إلا إن قادة الاتحاد لم يوافقوا على هذا الاقتراح.
الرئيس الرواندي بول كاغامي.. رئيس الدورة الحاليّة للاتحاد الإفريقي
إضافة إلى ذلك، دعا رئيس الاتحاد الإفريقي إلى التركيز على أولويات حددها في: الأمن والسلم والسياسة والتكامل الاقتصادي والشؤون السياسية وتمثيل إفريقيا في العالم، وتخفيض عدد مفوضياته من 10 إلى 8، بدمج مفوضيات كانت تعتبر زائدة، وتحديدًا دمج الشؤون السياسية بالأمن والسلم، والتجارة والصناعة بالشؤون الاقتصادية.
كما لم يبتعد رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي كثيرًا عن مقترحات رئيس الدورة الحاليّة، إذ تطرّق الأول في كلمته إلى المجالات التي تحتاج إلى إصلاحات مهمة بما في ذلك تمويل المفوضية، وتقاسُم الأدوار ما بين الاتحاد الإفريقي والتجمعات الاقتصادية والإقليمية، والمشاركات الإستراتيجية، وتقسيم السلطة والواجبات وترشيحات القيادة من بين آخرين، وإصلاح كل من الآلية الإفريقية لمراجعة النظراء، والمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والبرلمان الإفريقي، وتعزيز مجلس السلم والأمن للاتحاد الإفريقي.
المصادقة على معظم المقترحات ودعوة لقيام جسم خاص بالمصالحة الاجتماعية
كان لافتًا أن القمة الإفريقية الطارئة قد صادقت على معظم المقترحات الإصلاحية بما فيها التعديلات الهيكلية في خطوة لترشيد الموارد المالية وتقييم مستوى الأداء، كما تضمّن مخطط الإصلاح المؤسسي، إقرار مبدأ العقوبات بالنسبة للدول الأعضاء التي تتخلّف عن تنفيذ المقررات التي تصدر عن أجهزة صنع القرار بالاتحاد الإفريقي.
وقال موسى فكي رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، في مؤتمر صحفي مشترك عقده مع الرئيس الرواندي بول كاغامي، رئيس الدورة الحاليّة إن أبرز هذه القرارات تمثل الآتي:
1- اعتماد إعادة هيكلة مفوضيات الاتحاد الإفريقي وتقليصها من 10 إلى 8 مفوضيات.
2- تعزيز آلية نظام العقوبات للدول التي لم توفِ بمساهماتها المالية في الاتحاد خلال 6 أشهر أو عام كامل، وهي عقوبات تحذيرية في البداية تحرم الدول من إلقاء كلمتها في اجتماعات الاتحاد، وعقوبات متوسطة يتم فيها تعليق حق الدولة أن تكون عضوًا في أي هيئة أو مكتب تابع للاتحاد وعقوبات نهائية تقضي بالتعليق الكامل للدولة في المشاركة باجتماعات الاتحاد الإفريقي، كما تحرم رعايا الدولة من المشاركة في بعثات الاتحاد الإفريقي.
3- دمج عدد من وكالات الاتحاد الإفريقي مثل: النيباد وآلية مراجعة النظراء.
4- تبنّت القمة بالإجماع المقترح الذي تقدمت به جمهورية ناميبيا بشأن التداول الأبجدي بين دول كل إقليم على المناصب التي ينتخب مسؤوليها من أجهزة صنع القرار.
5- وأقرّت إجراء تعديل على اتفاق الشراكة بين مجموعة دول إفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادي والاتحاد الأوروبي لما بعد اتفاق كوتونو الذي ينتهي 2020، وتحويل الشراكة من مجموعات دول وتكتلات إلى شراكة بين اتحاد واتحاد، والدعوة إلى التعامل مع إفريقيا كقارة موحدة ذات صوتٍ واحد.
6- كما اعتمدت القمة ميزانية 2019 بمبلغ إجماليّ قدره 681.5 مليون دولار، على أن يتم تخصيص 158.5 مليون دولار لتمويل الميزانية التشغيلية للاتحاد، و249.8 مليون دولار للميزانية البرنامجية، في حين توظف 273.3 مليون دولار لدعم عمليات السلام.
تعليقًا على مخرجات القمة الإفريقية قال لـ”نون بوست” المحلل السياسي الإثيوبي هينوك برهاني إن الإصلاحات المذكورة لا تلبي طموحات الشعوب الإفريقية، مشيرًا إلى أن “تقليص ودمج المفوضيات من 10 إلى 8 إلى جانب دمج بعض الوكالات لن يؤثر كثيرًا في ميزانية الاتحاد”، ومع ذلك يعتقد برهاني أن “قرار الاعتماد على الموارد الذاتية للدول الأعضاء قرار صائب 100% ويساعد على استقلال توجهات الأنظمة الإفريقية من تدخلات الممولين وإملاءاتهم”.
رغم كل ما قيل ويقال عن الاتحاد الإفريقي لا يزال يحتفظ بمؤسسات قوية وفاعلة مثل مجلس السلم والأمن الذي ينشط في فض النزاعات المتعددة في القارة السمراء فلا يمكن مقارنة الأخير بنظيره في الجامعة العربية
ودعا هينوك في إفاداته الخاصة لـ”نون بوست” الأجهزة الجديدة في الاتحاد الإفريقي إلى الاهتمام القضايا الأساسية لمواطني القارة مثل خطط إنعاش وتنمية الاقتصاد للقضاء على الفقر والجهل والمرض ورفع معدلات النمو، إلى جانب قضايا التعليم والصحة، فضلًا عن حقوق الإنسان وتعزيز آليات فضل النزاع، واختتم حديثه بالدعوة إلى تخصيص كيان أو مكتب للمصالحة الاجتماعية تكون مهمته إيجاد حلول توافقية للصراعات العرقية التي تضرب أجزاءً من القارة السمراء.
أخيرًا، رغم كل ما قيل ويقال عن الاتحاد الإفريقي لا يزال يحتفظ بمؤسسات قوية وفاعلة مثل مجلس السلم والأمن الذي ينشط في فض النزاعات المتعددة في القارة السمراء فلا يمكن مقارنة الأخير بنظيره في الجامعة العربية، حيث لا وجود يذكر لمجلس السلم العربي وليس لديه نشاط حقيقي كالمجلس الإفريقي والدليل على ذلك غيابه نهائيًا عن الإعلام، فلا أحد يعرف من رئيس أو مفوض الأمن والسلم في الجامعة العربية!
والجامعة كذلك أصبحت نسخة مشوهة لا لون لها ولا نكهة، ولا تملك غير بيانات التأييد والتصفيق لدولٍ بعينها حتى بيانات الشجب والاستنكار تلاشت في الأزمات الأخيرة، ولعّل حرص المملكة المغربية على العودة إلى الحضن الإفريقي بعد غياب امتدّ لقرابة 3 عقود يدل على أن هناك ضوء وبصيص أمل في الكيان الإفريقي الذي يضم في عضويته 55 دولة أي أكثر من ضعف عدد الدول العربية، وبالاتحاد الإفريقي نماذج لتكتلات صاعدة مثل تجمع شرق القارة الذي أطلق تأشيرة سياحية موحدة والمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا.