“من الوارد جدًا أنه كان على معرفة بقتل خاشقجي”، الكلام عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وقائله ليس سوى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد نحو 50 يومًا على جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول.
غامضًا بدا الموقف للبعض، فليس جزمًا بالتأكيد ولا بالنفي، لكن رآه آخرون متقدمًا مقارنة بسالف مواقف ترامب في القضية، ولأول مرة دخل ترامب مساحة التفريق بين محمد بن سلمان والمملكة العربية السعودية التي لم يجد لتبرير العلاقة معها سوى لغة المصالح.
ليست في رجل تُختزل الدولة
ترامب أصدر بيانًا مليئًا بعلامات التعجب، دافع فيه عن المملكة، وألقى بظلال من الشك على تقييم أجهزته الاستخباراتية، ففي تعقيب لافت للانتباه في البيان الصادر عن البيت الأبيض بالأمس أشار ترامب إلى أن علاقة بلاده في كل الأحول هي مع المملكة العربية السعودية.
رغم هذا التطور تشير صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” إلى أن ترامب لا ينوي معاقبة السعودية أو ولي عهدها على مقتل خاشقجي
برر ترامب ذلك بضمان مصالح أمريكا و”إسرائيل” والشركاء الإقليميين، وكرر خشيته من أن إلغاء العقود الدفاعية مع السعودية سيفيد روسيا والصين، فيما بدت كلماته محاولة للتخفيف من الحرج باختيار ترامب الانحياز للمصالح الأمريكية وبالمغالاة ربما في تقدير العلاقة مع الرياض.
صحيح أن دونالد ترامب لم يتعجل تبني استنتاجات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “CIA” التي تخلص إلى أن ولي العهد السعودي هو من أمر بقتل جمال خاشقجي، إذ يرى أن عمل الاستخبارات مستمر للنظر في المعلومات المتاحة، لكنه بدا كمن أخذ مسافة لأول مرة وعلنًا من شخص الأمير محمد بن سلمان.
كيف سيكون التعامل مع الرجل إذا ثبت بالدليل القاطع تورطه في جريمة القنصلية السعودية؟ عندها لن يعود من مجال للقول ربما تورط ولي العهد في قتل خاشقجي وربما لا، أو كما قال في منتصف أكتوبر إن كان حكام السعودية ضالعين في الأمر فالعواقب ستكون وخيمة.
ربما انتظر محللون انعطافة أكبر في موقف الرئيس الأمريكي كفرض عقوبات تشمل أعلى هرم السلطة في السعودية، لكن التخلي عمَّا بدا لكثيرين سياسة تستر وإنكار كان تطورًا لافتًا للغاية، ورغم هذا التطور تشير صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” إلى أن ترامب لا ينوي معاقبة السعودية أو ولي عهدها على مقتل خاشقجي.
واضح أن ترامب اقترب أكثر من أي وقت مضى منذ تفجر قضية خاشقجي من المجتمع السياسي والإعلامي والحقوقي في الولايات المتحدة، فحتى الكونغرس الأمريكي الذي ظل بحزبيه وغرفتيه في العموم أكثر اندفاعًا نحو إجراءات حازمة ضد السعودية ترك الرئيس الأمريكي الباب مواربًا لإيجاد مساحة مشتركة مع رجالاته النافذين، وكأنه يستبق الانتقادات المحتملة من الكونغرس، حيث يُنتظر صدور عدد من مشاريع القوانين لمعاقبة السعودية.
بدا ترامب في بيانه – بحسب صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية – كأنه ألقى بالكرة إلى ملعب المشرعين، فالكونغرس برأيه حر في الذهاب فيما وصفه بمسار مختلف بشأن السعودية، لكنه أضاف أنه سيعمد إلى اتخاذ قرارات تتوافق مع مصالح واشنطن الأمنية.
استبدال الأمير الشاب
لعلها رسالة ترامب باتجاه الرياض أيضًا كي تتحرك لإحداث ما يمكن تسميتها “تغييرات ذكية” قبل فوات الأوان، فالصمت بين أمراء آل سعود لا يعني دائمًا الرضا، قد يكون خوفًا، لكن إلى متى؟ مصادر كثيرة تقول إنه لن يطول، فكل ما في الأمر هو تريث محسوب، يعملون سرًا في انتظار ساعة الحسم.
نقلت “رويترز” أن أمراء في أسرة آل سعود يناقشون استبدال الأمير الشاب بعمه العائد من منفاه الطوعي في لندن
وكالة “رويترز” للأنباء تتحدث عن مسعى داخل البلاط الملكي لسحب البساط من تحت أقدام سلمان وولي عهده، وتنقل عن 3 مصادر وصفتها بالمقربة من الديوان الملكي أن عشرات من الأمراء وأبناء العم من فروع قوية لأسرة آل سعود يريديون أن يروا تغييرًا في خط الخلافة على رأس الهرم لكنهم لن يتصرفوا بينما لا يزال الملك سلمان البالغ من العمر 82 عامًا على قيد الحياة؛ لأنه لن ينقلب على ولده الذي وصفته “رويترز” بـ”المفضل لدى أبيه”.
ونقلت “رويترز” أن هؤلاء الأمراء يناقشون في المقابل استبدال الأمير الشاب بعمه العائد من منفاه الطوعي في لندن، فالأمير أحمد بن عبد العزيز الشقيق الأصغر للملك سلمان قد يكون وليًا للعهد بدلاً من ابن أخيه محمد بن سلمان، وربما آخر الملوك المنحدرين من صلب الملك المؤسس، “بأيدينا لا بأيدي خارجية يُرتب البيت”.
وكان الأمير المذكور الذي شغل منصب وزير الداخلية 40 عامًا وأحد ثلاثة من أعضاء هيئة البيعة الذين عارضوا تعيين محمد بن سلمان وليًا للعهد في منتصف 2017 قد عاد للمملكة بعد فترة غياب طويلة في لندن وبعد الحصول على ضمانات أمنية من الولايات المتحدة وبريطانيا بعدم تعرض ولي العهد له، وعقد لقاءات خلال وجوده في لندن مع أعضاء آخرين في الأسرة السعودية الحاكمة يقيمون حاليًا خارج المملكة، واستشار شخصيات داخل المملكة لديهم شخصيات مماثلة، وشجعوه على انتزاع السلطة من ابن أخيه، وذلك استنادًا إلى موقع “ميدل إيست آي“.
ويرى البعض أن جريمة خاشقجي هدية من السماء للعشرات من أفراد عائلة أشاعت فيهم سياسة الاعتقالات ومصادرة الأملاك الرعب، “فالسعودة” تسري في شرايين المملكة منذ سنوات، في اقتصادها، في تعليمها وداخل مستشفياتها، لكن ترتيب البيت ربما لن يكون سعوديًا خالصًا.
وكالة رويترز، وبحسب المصادر التي نقلت عنها تعتقد بأن الدور الأمريكي سيكون حاسمًا، وأن مسوؤلين أمريكيين كبار أوضحوا لمستشارين سعوديين أنهم سيؤيدون الأمير أحمد بن عبد العزيز خليفة محتملاً للملك سلمان، واستنادًا إلى أحد مصادر “رويترز” الثلاث فإن الأمير أحمد بن عبد العزيز سيحصل على دعم أفراد الأسرة والأجهزة الأمنية وبعض القوى الغربية.
من غير المعتاد أن تظهر تصريحات للجبير في هذا الوقت المتأخر، ولكن بعد تقرير رويترز عن أمراء آل سعود بات من الواضح أنه رد مسبق على التقرير
— جابر بن ناصر المري (@JnAlMarri) ٢٠ نوفمبر ٢٠١٨
لكن بدا من تصريحات ترامب أن الإدارة الأمريكية مترددة، ولم تحسم قرارها النهائي، وترامب نفسه يعيش صراعًا داخليًا، بين “التاجر” الذي يغريه بريق الذهب ولو كان أسود، والرئيس الذي يزعم أن أمريكا ليست دولارات فحسب، أمريكا مبادئ وقيم ومؤسسات أمنية وسياسية ومجتمعية لها كلمتها أيضًا في قضية مقتل خاشقجي.
يتحدث وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو فيؤكد صورة “التاجر” وينفي صورة الرئيس حين يعبر عن أمله في أن تسدد السعودية مدفوعاتها المتعلقة بالعقود الدفاعية الأمريكية في الوقت المناسب، بينما تبدو إستراتيجية ترامب ووزير خارجيته وغيرهم في إصدار بيانات “مضللة” بشأن صفقات الأسلحة مع السعوديين ودور المملكة المزعوم في حماية أمريكا من إيران هو محاولة هزيلة لتحويل الانتباه عن الحقيقية، ألا وهي قتل صحفي محترم لأنه كتب أشياء لم تعجب “الديكتاتور” على حد تعبير محرر صفحة الآراء الدولية بصحيفة “واشنطن بوست” جاسون ريزايان.
من بعيد، يلوح تأثير آخر غير المصالح الأمريكية، فـ”إسرائيل” لها كلمتها أيضًا، فهي متغللة داخل مفاصل الدولة الأمريكية، ولترامب صهر ومستشار اسمه جاريد كوشنر، وهو عين “إسرائيل” في البيت الأبيض، وصديق ابن سلمان، وبالنسبة لـ”إسرائيل”، فإن ولي العهد السعودي ظاهرة لا تتكرر إلا مرة في الألف عام، هكذا كتبت وسائل إعلام إسرائيلية، وعلى صفقة القرن بدأ البكاء مبكرًا قبل رحيل محمد بن سلمان.
ما عادت الدبلوماسية تجدي نفعًا
وبالتزامن مع تقرير “رويترز” خرج وزير الخارجية السعودي عادل الجبير الذي غاب عن المشهد الدبلوماسي طويلاً، ليقول في تصريحات صحفية إن قيادة المملكة العربية السعودية ممثلة في الملك وولي العهد “خط أحمر”، ولن نسمح بمحاولات المساس بقيادتنا أو النيل منها من أي طرف كان وتحت أي ذريعة كانت، على حد تعبيره، وعبَّر الجبير عن رفض بلاده بشكل كامل ما أسماها محاولات الاستغلال السياسي لقضية خاشقجي.
لكن الخط الذي رسمه الجبير لم يوقف التحرك السعودي الداخلي وتصاعد الضغوط الخارجية الدولية على ولي العهد، ووصل الأمر إلى فرض عقوبات على 18 مواطنًا سعوديًا، شملت منعهم من دخول أراضي الاتحاد الأوروبي، وهو قرار جاء بالتشاور بين باريس ولندن، دون كشف أسماء المشمولين بالعقوبات، وتزامن مع تجميد جميع مبيعات الأسلحة الألمانية إلى السعودية، ما يشير إلى أن ألمانيا مستعدة للضغط من أجل موقف أوروبي أكثر صرامة، باعتبارها أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي.
وتأتي الخُطوات الأوروبية بعد أسبوع من خطوة أمريكية أخرى فرضت بموجبها الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على 17 مسؤولاً سعوديًا، لكن ترامب كان حريصًا على اتخاذ خطوات لا تؤثر على مبيعات الأسلحة الأمريكية المربحة للسعودية، ما دفع أعضاء بالحزبين الجمهوري والديمقراطي للتحرك بشكل قوي عقب بيان ترامب لفرض عقوبات قاسية ضد السعودية وبعض أفراد عائلتها الملكية بسبب مقتل خاشقجي.
لكن هذا الغضب الدولي الذي أعقب مقتل خاشقجي لم يجد طريقًا في خطاب الملك سلمان السنوي أمام مجلس الشورى السعودين، فاكتفى بتصريحات عامة عن السياسة السعودية الرسمية وضرورة مواجهة إيران، لكن حديث الملك لم يخل بشكل غير مباشر من تداعيات مقتل خاشقجي حين أشاد بالمدعي العام للبلاد، كما أشار بشكل غامض إلى إصلاحات حكومية لضمان اتباع التعليمات بشكل صحيح لتجنب أي انتهاكات أو أخطاء.
Shameless . This is the opportunity for those democracies attending the summit in #Argentina to shun #MohammedBinSalman and treat him as the pariah he is. https://t.co/Lbh0kIjlT0 #MBS should be shamed in #buenosaires2018 #JamalKhashoggi
— Hisham Melhem (@hisham_melhem) November 20, 2018
ورغم أن الملك هو الوحيد داخل النظام الملكي المطلق المخول بتغيير ولي عهده إلا أنه ظهر وكأنه متمسك بابنه على الرغم من أن عملية اغتيال خاشقجي لطخت صورته وصورة السعودية على المستوى الدولي، وبحسب صحيفة نيويورك تايمز فإن تجنب الملك سلمان بن عبد العزيز أي ذكر للغضب الدولي يعني أنه يقف إلى جانب ابنه ولي العهد، فالملك لم يتحدث في خطابه نهائيًا عن اغتيال خاشقجي، لكنه أثنى على مشروع الإصلاحات الذي تقدم به ولي العهد لإعداد المملكة لفترة ما بعد النفط.
الأكثر إزعاجًا مما لم يقله الملك سلمان، ذلك الذي قاله وزير الطاقة السعودي خالد الفالح بشأن قرار ولي العهد حضور قمة العشرين القادمة في الأرجنتين، وتلك أول جولة إلى الخارج منذ مقتل خاشقجي، وسيواجه فيها زعماء العالم من تركيا والولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى في قمة تستمر يومين، وتبدأ في 30 من نوفمبر.
حضور ابن سلمان قمة العشرين سيرسل رسالة تحدٍ للمجتمع الدولي مفاداها أنه مهما قال أو فعل فلن يؤثر ذلك على القرار السعودي
دعوة ابن سلمان إلى قمة الدول العشرين هي رسالة تيئيس لكل الذين ما زالوا يؤمنون بوجود إمكانية للجم الانحراف القاتل لهذا الرجل، يعلَّق الكاتب الفرنسي تيري بول فاليت، مضيفًا أن مجموعة العشرين ليست موعدًا للنزهة في هذا العالم، بل هي أكبر من ذلك، وأنها قمة مهمة للحكم العالمي، ولا يجوز استبعاد الأخلاق والسلوك الإنساني والاكتفاء بما يسميه البعض السياسة الواقعية.
وإن حضر ولي العهد قمة العشرين، فإن حضوره سيرسل رسالة تحدٍ للمجتمع الدولي مفاداها أنه مهما قال أو فعل فلن يؤثر ذلك على القرار السعودي، كما أنها رسالة رسالة رهيبة إلى عائلة جمال خاشقجي وإلى جميع الذين يعتقدون بوجود أمل في احتواء الانجراف والاستبداد اللذين يمارسهما الحاكم السعودي.