ما زالت تبعات وأصداء حديث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عن ضرورة تأسيس جيش أوروبي موحد، تضمن به القارة العجوز حماية مصالحها، حديث العالم ووكالات الأنباء، فالكلمات الفرنسية كانت صادقة في التعبير عن حجم الأسى الأوروبي المتزايد من التسلط الأمريكي، وجنون الاستعلاء الذي يمارسه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحت شعار أمريكا أولًا، ونزع ورقة التوت عن حليفه الغربي الذي نعته رئيس أقوى دولة في العالم بأوروبا العتيقة والمريضة، ولم يتوقف عند ذلك بل طالبها بدفع ثمن حمايتها، في خطاب جديد من نوعه على دول تدور منذ عقود طويلة في المدار الأمريكي وتستظل بجناحه الأمني والاقتصادي والسياسي.
نرجسية ترامب توحد القارة العجوز مجددًا
نفذ ترامب جملة ضربات، أراد من خلالها توضيح الفارق بين حجم بلاده وأقرب الحلفاء لها، فكان الانسحاب قبل أسابيع، من المعاهدة المهمة للغرب للحد من أسلحة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، وجاءت الضربة في وقت قصير نسبيًا من إعلانه أيضًا انسحاب أمريكا من اتفاقية المناخ التي كانت باريس وما زالت من أهم المدافعين عنها.
ثم اتخذ قرارًا دون تشاور مع حلفائه بالانسحاب من الاتفاق النووي المبرم مع إيران، ولم يضع للرفض الأوروبي لهذا الانسحاب أدنى اعتبار، بل تمادى في ممارسة استفزاز وضح للجميع أنه مقصود ومدبر لإذلال الأوروبيين، بفرض رسوم جمركية عالية على صادرات دول القارة العجوز من منتجات الألمنيوم والصلب.
ذكاء ماكرون ورغبته في إعلان التصدي لعنجهية ترامب كان يبدو أنه مستعدًا له منذ لقائه الأول بالرئيس الأمريكي، وأظهر فيه الأخير العين الحمراء لحليفه الفرنسي الذي تولى منصبه للتو، بالضغط على معصم يده بكل قوة، كما هو الحال مع كل من سبقوه إلى اللقاء به، فضغط ماكرون بكل قوة وتحد، ولم يترك يد ترامب، إلا عندما نزعها الأخير كرهًا، من تأثير قوة معصم الشاب الفرنسي
عنجهية الرئيس الأمريكي، دفعت الرئيس الفرنسي لاستغلال ذكرى الحرب العالمية الأولى، وتسجيل هدف في مرمي الكبرياء الأمريكي، وترميم نظيره الأوروبي بالتبعية، وإعادة الحياة لمصطلحات كان يعتقد أنها عفى عليها الزمن، مثل وحدة المصير ووحدة الدم بين فرنسا وألمانيا، ليضرب أي محاولة أمريكية للعب دور شيطاني بينهما على خلفية الصراعات القديمة والاحتلال الألماني لفرنسا في مقتل، بما يؤكد أن فرنسا ماضية للتحالف مع ألمانيا لأحياء دور أوروبا في هذا التوقيت، وتأهيلها لممارسة دور عالمي يعيدها إلى توهجها القديم.
ذكاء ماكرون ورغبته في إعلان التصدي لعنجهية ترامب، كان يبدو أنه مستعدًا له منذ لقائه الأول بالرئيس الأمريكي، وأظهر فيه الأخير العين الحمراء لحليفه الفرنسي الذي تولى منصبه للتو، بالضغط على معصم يده بكل قوة، كما هو الحال مع كل من سبقوه إلى اللقاء به، فضغط ماكرون بكل قوة وتحد، ولم يترك يد ترامب، إلا عندما نزعها الأخير كرهًا، من تأثير قوة معصم الشاب الفرنسي.
ماكرون وترامب يتنافسان في قوة المصافحة
ذهب ماكرون إلى ساحات المعارك في شمال بلاده بمحاذاة الحدود مع ألمانيا، وحتى يشير إلى رسوخ علاقات أوروبا وبلدانها التي تناست كل شيء مرّ، قام بزيارة المقبرة الجماعية التي ضمت رفات جنود فرنسيين وألمان، تقاتلوا ضد بعضهم طوال السنوات الخمسة للحرب العالمية الأولى، ومن هناك طالب بوحدة المصير المؤسسة على وحدة الدم بين فرنسا وألمانيا.
أجاب الفرنسي الشاب عن سؤال وجه إليه للحديث عن كيفية منع تكرار حدوث مأساة حرب عالمية جديدة، قد تكون على نحو أسوأ من نتائج الصراعات والحروب والأسلحة التي استخدمت في الصراع القديم، بما يعني أن الضحايا سيفوق أعداهم مئات المرات ضحايا الحرب العالمية الأولى التي يقفون على أطلالها الآن، لاستخلاص الدروس والعبر، بالاكتفاء بإلإشارة إلى الاحتفال الذي يحضره مع قادة وزعماء العالم وفي مقدمتهم شريكته وحليفته المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل والرئيسان الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين.
وحدة المصير.. الأوروبي أقرب من الأمريكي
President Macron of France has just suggested that Europe build its own military in order to protect itself from the U.S., China and Russia. Very insulting, but perhaps Europe should first pay its fair share of NATO, which the U.S. subsidizes greatly!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) November 9, 2018
ترامب يعلق على مطالبة ماكرون بتشكيل جيش أوروبي في مواجهة أمريكا
ساعات قليلة فصلت بين تصريحات ماكرون والتأثير الذي كان يقصده؛ فالرئيس الأمريكي الذي حضر الاحتفال بذكرى الحرب العالمية الأولى، لم يترك الليلة تمر دون التغريد كالعادة، ليعبر عن استيائه من تصريحات نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون عن ضرورة تأسيس جيش أوروبي لحماية القارة الأوروبية من الولايات المتحدة، واعتبره اقتراحًا مسيئًا جدًا، وبدلاً من الانتباه لحجم الاستياء الأوروبي من تصرفاته، عاد للغته المحببة، وطالب أوروبا بالدفع أولاً، وبمساهمة عادلة في الناتو الذي تموله بنسبة كبيرة الولايات المتحدة.
استمر ترامب في هجومه على ماكرون، بما يشير إلى أن تأثير التصريحات الفرنسية كان مؤلمًا، خاصة بعدما انتقد الرئيس الفرنسي الخلفية القومية لنظيره الأمريكي، واعتبرها خيانة للوطنية في تحد أوضح من الحديث عن الجيش والهوية الأوروبية، ليرد ترامب ساخرًا، بالقول إن الفرنسيين كانوا قد بدأوا يتعلمون اللغة الألمانية قبل أن تأتى القوات الأمريكية وتحرر بلادهم من النازيين فى الحرب العالمية الثانية، في إشارة إلى قسوة الاحتلال الألماني على فرنسا وهي التداعيات التي كانت ضمن حطب اشتعال الحرب العالمية الثانية.
توقف الرئيس الفرنسي عند هذا الحد من السجال في التصريحات مع ترامب، بعدما بينّ لأقرانه الأوروبيين ما في جعبة ترامب تجاهم، وكيف ترى أمريكا ما آلت إليه بلدان الحضارة الغربية، ليضع على أولوياتهم ضرورة النهوض بالاتحاد الأوروبي، ولن يحدث ذلك بالطبع إلا بالمضي قدمًا في تحصين العملة الأوروبية الموحدة “اليورو” باعتبارها العنوان الأوضح للتعاون الاقتصادي.
الفكرة التي أعاد لها الروح الرئيس الفرنسي، كانت دائمًا تمثل هاجسًا للعديد من قادة أوروبا الأقوياء، وعلى رأسهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إلا أن تثبث الرئيس الفرنسي ودفاعه عنها، هي الأوضح والأكثر صراحة وتصميمًا حتى الآن، فجذب على الفور تأييد ميركل التي دعمت دعوة تأسيس الجيش الأوروبي
بجانب المال لا بديل عن تشكيل “جيش أوروبي موحد”، ولم يكن لدى ماكرون أدنى أزمة في الحديث علنًا وتوصيل رسالته للشعوب الأوروبية عبر إذاعة “أوروبا 1” الناطقة بالفرنسية، وشدد الرئيس الفرنسي على أن حماية الأوروبيين، لن تتحقق بجانب الاقتصاد، إلا بإنشاء جيش أوروبي حقيقي يكون ضمانة من ناحية عدم الاقتتال الأوروبي – الأوروبي، بجانب حماية القيم الغربية، والعمل على انتشارها والدفاع عنها دون مواءمة أو تربيطات تعلي من قيم القوة فوق الحق، ويعيد لأوروبا تأثيرها العالمي كقطب يعمل له ألف حساب.
الفكرة التي أعاد لها الروح الرئيس الفرنسي، كانت دائمًا تمثل هاجسًا للعديد من قادة أوروبا الأقوياء، وعلى رأسهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إلا أن تثبث الرئيس الفرنسي ودفاعه عنها، هي الأوضح والأكثر صراحة وتصميمًا حتى الآن، فجذب على الفور تأييد ميركل التي دعمت دعوة تأسيس الجيش الأوروبي، كما دعمت الفكرة المفوضية الأوروبية، بعدما ظهر جديًا أن ترامب يتعامل معهم كقاول وسمسار أزمات، وقتما وجد المال دافع، ثم هادن ليأخذ أكثر وأكثر.
وتشكل عملية إحياء القدرات العسكرية الأوروبية المستقلة، حوافز كبرى للحصول على مكاسب أكبر، على رأسها الاستقلالية السياسية والأمنية عن الولايات المتحدة، بما يضع الأوروبيين أمام حق تقرير المصير في صد الثغرات الأمنية التي لم يتمكنوا من التصدي لها، وتحجيم تصاعد عدد الجماعات المتطرفة والإرهابيين ذوي الأصول الأوروبية الذين قد يتدفقون على بلادهم من الشرق الأوسط، عبر احتواء نزعة التطرف القومي اليمينية التي تهدد ليبرالية أوروبا، وهو توجه كانت تعارضه أمريكا بالطبع، وقوضت أي جهود في هذا الشان طوال السنوات الماضية.
لن تتقدم أوروبا تجاه أي خطوة تصحيحية متأخرة، إلا بالتخلص أولاً من التبعية العسكرية والأمنية للولايات المتحدة، وامتلاك قرارها المبني على قدرات عسكرية خاصة
الحلم الأوروبي الذي استيقظ فجأة، وبدأ يروج لأوروبا القديمة التي كانت كل دولة فيها قطب مستقل عن النظام العالمي، فضلاً عن توحد القارة دائمًا أمام أي تهديد لمبادئها، وجد أن غفلته جعلت أقطابًا أخرى، تصعد إلى جوار الولايات المتحدة، وأصبح للصين وروسيا قراراتهما وأفكارهما ومصالحهما الخاصة التي يعمل لها الجميع آلف حساب.
ولن تتقدم أوروبا تجاه أي خطوة تصحيحية متأخرة، إلا بالتخلص أولاً من التبعية العسكرية والأمنية للولايات المتحدة، وامتلاك قرارها المبني على قدرات عسكرية خاصة، تستطيع منافسة أي قوة عالمية أخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وستستند بذلك إلى تشجيع الرئيس الروسي رغم الاختلاف الكبير معه، على أوروبا غير تابعة، بما يقلل من الوزن الأمريكي، ويدعم في المقابل تعددية القطبية التي تساندها موسكو وبكين، لتوقف زحف الهيمنة الأمريكية، وخاصة أن النموذج الترامبي أصبح له شعبية كبيرة في أمريكا، بعدما حقق طفرة كبيرة للاقتصاد لم تشهدها البلاد منذ عقود، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ والقيم الأمريكية؛ فعندما يحضر المال، يغيب كل شيء، وتصبح كل قيمة لها ثمن تباع به وتشترى في العرف الجديد لـ”الترامبيين الجدد”.