ترجمة وتحرير: نون بوست
يتذكر داوود الاشمئزاز في عيون حراس الأمن الأتراك في مركز الترحيل الذي احتجز فيه العام الماضي، ويقول: ”شعرتُ وكأن الإنسانية قد ماتت”، وداوود هو شخص رقيق اللسان في الثلاثينيات من عمره، والذي تم التعريف عنه باسم مستعار لحماية سلامته؛ وحيث أضاف: ”ظلوا صرخون: ‘أنتم كالحيوانات! لقد سئمنا منكم. إن كنت رجلاً، عد إلى سوريا وقاتل!“.
كان وقع الإذلال قاسياً على داوود الذي لا تنقصه الشجاعة أو حب الوطن. وعندما عاد إلى سوريا، تطوع كعامل إنقاذ في الدفاع المدني السوري، المعروف أيضًا باسم الخوذ البيضاء. وعلى مدار خمس سنوات، اندفع داود إلى المباني المحترقة التي تعرضت للقصف من قبل نظام بشار الأسد والروس، وكان مخاطراً بحياته لإنقاذ الآخرين، قبل أن يهرب أخيراً من محافظة إدلب السورية في عام 2022 ويستقر في إسطنبول دون أوراق ثبوتية.
وأوضح: ”حاولتُ أن أشرح لهؤلاء الحراس ما عاناه السوريون”، هكذا قال داوود لمراسلنا خلال مقابلة من المطعم السوري الذي يختبئ فيه الآن، مضيفًا: “لكنهم قالوا: “نحن لا نهتم. إذا كنتم ستموتون، اذهبوا وموتوا في سوريا”.
كان داوود انتهى به المطاف في مركز الترحيل الواقع خارج مدينة غازي عنتاب التركية مباشرةً بعد القبض عليه أثناء محاولته العبور بشكل غير قانوني من تركيا إلى بلغاريا في أيلول/سبتمبر 2023. عندما وصل إلى المنشأة القريبة من الحدود السورية على متن حافلة مكتظة بالسوريين الآخرين؛ رأى مجمعًا ضخمًا مكونًا من خمسة طوابق محاطًا بجدران طويلة تعلوها أسوار معدنية وأسلاك شائكة. وعند المدخل كانت هناك لافتة باهتة مكتوب عليها ”هذا المشروع ممول بشكل مشترك من الاتحاد الأوروبي“.
عند وصوله؛ صودر هاتفه وطُلب منه الوقوف في طابور أمام إحدى الغرف. وبينما كان ينتظر دوره، كما يتذكر، تم سحب الرجل الذي وقف في الطابور أمامه من الغرفة من قبل اثنين من رجال الشرطة في ملابس مدنية وضربوه. تم استدعاء داود بعد ذلك. داخل الغرفة؛ حيث جلست امرأة في الثلاثينيات من عمرها بشعر أشقر مصبوغ خلف جهاز كمبيوتر وطلبت منه التوقيع على ”بعض الأوراق العادية“ ليتمكن من استرداد ممتلكاته المصادرة لاحقًا. نظر داود إلى الاستمارة التي أمامه ولمح عبارة ”العودة الطوعية إلى الجمهورية العربية السورية“.
يتذكر داوود قائلاً: ”أخبرت تلك المرأة بعد ذلك أنني أريد التحدث إلى محامٍ، لكنها قالت إنه لا يوجد وقت لمثل هذه الأمور مع وجود الكثير من الناس الذين ينتظرون في الطابور. وعندما أصررت على ذلك، بدأت في تهديدي قائلة: ”هل تريدني حقًا أن أتصل بضباط الشرطة مرة أخرى؟
رواية داوود ليست حادثة شاذة، بل هي الجانب المظلم للطريقة التي يستعين بها الاتحاد الأوروبي بمصادر خارجية لإدارة الهجرة إلى بلدان ثالثة، ثم يغض الطرف عن انتهاك حقوق اللاجئين.
وكما أفاد مؤلفا هذا المقال في تحقيق مشترك نسقه موقع لايت هاوس ريبورتس، فقد خصص الاتحاد الأوروبي ما لا يقل عن 200 مليون يورو كتمويل لإنشاء وتشغيل شبكة واسعة من 32 ”مركز إبعاد“ يتعرض فيها المهاجرون واللاجئون للإساءة والإذلال والإجبار على توقيع ما يسمى ”استمارات الإبعاد الطوعي“.
شمل التحقيق أكثر من نصف عام من التقارير التي أعدها أكثر من 20 صحفيًا من صحف الباييس، والمجلس النرويجي للاجئين، ودير شبيغل، والجمهورية، وبوليتيكو، ولوموند، ولإسبريسو، و”إطلالة روز“ و”سراج“.
وتقول أنقرة إنه منذ حزيران/يونيو 2023، رحّلت السلطات التركية 180,000 ”مهاجرًا غير نظامي“ و160,000 سوري ”عادوا طواعية“ إلى بلادهم. كما شهدت تركيا أيضًا أعمال شغب في تموز/يوليو الماضي حيث قام الآلاف في جميع أنحاء البلاد بإضرام النار في منازل السوريين والمتاجر والممتلكات الأخرى وهاجموا السوريين، مما أسفر عن مقتل فتى سوري يبلغ من العمر 17 عامًا. وقد أدت أعمال العنف العنصري هذه، بالإضافة إلى حملة الترحيل الجماعي التي تشنها الحكومة التركية، إلى تحويل تركيا من بلد كان يشاد به لاستضافته أكبر عدد من اللاجئين في العالم إلى مكان يختبئ فيه هؤلاء اللاجئون داخل منازلهم خوفًا من القبض عليهم الشوارع واعتقالهم وترحيلهم قسراً.
يتقاسم الاتحاد الأوروبي المسؤولية عن هذه الحملة بعدة طرق، ولم تكتفِ بروكسل بالضغط الهائل على المجتمع التركي من خلال إبرام صفقات مع أنقرة لإبقاء ملايين اللاجئين داخل تركيا، بل قامت أيضاً بتمويل نظام اعتقال واحتجاز وترحيل المهاجرين واللاجئين، كما وجد تحقيقنا.
من خلال مراجعة مئات الصفحات من الوثائق الداخلية للاتحاد الأوروبي التي حصلنا عليها من خلال طلب حرية المعلومات العام الماضي، توصلنا إلى أن الاتحاد الأوروبي خصص 213 مليون يورو لعشرات المشاريع المتعلقة بمراكز الترحيل، وتمكنا من توثيق تفاصيل كثيرة لما تم تمويله؛ من أغطية الأسرة إلى الأسلاك الشائكة. وعلى الرغم من أننا وجدنا أدلة واضحة على أن مسؤولي الاتحاد الأوروبي على علم بالانتهاكات المبلغ عنها داخل المراكز، إلا أن التمويل استمر بلا هوادة، وتناقش بروكسل حاليًا تمديدًا جديدًا.
تحدثنا أيضًا مع ما يقرب من 40 شخصًا كانوا (وفي بعض الحالات لا يزالون) محتجزين في مراكز الترحيل والمرافق المساعدة. ومن خلال تعزيز الشهادات الفردية بالنتائج المستقاة من الأدلة المرئية والوثائق العامة والداخلية للاتحاد الأوروبي وتقارير المنظمات غير الحكومية، قمنا بالتحقيق في الظروف في مراكز الترحيل بتفصيل كبير، ووجدنا أدلة دامغة على الاكتظاظ وسوء النظافة والضرب والإساءة العنصرية ومحاولات الانتحار، بالإضافة إلى حالات الوفاة المبلغ عنها التي حدثت في ظروف غير واضحة.
وفي حين غطى تحقيق لايتهاوس تجارب كل من السوريين والأفغان – وهما المجموعتان الرئيسيتان من اللاجئين في تركيا والأكثر احتجازاً في أغلب الأحيان – ركزت منظمة ”نيو لاينز“ على السوريين تحديداً.
وفي ردها على الأسئلة المكتوبة التي طرحتها ”لايتهاوس“، كررت أنقرة التزامها بمبدأ عدم الإعادة القسرية المنصوص عليه في القانون التركي والقانون الدولي على حد سواء، وأكدت أن هذا المبدأ ينطبق على سوريا، وأكدت بالتالي أن جميع عمليات العودة إلى سوريا كانت “طوعية وآمنة وكريمة”.
إلا أن هذا التحقيق وجد أدلة دامغة على عكس ذلك، ليس فقط في شهادات السوريين الذين تم ترحيلهم قسراً، بما في ذلك العديد من المحامين، بل أيضاً في الأحكام الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمحكمة الدستورية التركية، وحتى اعترافات المسؤولين الأتراك الحاليين والسابقين. وأكد أحد هؤلاء المسؤولين، وهو مستشار للرئيس رجب طيب أردوغان حتى العام الماضي، أنه في الحالات التي لا يرغب فيها الأشخاص الذين تم إرسالهم إلى سوريا في العودة، فإن الحكومة ”ترسلهم على أي حال“.
ظلت آلة الترحيل في أنقرة تعمل بكامل طاقتها لسنوات عديدة حتى الآن، ولكنها زادت نشاطها بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة في عام 2023. وخلال تلك الانتخابات الحاسمة، اقترب أردوغان من الإطاحة به وتعرض للهجوم المستمر بسبب ”موقفه اللين“ من الهجرة. وسلّط حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، الضوء على هذا الموضوع منذ عام 2018 على الأقل، ولكن هذه المرة، ذهب الحزب المعارض الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، إلى أبعد من ذلك، وتحالف مع ما يسمى بحزب النصر، وهو حزب يميني متطرف يدعو إلى الترحيل الجماعي للسوريين الذين يُفترض أنهم ”13 مليون سوري“ في البلاد (في الواقع، هناك أكثر من 3 ملايين سوري مسجلين، ومئات الآلاف على الأقل من السوريين غير المسجلين في تركيا).
وكانت النتيجة حملة مليئة بالغضب القومي والخطاب العنصري، حيث وصف زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو اللاجئين بأنهم ”طوفان غير منضبط يتسلل إلى عروقنا كل يوم… وسيهددون بقاءنا يومًا ما“.
وفي حين انتقد أردوغان لهجة المعارضة، إلا أنه انتهى به الأمر إلى تبني رسالتهم، ووعد بنفس القدر ”بضمان عودة“ مليون سوري. عندما أعيد انتخابه بأقل هامش منذ وصوله إلى السلطة قبل أكثر من 20 عاماً، تقول مصادر عديدة في أنقرة إن تعليماته لوزير الداخلية الجديد ومدير رئاسة إدارة الهجرة كانت واضحة: ضبط الحدود، وقمع الهجرة غير الشرعية، والحد من أعداد السوريين. ”لقد تم تنحية جهود الاندماج جانباً”، وقال أحد هذه المصادر، وهو على اتصال دائم مع رئاسة إدارة الهجرة، للتحقيق المشترك شريطة عدم الكشف عن هويته. ”ينصب التركيز كله الآن على ترحيل أكبر عدد ممكن من الأشخاص.“
ولتحقيق هذا الهدف، أطلقت الحركة الشعبية مشروعًا رائدًا جديدًا في تموز/يوليو 2023، مباشرة بعد الانتخابات: ما يسمى بمركبات الهجرة المتنقلة. ويوجد حالياً 270 من هذه الشاحنات ذات اللونين الأحمر والأبيض، وفقاً لوزير الداخلية. تقوم هذه العربات بدوريات في شوارع تركيا أو تنتظر خارج محطات الحافلات والمترو بحثًا عن الأشخاص الذين قد يكونون أجانب لا يحملون وثائق.
وتفاخر وزير الداخلية علي يرليكايا في مقابلة مع قناة خبر تورك التركية في آب/أغسطس من هذا العام قائلاً: ”عندما تأتي هذه العربات، لا يمكن لأحد الخروج“. وأضاف سريعاً: ”بالطبع، لا أقصد المهاجرين الشرعيين المسجلين. ولكن بالنسبة للآخرين: بمجرد خروجهم، سنقبض عليهم.“
وقال العديد من الدبلوماسيين والمحامين إنه بالنسبة للاجئين الأفغان في تركيا، من الصعب للغاية الحصول على الحماية الدولية على الرغم من استيلاء طالبان على أفغانستان في عام 2021.
وفي حين أن السوريين مؤهلون للحصول على ”الحماية المؤقتة“ – وهو وضع استُحدث لهم في عام 2013، عندما كانت تركيا لا تزال ترحب باللاجئين بأذرع مفتوحة وكان أردوغان يصفهم بـ”إخوتي“ – إلا أنه يجب أن يكونوا مسجلين في مقاطعة معينة وممنوعين من التقدم بطلب للحصول على هذا الوضع في إسطنبول وأنقرة و14 مقاطعة أخرى منذ عام 2022. حتى أولئك الذين يحصلون على وضع قانوني – الحصول على بطاقة الهوية المرغوبة المعروفة باسم ”الكيملك“ – لا يزالون يخضعون لمجموعة من القيود التي تحد من وصولهم إلى سوق العمل وحرية التنقل، مثل شرط الحصول على ”إذن سفر“ مسبق قبل الانتقال من محافظة إلى أخرى.
ويتذكر أحد الشباب السوريين، وهو طالب جامعي يدعى إبراهيم، المحنة التي تعرض لها عندما تم اقتياده إلى سيارة هجرة متنقلة في محطة الحافلات بين المدن في غازي عنتاب هذا الصيف، ولم يتمكن من تقديم وثائق إذن السفر المطلوبة. وقال إبراهيم خلال مكالمة مع أخته سمعها أحد الكتاب: ”أخبرت الرجل أنني طالب في إحدى الجامعات التركية وجئت إلى غازي عنتاب لزيارة أختي التي تعيش هناك. ”لكن الرجل قال لي: “نحن لا نهتم. اتبعني”.
في اليوم نفسه، نُقل إبراهيم إلى مخيم خارج بلدة إبيلي الواقعة على الحدود السورية. وقال إبراهيم من داخل المخيم حيث سُمح له بالاحتفاظ بهاتفه على عكس داوود: ”كل ساعتين تأتي حافلة إلى هنا وتنقل الناس إلى سوريا. إنهم يضربوننا ويأمروننا بالتوقيع على ورقة نقول فيها إننا نريد الذهاب إلى سوريا. حتى أنهم وضعوني في غرفة بلا ماء وقالوا للحارس: “يمكنه الحصول على الماء إذا أراد الذهاب إلى سوريا”.
وقالت رئاسة إدارة الهجرة (بي إن إم) في ردها على أسئلة التحقيق المشترك أن مركبات الهجرة المتنقلة يعمل بها دائمًا خبير هجرة واحد ومترجم فوري، وأن رئاسة إدارة الهجرة تقوم ”بمكافحة الهجرة غير النظامية وفقًا لقيمها الحضارية وحقوق الإنسان والقانون“.
ووفقًا لثلاثة مصادر في أنقرة، تلقى مشروع مركبات الهجرة المتنقلة تمويلًا من المملكة المتحدة، ولم ترد السفارة البريطانية في أنقرة أو مكتب الخارجية والكومنولث والتنمية في لندن على هذا الادعاء.
من ناحية أخرى؛ استثمر الاتحاد الأوروبي في التكنولوجيا المستخدمة داخل المركبات. وكما تُظهر وثيقة داخلية للاتحاد الأوروبي من عام 2020؛ فقد قدمت بروكسل ما لا يقل عن 800 ماسح ضوئي لبصمات الأصابع واستثمرت حوالي 10 ملايين يورو في تحسين قاعدة بيانات رقمية تسمى (جوك نت) أو (مهاجر نت) – وهي نفس قاعدة البيانات التي يقول موقع إدارة الهجرة واللاجئين أنها تُستخدم للتحقق من الهوية داخل إلشاحنات.
علاوة على ذلك؛ يتم استخدام أنواع مختلفة من المركبات التي تحمل شعارات الاتحاد الأوروبي أثناء عمليات التوقيف. وفي أحد الميادين المركزية في إسطنبول، على سبيل المثال، رصدنا شاحنة تحمل شعار الاتحاد الأوروبي تُستخدم للتحقق من هويات الأشخاص الذين يتم القبض عليهم من قبل فرق الهجرة المتنقلة. وكان الباب الخلفي للسيارة يحمل لافتة تحمل علمي الاتحاد الأوروبي وتركيا، ومرة أخرى تلك العبارة المألوفة: ”هذا المشروع ممول من الاتحاد الأوروبي“.
بالنسبة لحكومة أردوغان، يبدو هذا المشروع بمثابة هدية سياسية. ففي كل شهر تقريباً، تتم دعوة يرليكايا من قبل القنوات التلفزيونية الموالية للحكومة للتفاخر بإنجازاتها في السيطرة على الهجرة.
وقال في مقابلة مع قناة ”خبر A“ في أيلول/سبتمبر الماضي: ”دعوني أقدم لكم بعض الأخبار السارة!“، بينما كان يسير في الاستوديو مع عرض إحصائيات الترحيل على الشاشة الكبيرة خلفه. وقال الوزير إنه منذ شهر حزيران/يونيو من العام الماضي، قامت مركبات الهجرة المتنقلة بإجراء أكثر من 1.5 مليون عملية فحص للهوية وتحديد ما يقرب من 190,000 ”مهاجر غير شرعي“.
وفي نفس الفترة، تم ترحيل 180,000 مهاجر، كما تم ترحيل حوالي 160,000 سوري ”عادوا طواعية“ إلى سوريا. وقال يرليكايا: ”نحن الدولة الوحيدة في العالم التي تنجز ذلك بهذه الطريقة“، بينما أمطره مقدم البرنامج بالمديح، وقال: ”لقد قمنا العام الماضي بأكبر حملة ترحيل على الإطلاق“.
وبمجرد إلقاء القبض على المهاجرين واللاجئين، ينتقلون إلى المرحلة الثانية في عملية الترحيل: الاحتجاز في مركز الترحيل. وفي نفس المقابلة، قالت يرليكايا إن هناك 32 مركزاً من هذه المراكز تعمل في جميع أنحاء البلاد بطاقة استيعابية إجمالية رسمية تقارب 20,000 محتجز.
وبدأ الاتحاد الأوروبي في الالتزام بتمويل هذه المراكز منذ عام 2007 فصاعدًا وبدأ البناء في عام 2012 تقريبًا، كما تشير صور الأقمار الصناعية. وكان المركز خارج غازي عنتاب الذي احتجز فيه داوود من بين المراكز الأولى التي تم بناؤها. كما أنه كان واحدًا من ستة مراكز ”تم التخطيط لها وتصميمها في البداية لتكون مراكز استقبال لطالبي اللجوء واللاجئين“.
كما كتبت المفوضية الأوروبية في رسالة إلى هيومن رايتس ووتش عام 2022 اطلع عليها هؤلاء المراسلون. ”وبناءً على طلب الحكومة التركية في عام 2015 [تم تحويل مراكز الاستقبال] إلى مراكز إبعاد… بالاتفاق مع المفوضية الأوروبية“.
وأشار تقرير المفوضية الأوروبية إلى أن ”تكلفة هذا التحويل تم تمويلها من قبل الحكومة التركية“.
ولكن لم يتم تمويل جميع التكاليف، فبينما دفعت الآلية السياسية الخاصة ”قضبان حديدية لجميع النوافذ“ و”تغيير الأبواب الضرورية من الخشب إلى الفولاذ“، ظل الأمن في المراكز التي تم تحويلها مؤخرًا مشكلة، كما أشار تقرير داخلي عن مشروع للاتحاد الأوروبي تم تنفيذه بين عامي 2016 و2019 حصل عليه هذا التحقيق.
ووافق الاتحاد الأوروبي لاحقًا على دفع ما لا يقل عن 1.4 مليون يورو من أجل ”زيادة ارتفاع الجدران الخارجية“ في المراكز التي تم تحويلها بألواح أمنية وأسلاك شائكة – وهي نفس الأسلاك الشائكة التي قال داود إنه كان ينظر إليها من نافذته خلف القضبان. وأشار التقرير إلى أنه نتيجة لهذا الاستثمار لأموال الضرائب الأوروبية، ”انخفض معدل الهروب بشكل كبير“.
وقال متحدث باسم المفوضية الأوروبية في رده على أسئلة التحقيقات المشتركة أن الاستثمارات المذكورة هنا ”تشير إلى أنظمة الأمن القياسية في مراكز الترحيل“، وأضاف أنه ”بشكل عام، ساعدت مساعدة الاتحاد الأوروبي لمراكز الترحيل بشكل كبير جهود السلطات التركية لتحسين الظروف المادية والمادية في المراكز“.
هذا المشروع المحدد، الذي تبلغ قيمته الإجمالية 60 مليون يورو، هو واحد فقط من بين عشرات المشاريع التي عثرنا عليها في الوثائق الداخلية والعامة للاتحاد الأوروبي المتعلقة بمراكز الإزالة في تركيا. وحسبنا أن إجمالي تمويل الاتحاد الأوروبي المخصص للمشاريع المتعلقة بمراكز الترحيل يصل إلى 213 مليون يورو على الأقل. وردًا على النتائج التي توصلنا إليها، قال ممثل عن المفوضية الأوروبية في رده على النتائج التي توصلنا إليها، إن المجموع يبلغ أقل بقليل من 200 مليون يورو، لكنه لم يقدم تفصيلًا دقيقًا للمشاريع الفردية التي تم إنفاق هذه الأموال عليها.
لم يكن الاتحاد الأوروبي صريحًا للغاية في تقديم مثل هذه التفاصيل خلال هذا التحقيق. فقد أشار أحد المتحدثين باسم المفوضية الأوروبية، على سبيل المثال، إلى أن الاتحاد الأوروبي دفع تكاليف بناء 14 مركزًا وترميم أو تجديد 11 مركزًا آخر. ومع ذلك، وجدنا أدلة في الوثائق الداخلية على أن الاتحاد الأوروبي دفع أيضًا إما لتوسيع الجدران أو تعيين موظفين في تسعة مراكز أخرى لم يذكرها المتحدث الرسمي (مجموع هذا المبلغ أعلى من المراكز الـ 32 العاملة حاليًا لأن بعضها قد أغلق مع مرور الوقت).
جاء تمويل الاتحاد الأوروبي للمراكز من الناحية العملية مما يسمى ”أداة المساعدة قبل الانضمام“ (IPA). من الناحية النظرية، تهدف أموال ما قبل الانضمام هذه إلى مساعدة الدول المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مثل تركيا على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف. إلا أن مفاوضات الانضمام بين بروكسل وأنقرة توقفت منذ عام 2016 وعلق الاتحاد الأوروبي بعض مساعدات وكالة المساعدة قبل الانضمام بسبب استبداد أردوغان المتزايد، على الرغم من استمرار دعم الوكالة في مجال الهجرة.
وقد اتضحت مدى أهمية أنقرة كشريك مهم للاتحاد الأوروبي في إدارة الهجرة في آذار/مارس 2016، عندما وقعت بروكسل وأنقرة ما يسمى بالاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. وتمثل جوهر الاتفاق في أن تستعيد أنقرة ”المهاجرين غير الشرعيين“ الذين يعبرون إلى الجزر اليونانية مقابل حزمتين من المساعدات بقيمة 3 مليارات يورو لكل منهما للمساعدة في استضافة اللاجئين السوريين.
وأضيفت شريحة ثالثة بقيمة 3 مليارات يورو في عام 2021. وفي حين أن الغالبية العظمى من هذه الأموال ذهبت إلى الدعم النقدي والرعاية الصحية والتعليم للاجئين السوريين الذين هم في أمس الحاجة إليها، فإن بعض الأموال المخصصة في الميزانية بموجب الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا مولت أيضًا مشاريع لمراكز الترحيل، بما في ذلك مشروع الـ 60 مليون يورو الذي دفع ثمن الأسلاك الشائكة التي أطل عليها داود.
ومما لا شك فيه أن تمويل الاتحاد الأوروبي ذهب أيضًا إلى تحسين مستويات المعيشة في المراكز، حيث دفع الاتحاد الأوروبي ثمن مستلزمات النظافة والبطانيات والوسائد وحتى الآلات الموسيقية. ومع ذلك، أشار العديد من المحتجزين الذين تحدثنا إليهم إلى أنهم لم يستفيدوا من هذه المساعدات.
وقال غاني، وهو رجل أفغاني كان يعمل في الجيش البريطاني كمترجم واضطر إلى الفرار من طالبان، عن الفترة التي قضاها في مركز كيركلاريلي: ”عندما دخلنا المخيم، كان علينا التوقيع على ورقة تقول إننا سنحصل على الشامبو والصابون والبطانية والوسادة، لكننا لم نحصل عليها. وكان هناك العديد من الأشياء الجيدة التي دفع الاتحاد الأوروبي ثمنها، مثل الاستحمام أو ملاعب كرة القدم. ولكن لم يُسمح لنا باستخدام أي من ذلك.“
على الرغم من أن مسؤولي يرليكايا ذكروا في مقابلة معها في أغسطس/آب على موقع ”خبر ترك“ أن أي شخص مرحب به لزيارة المراكز ”في أي وقت“، إلا أن العديد من الدبلوماسيين الأوروبيين أشاروا لنا إلى أنه لا يسمح لهم بمثل هذا الدخول غير المقيد خارج الزيارات المرتبة مسبقاً والتي وصفها أحد الدبلوماسيين بأنها ”جولات دعائية“.
كما أشار دبلوماسي آخر إلى أن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة تعانيان أيضاً من محدودية الوصول إلى المراكز، و”لا يمكنهم مراقبة ما يريدون مراقبته.“
وكتب متحدث باسم المفوضية الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي يقوم بـ”بعثات مراقبة“ منتظمة إلى المراكز للتحقق من كيفية إنفاق أموال الاتحاد الأوروبي. ولم توافق المفوضية على طلب حرية المعلومات الذي تقدمنا به للحصول على هذه التقارير، مشيرةً إلى أن الوثائق تحتوي على ”ملاحظات انتقادية“ والتي، إذا ما تمت مشاركتها مع أطراف ثالثة، ”يمكن أن تضر بالعلاقات الثنائية بين المفوضية الأوروبية وتركيا“.
في حين أن الظروف تختلف من مركز إلى آخر ويقال إنها تحسنت مؤخراً في بعض المراكز، إلا أن المقابلات التي أجريناها مع موظفين سابقين، بالإضافة إلى العديد من المحامين الذين زاروا المراكز، بالإضافة إلى أقل من 40 محتجزاً سابقاً كانوا معاً شهوداً على الظروف في ثلاثة أرباع المراكز، تشير بوضوح إلى أن أشكالاً مختلفة من سوء المعاملة المنهجية والمستمرة.
وقال جميع الموظفين السابقين والحاليين الذين تحدثنا معهم أن المراكز ”أسوأ من السجون“. وقال أحد المترجمين الأتراك الذي لا يزال يعمل في العديد من المراكز: ”النظافة سيئة للغاية، والطعام سيء، وكل شيء متسخ والمباني مكتظة“.
وقال موظف حالي آخر إن شدة سوء المعاملة مرتبطة أيضًا بحقيقة أن المحتجزين ”ليسوا مواطنين أتراك“، وأن الموظفين يعملون فوق طاقتهم ويتقاضون أجورًا زائدة عن الحد. ويقول: ”معظمهم منهكون لدرجة أنهم لا يرون الأجانب إلا كأرقام”.
يمثل الاكتظاظ مشكلة هيكلية، فقد أخبرنا العديد من المحتجزين أنهم اضطروا إلى مشاركة غرف بأربعة أسرّة مع ثمانية أشخاص على الأقل، وأنهم ينامون في الساحات الخارجية أو في ملاعب رياضية مغطاة. وتظهر صور تم التحقق منها على وسائل التواصل الاجتماعي المحتجزين في مركز توزلا، الواقع شرق إسطنبول مباشرة، محشورين معًا في ملعب كرة سلة مسور وسط أكوام من القمامة. (يُقال إن الوضع هناك قد تحسن مؤخرًا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى افتتاح مركز ترحيل ضخم آخر على الطرف الغربي من إسطنبول في نهاية العام الماضي).
وقال رجل من أذربيجان يقول إنه كان في توزلا في خريف عام 2023: ”كنا محشورين معًا مثل السردين. وأُعطينا بطانية واحدة لكل أربعة أشخاص، واضطررنا إلى النوم فوق أشخاص غرباء تماماً لتجنب التجمد حتى الموت“.
وقال رجل سوري آخر كان محتجزاً بعد نجاته من زلزال 2023، عندما انتقل إلى إسطنبول وهو مسجل في مكان آخر، قال إن ”الجرذان كانت تقفز من المجاري“ في توزلا. وأدى الاكتظاظ وسوء النظافة إلى انتشار الأمراض؛ حيث قال سوري في أوائل العشرينات من عمره كان محتجزًا في مركز الترحيل في شانليورفا في الربيع: ”كان العديد من الأشخاص يعانون من أمراض المعدة ومشاكل الأسنان والأمراض الجلدية مثل الجرب“.
وقال رجل سوري آخر كان محتجزاً في نفس المركز في نفس الوقت تقريباً إنه عانى من آلام في المعدة لا تطاق بعد وقت قصير من وصوله إلى هناك. وقال إنه في غضون ثلاثة أسابيع، كانت معدته منتفخة تمامًا بالسوائل ولم يكن قادرًا على المشي من الألم، لكن الطبيب في المركز انتظر أكثر من شهرين قبل نقله إلى المستشفى. وأضاف: ”كان وزني 73 كيلوغراماً عندما دخلت شانليورفا، ووزني 44 كيلوغراماً عندما خرجت منها”.
وذكر الرجل في اتصال هاتفي من بلدة في شمال سوريا، وقال إنه تم ترحيله قبل أن يكتمل علاجه الطبي. وقد اطلع التحقيق المشترك على أدلة ورقية على احتجازه في شانلي أورفا بالإضافة إلى مقطع فيديو حديث يظهر هزاله.
وعلاوة على هذه الظروف المزرية المبلغ عنها، يتعرض المحتجزون للضرب بشكل روتيني، وقال حوالي نصف المحتجزين الذين تحدثنا إليهم أنهم تعرضوا للضرب، بينما قال حوالي ثلاثة أرباعهم أنهم شهدوا مثل هذا العنف. وأخبرنا أربعة منهم، بالإضافة إلى اثنين من المحامين، عن ”غرف الثلاجات“ التي يتم فيها ضرب ”الحالات الخاصة“ أو سكب الماء المثلج عليهم. وفي ردها على هذه الادعاءات، قالت رئاسة إدارة الهجرة إن المراكز تدار بمبدأ “عدم التسامح مطلقاً مع سوء المعاملة”” ونفت استخدام غرف الثلاجات.
وفي حين أكد جميع ضحايا سوء المعاملة تقريباً أن عمليات الضرب تتم في أماكن لا توجد بها كاميرات، إلا أن لقطات كاميرات المراقبة تتسرب من حين لآخر إلى الصحافة. ففي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، على سبيل المثال، نشرت قناة T24 التركية لقطات من كاميرات المراقبة تظهر رجلًا بملابسه الداخلية وساقه ملطخة بالدماء يطارده الحراس في ممرات مركز الترحيل في إزمير – أحد المراكز التي بنيت بأموال الاتحاد الأوروبي. ووفقًا لقناة T24، تعرض رجل سوري وآخر فلسطيني للضرب المبرح في الحادث، لكن لم تتم إدانة أي شخص حتى الآن.
”هناك إفلات تام من العقاب”، هذا ما قاله مصطفى ينير أوغلو، وهو نائب برلماني كان عضواً في حزب العدالة والتنمية الحاكم، ولكنه تحول إلى حزب الديمقراطية والتقدم المعارض، وهو مدافع قوي عن حقوق اللاجئين. وفي حديثه من مكتبه في البرلمان، يقول هو الآخر إنه ”من المعروف جيدًا أن سوء المعاملة والترهيب والإكراه يحدث بشكل منهجي في كل مكان في مراكز الترحيل. ولكن ما دام الأمر ضد الأجانب، فإن مثل هذه الأمور تعتبر طبيعية في هذا البلد“.
في مدينة شانلي أورفا التركية، وقف فتى سوري يبلغ من العمر 17 عاماً في متجر والديه يبيع المكسرات، ويتحدث التركية بطلاقة وينصح زبائنه الأتراك بأي نوع من الفستق يشترون. وعندما غادر الأتراك، أشار إلى نافذة مكسورة وروى ما حدث هناك في أوائل تموز/يوليو من هذا العام.
وقال الصبي: ”ظهروا فجأة وبدأوا في الهجوم. كان عددهم 50 شخصًا، كان الأمر مخيفًا للغاية“، كما قال صاحب متجر آخر على نفس الطريق أن متجره تعرض للهجوم، وعرض مقطع فيديو لشبان أتراك وحتى صبية يضربون السوريين بعصي خشبية، وصور لزجاج مكسور وقطرات من الدم على الأرض. ”وقال صاحب المتجر: ”لدينا لقطات من كاميرات المراقبة، ولكن ماذا يمكننا أن نفعل؟ ”إذا تقدمنا بشكوى إلى الشرطة فسوف يتم ترحيلنا.“
بدأت أعمال الشغب التي اندلعت في العديد من المدن المختلفة في جميع أنحاء تركيا في مدينة قيصري وسط الأناضول، بعد مزاعم على وسائل التواصل الاجتماعي بأن رجلاً سورياً اغتصب فتاة صغيرة. وأكد رئيس الشرطة المحلية على الفور لمثيري الشغب أن ”الضحية ليست تركية“ ووعد باتخاذ جميع الخطوات اللازمة ”بما في ذلك الترحيل“ ضد الرجل ”وعائلته“، لكن ذلك لم يهدئ من روع مثيري الشغب. وفي الأيام التي تلت ذلك، خرج ما يصل إلى عدة آلاف من الرجال إلى شوارع قيصري وألحقوا أضراراً أو أحرقوا ما يقدر ب 400 متجر وسيارة ومنزل وممتلكات أخرى لسوريين.
وقال ينير أوغلو، النائب التركي المدافع عن حقوق اللاجئين: ”كانت هذه مذبحة. هناك ثقافة إعدام خارج نطاق القانون ضد السوريين وغيرهم من اللاجئين في تركيا، وسيزداد الأمر سوءًا مع ازدياد التدهور الاقتصادي. وللأسف، لن تكون هذه هي المرة الأولى في التاريخ التركي“.
ومع ذلك، كان جزء من رد فعل الحكومة هو تكثيف عمليات ترحيل السوريين في محاولة لتهدئة الغضب. وقال ينير أوغلو إن الأشخاص الذين يعرفهم في رئاسة إدارة الهجرة كانوا على علم بأن ما يفعلونه كان خاطئاً. وأضاف: ”ولكن هناك الكثير من الخوف من إثارة المخاوف. وعلى أي حال، فإن كراهية الأجانب والمشاعر المعادية للعرب في ذروتها. إنه تطور خارج عن إرادتهم.“
وقالت المرأة ذات الشعر الأشقر المصبوغ: ”هيا، وقّع“، وألقت بنظرة تهديد على داود؛ حيث تردد عامل الإنقاذ السابق، ثم فكر في الرجل الذي تم سحبه من هذه الغرفة قبل لحظات، والتقط القلم. قال داود: ”لقد وقعت لأنني لم أكن أريد أن أتعرض للضرب. وقعت لأحفظ كرامتي“.
أكثر من ثلاثة أرباع السوريين المحتجزين الذين تحدثنا معهم في هذا التحقيق قالوا إنهم تعرضوا للضغط أو الإجبار الجسدي للتوقيع على استمارات العودة الطوعية. وبينما يحدث الكثير من الإكراه داخل المراكز، قال بعض المحتجزين إنهم أُجبروا على التوقيع على الأوراق عند الحدود السورية مباشرة.
وكان من بينهم محمد، السوري الناجي من الزلزال الذي تم احتجازه في توزلا العام الماضي. وقال إنه بعد نقله واحتجازه في معسكر في إلبلي (وهو نفس المعسكر الذي احتجز فيه ”إبراهيم“) لمدة أربعة أشهر أخرى، تم نقله إلى المعبر الحدودي عند بلدة أونجو بينار التركية في منتصف الليل تقريباً.
”وضعونا في غرفة وسألونا: ”من يريد الذهاب إلى سوريا؟ قال محمد: “ثم أطفأوا الأنوار وضربوا الأشخاص الذين قالوا إنهم يريدون البقاء في تركيا بقضبان حديدية. ثم أعادوا إضاءة الأنوار وقال الجميع: ”نريد الذهاب إلى سوريا“. ثم اقتيد هو وآخرون إلى مكان قريب للتوقيع على الاستمارات. ”كان علينا أيضًا أن نذهب ونقف أمام الكاميرا ونقول إننا ذاهبون إلى سوريا طواعية. كان البعض يبكي أثناء قول ذلك، والبعض الآخر كانت علامات الضرب على وجوههم”.
وردًا على أسئلة مكتوبة، أكدت بعثة إدارة شؤون اللاجئين السوريين على ممارسة أخذ ”تسجيلات طوعية فيديو للسوريين الذين يعبرون عن رغبتهم في العودة إلى بلدهم طواعية“. ومع ذلك، نفت استخدام أي إكراه وقالت إن جميع عمليات العودة إلى سوريا كانت ” وآمنة وكريمة“. كما أكدت رئاسة إدارة الهجرة على ”توفير الدعم القانوني لجميع المحتجزين“.
ومع ذلك، يشير تقرير تقييمي لمشروع الاتحاد الأوروبي لعام 2023 إلى أنه في عام 2022، لم يعين محامٍ سوى لـ20 بالمئة من المحتجزين. وفي العام السابق، بلغت هذه النسبة 10 بالمئة. قد لا يكون بعض المحتجزين غير قادرين على تحمل تكاليف المساعدة القانونية (فقد أبلغ العديد منهم عن ممارسات المحامين الذين يتقاضون آلاف الدولارات مقابل إجراءات بسيطة نسبيًا) ولكن العديد منهم أيضًا يكافحون من أجل الاتصال بالمحامين.
وفي حين أن القانون التركي ينص بوضوح على الحصول الفوري وغير المقيد على المساعدة القانونية منذ لحظة الاعتقال، إلا أن العديد من المعتقلين الذين تحدثنا معهم قالوا إنهم احتجزوا بمعزل عن العالم الخارجي لأيام ولم يتمكنوا حتى من إبلاغ أصدقائهم أو أقاربهم عن احتجازهم؛ ناهيك عن الاتصال بمحامٍ. وقد نفت رئاسة إدارة الهجرة هذه الادعاءات وأصرت على أنه تم توفير هواتف عمومية في المراكز، كما تم منح من لا يملكون الإمكانيات الكافية بطاقات هاتف مجانية.
وهناك مشكلة رئيسية أخرى فيما يتعلق بالحصول على المساعدة القانونية وهي التنقل المستمر للمحتجزين. ففي حين قالت رئاسة إدارة الهجرة أن عمليات النقل كانت تهدف إلى التعامل مع ”الاكتظاظ قصير الأجل“، إلا أن العديد من المحامين والمحتجزين الذين تحدثنا معهم قالوا إن عمليات النقل تعيق أيضاً العملية القانونية، حيث غالباً ما يفقد المحامون الاتصال بموكليهم بعد أول لقاء.
بل إن بعض الأماكن خارج نطاق القانون. فإلى جانب مراكز الترحيل، بدأت تركيا في استخدام ما يسمى بـ”مراكز الإقامة المؤقتة“ (TACs) كمراكز احتجاز بحكم الأمر الواقع. بُنيت معظم هذه المعسكرات الكبيرة بعد فترة وجيزة من اندلاع الحرب في سوريا لاستقبال اللاجئين، ولكن اليوم يعمل بعضها على الأقل كعامل مساعد لآلة الترحيل التركية. وقال العديد من المحامين والمحتجزين إن أسوأها على الإطلاق هو مركز الإيواء المؤقت بالقرب من بلدة حران جنوب مدينة شانلي أورفا والقريب من الحدود السورية.
وعندما تجولنا بالسيارة حول الموقع، صادفنا جدراناً طويلة وأبراجًا مراقبة وأسلاك شائكة. تكشف صور الأقمار الصناعية أن بعض أبراج المراقبة شُيّدت بعد منتصف عام 2018. كانت هناك أشياء متشابكة في الأسلاك الشائكة بما في ذلك حقيبة ظهر وحقيبة امرأة، وهي على ما يبدو من آثار محاولات الهروب السابقة.
ويقول عبد الله أونجل، رئيس نقابة المحامين في بلدة أورفة القريبة: ”فكر في هذا المكان على أنه غوانتانامو؛ حيي يمكن أن تحتجز هناك لفترة طويلة جدًا ولا أحد يعرف ما يحدث هناك.والوصول إلى محامٍ صعب للغاية، وباللتاليو الوصول إلى العدالة مستحيل“.
تحدثنا مع خمسة رجال سوريين وامرأة أفغانية محتجزين في مركز الإقامة المؤقتة في حران. تمكن بعضهم من الاحتفاظ بهواتفهم وأرسلوا لنا صورًا ومقاطع فيديو من داخل المخيم. وأظهرت الصور رجالاً يتسكعون في الحر الشديد، وبعضهم مصاب بالتهابات جلدية خطيرة، وأطفالاً ونساءً صغاراً يقفون بجوار حاويات صغيرة ينامون فيها بجوار المراحيض التي تتسرب منها المياه.
وكتب أحد الرجال السوريين على خدمة سيجنال للرسائل من داخل المخيم هذا الصيف: ”الإذلال لا يطاق. اليوم قامت إحدى النساء بطعن نفسها لمجرد الخروج“.
تمكن بعض المحتجزين من التحدث إلينا من داخل المخيم، فقد تعرض أحدهم للضرب المبرح في اليوم السابق، وقال: ”لقد كان الأمر وحشيًا، لقد استخدموا العصي هذه المرة“، بينما كان يفتح الكاميرا على هاتف صديقه لفترة وجيزة ويظهر صدره ملطخًا بالدماء والكدمات. وأكد صديقه أنه كان شاهداً على الاعتداء. وتحدث جميع الرجال السوريين الخمسة الذين مكثوا هناك عن حدوث محاولات انتحار داخل المخيم. وقال أحدهم: ”كان هناك الكثير من محاولات الانتحار التي لا يمكنني حتى إحصاؤها. الناس هنا مدمرون نفسيًا“.
وقال كل من الاتحاد الأوروبي ورئاسة إدارة الهجرة إن مركز الإيواء المؤقت في حران لم يتلق أي تمويل من الاتحاد الأوروبي. كما نفت رئاسة إدارة الهجر التقارير حول تعرض المحتجزين للضرب من قبل الموظفين ومحاولات الانتحار، وأصرت على أنه ”لا توجد أي ممارسة على الإطلاق لاستخدام مراكز الإقامة المؤقتة… كمراكز ترحيل“ – وهو ادعاء يتناقض مع روايات المحتجزين الذين لم يقيموا في مركز حران للإقامة المؤقتة فحسب، بل في إلبلي (مثل ”إبراهيم“ و”محمد“)، وهو أيضا ”مركز إقامة مؤقت“.
ومع ذلك، أكدت رئاسة إدارة الهجرة وفاة ثلاثة محتجزين في مراكز مختلفة يمولها الاتحاد الأوروبي منذ تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي. وقالت إن الوفيات كانت بسبب ظروف صحية أو أشارت إلى بيانات سابقة صادرة عن السلطات التركية تزعم ذلك.
آخر هذه الحالات هي حالة رجل سوري يدعى إبراهيم عز الدين البالغ من العمر 37 عامًا، والذي توفي في 16 تموز/يوليو من هذا العام، بعد أيام من احتجازه في مركز كيركلايرلي، وهو أحد المراكز التي تم إنشاؤها بتمويل من الاتحاد الأوروبي (لدى التحقيق المشترك نسخة من شهادة وفاته). بعد أسبوع من ذلك، وبعد تقرير نشرته صحيفة ”كرار“ التركية عن وفاة الرجل السوري بعد تعرضه للضرب، أصدر محافظ كيركلاريلي بياناً جاء فيه أن عز الدين ”فقد حياته بتشخيص أولي لانسداد رئوي حاد… ولم يتضمن تقرير التشريح أي آثار اعتداء أو قوة“.
ويشك شقيق إبراهيم في صحة ذلك، فقد أخبرنا في مكالمة هاتفية من منزله في ألمانيا أنه بعد ثلاثة أيام من وفاة إبراهيم اتصل به سوريان مختلفان أخبره كل منهما بشكل مستقل أنهما أقاما في نفس المركز الذي كان يقيم فيه إبراهيم وتم ترحيلهما بعد وفاته مباشرة. وقال كلا الرجلين إن إبراهيم تلقى تهديدات بالقتل من أحد حراس الأمن وأكد أحدهما أنه تعرض للضرب المبرح في الليلة التي سبقت وفاته، حسبما قال شقيقه.
في الصباح التالي، قال أحد الرجلين اللذين اتصلا في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، أن إبراهيم بدأ يخرج الرغوة من فمه وطلب المساعدة، ولكن قيل له أن يصمت، ولم يتم استدعاء سيارة إسعاف إلا عندما قام الحراس بتغيير نوباتهم، وأضاف: ”أخبرني هذا الرجل أن إبراهيم كان يعلم أنه يحتضر وطلب منه أن يخبر ابنه أن والده يحبه“.
وكتب التحقيق المشترك إلى محافظ كيركلاريلي لطلب نسخة من تقرير تشريح الجثة لكنه لم يتلق أي رد. وقال شقيقه أيضًا إنه لم يتلق أي تقرير من هذا القبيل. وتم حظر المقال الأصلي في صحيفة قرار التركية من قبل السلطات التركية.
وقال توم دي بوير من مكتب المحاماة براكن دي أوليفيرا في أمستردام، الذي رفع هذا العام دعوى قضائية ضد الدولة الهولندية نيابة عن عدد من المنظمات غير الحكومية بسبب مشاركتها في الصفقة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا: ”يثير هذا الأمر الكثير من الأسئلة القانونية المثيرة للاهتمام“.
وقال دي بوير إنه قد تكون هناك أيضًا طرق لتحميل الاتحاد الأوروبي المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان في المراكز التي يمولها الاتحاد الأوروبي. ”على كل من الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء واجب الحرص على عدم المساهمة بفعالية في انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك خارج أراضيها. لذا سيكون عليك أن تفحص ما إذا كان الاتحاد الأوروبي على علم، أو كان ينبغي أن يكون على علم، بمخاطر انتهاكات حقوق الإنسان وما إذا كان قد اختار مواصلة التمويل بغض النظر عن ذلك.“
وتشير المقابلات التي أجريت مع أكثر من عشرة دبلوماسيين ومسؤولين أوروبيين في كل من بروكسل وتركيا إلى أن الوعي بهذه المخاطر منتشر على نطاق واسع. ويشير جميعهم تقريبًا إلى أنهم على علم بتقارير المنظمات غير الحكومية مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، التي أبلغت عن الانتهاكات في المراكز التي يمولها الاتحاد الأوروبي وعمليات الترحيل غير القانونية إلى سوريا منذ عام 2015 على الأقل.
علاوة على ذلك، حكمت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عام 2022 بأن تركيا رحّلت لاجئًا سوريًا قسريًا بعد إجباره على توقيع ”استمارة عودة طوعية“، ويشير ”تقرير تركيا“ السنوي لعام 2020 الصادر عن المفوضية الأوروبية إلى ”وجود حالات إجبار مهاجرين على توقيع استمارات عودة طوعية“، قائلًا: ”إنهم يعلمون. الجميع يعرف. الناس يغمضون أعينهم”، هذا ما قاله مسؤول سابق في المفوضية، الذي أكد أن هناك “قلق دائم” من أن الانتهاكات المبلغ عنها في المراكز التي يمولها الاتحاد الأوروبي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى مخاطر على سمعة الاتحاد الأوروبي ومخاطر قانونية.
لكن سياسة الاتحاد الأوروبي لم تتغير – بل على العكس تمامًا. فعندما تعهدت بروكسل بالدفعة الثالثة من المساعدات البالغة 3 مليارات يورو بموجب الاتفاق مع تركيا في عام 2021، تم تخصيص 250 مليون يورو لإدارة الحدود والهجرة. وقال المسؤول السابق نفسه في المفوضية الأوروبية إن مفوض الاتحاد الأوروبي المنتهية ولايته لشؤون الجوار والتوسع، أوليفر فارهيلي، الذي تولى منصبه في عام 2019، كان ”سعيدًا للغاية“ بالتقارير التي تفيد بأن تركيا ترحل الأفغان بشكل جماعي ودعا داخليًا إلى استكشاف طرق لدعم تركيا في إعادة السوريين. وقد دفع فارهيلي أيضًا بصفقات الهجرة الأخيرة مع مصر وتونس، وهو زميل حزبي لرئيس الوزراء المجري اليميني المتطرف فيكتور أوربان.
وقال ستة دبلوماسيين أوروبيين من خمس جنسيات متمركزة في تركيا تحدثوا معنا شريطة عدم الكشف عن هويتهم إنهم على دراية تامة بالانتهاكات المبلغ عنها في المراكز. ووصف أحدهم الأمر بأنه ”موضوع لا يمكن تجاهله في الوقت الحاضر“. وقال آخر: ”لقد تحولت “مراكز الاستقبال” التي يمولها الاتحاد الأوروبي إلى سجون بحكم الأمر الواقع“. وقد أشار لنا العديد من الدبلوماسيين إلى أنهم يثيرون هذه المخاوف بانتظام مع حكوماتهم ومع بعثة الاتحاد الأوروبي في أنقرة.
لكن مواجهة نظرائهم الأتراك أثبتت أنها أكثر صعوبة. وقال أحد الدبلوماسيين إن الأتراك ينكرون ببساطة جميع المزاعم حول عمليات الترحيل القسري، وبدون مزيد من الرقابة من قبل وكالات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، من الصعب معرفة مدى ”منهجية“ الانتهاكات.
وقال دبلوماسي آخر: ”نحن لا نتصرف بهذه المواجهة. نحن فقط نسأل الأتراك، ‘كيف تضمنون أن تكون العودة طوعية؟ ثم يقولون، ‘كل شيء طوعي، لأن الناس يوقعون على استمارة ولديهم إمكانية الوصول إلى المحامين’. وعادة ما تكون هذه هي نهاية المحادثة.“
في صباح أحد أيام تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، أيقظ الحراس في مركز غازي عنتاب داوود وطلبوا منه الاستعداد. وقال داوود الذي تم ترحيله في ذلك اليوم عبر المعبر الحدودي بين بلدة كركميش التركية وبلدة جرابلس السورية: ”أجبرونا على الجلوس في الخارج في ملعب كرة السلة مع حوالي 50 إلى 60 شخصًا، ووضعونا في حافلة“. وقد اطلع التحقيق المشترك على صورة لورقة دخول مختومة ومؤرخة تحمل اسمه الكامل، صادرة عن معبر جرابلس الحدودي.
وحتى في هذه المرحلة الأخيرة من عملية الترحيل، يبدو أن تركيا تستخدم معدات ممولة من الاتحاد الأوروبي. عندما زرنا الجانب التركي من نفس المعبر الحدودي في آب/أغسطس، رصدنا حافلة ركاب بيضاء عليها شعار رئاسة إدارة الهجرة وعلم الاتحاد الأوروبي على بابها الأمامي. وفي ردٍ مكتوب على أسئلة التحقيق المشترك، قال متحدث باسم المفوضية الأوروبية إنه ”لا توجد تقارير تشير إلى أن المعدات الممولة من الاتحاد الأوروبي، مثل … المركبات، تُستخدم لأغراض أخرى غير تلك المخصصة لها“. وأضاف المتحدث: “كما هو الحال دائمًا، سيتم التحقيق في أي ادعاءات في حال تقديم أدلة”.
عند هذا المعبر الحدودي نفسه وعند معبر حدودي آخر في بلدة أونجو بينار التركية، التقينا أيضًا بسوريين يحملون حقائب سفر أخبرونا أنهم قرروا بأنفسهم المغادرة. لكن حتى في بعض هذه الحالات، يبقى مدى ”طواعية وأمان وكرامة“ عودتهم إلى سوريا أمرًا مثيرًا للجدل. فعلى سبيل المثال، قال زوجان عجوزان إنهما سيغادران لأن ابنهما تم ترحيله. وقالت امرأة أخرى مع طفلها الرضيع إنها حاولت لكنها فشلت في الحصول على بطاقة هوية صالحة، لذلك كان من الأفضل أن تغادر.
وفي حين أن الإحصاءات التركية العامة تسجل جميع حالات العودة إلى سوريا على أنها ”طوعية“، إلا أن البوابة الحدودية السورية الأكثر استخدامًا من بين البوابات الأربع التي تستخدمها أنقرة بشكل روتيني لترحيل السوريين، وهي البوابة المعروفة باسم باب الهوى، تميز بين ”عمليات الترحيل“ و”العودة الطوعية“ في الإحصاءات المنشورة على موقعها الإلكتروني. منذ نيسان/أبريل من هذا العام، سجلت بوابة باب الهوى حوالي 11,000 عملية عودة طوعية و10,000 عملية ترحيل. تستخدم بوابة حدودية أخرى في باب السلامة مصطلح ”العودة الطوعية“ فقط. ”طلب منا الأتراك استخدام هذه الكلمة لزيادة مصداقية الحكومة”، كما أخبرنا مصدر سوري على تلك الحدود شريطة عدم الكشف عن هويته. ”يريدوننا أن نخفي الحقيقة“.
وبمجرد عبورهم الحدود، يجد السوريون أنفسهم في الأراضي التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، في حالة محافظة إدلب، ومتمردي ”الجيش الوطني السوري“ المدعوم من تركيا، في حالة عفرين وأعزاز والمنطقة المحيطة بتل أبيض. ومن المعروف أن كلتا المجموعتين متورطتان في عمليات الاعتقال التعسفي والخطف والتعذيب والابتزاز. وعلاوة على ذلك، لا تزال المنطقة تتعرض للقصف بشكل منتظم من قبل نظام الأسد والطائرات الحربية الروسية، كما أن الوضع الإنساني كارثي: لا يزال 3.6 ملايين شخص من أصل 5 ملايين شخص في شمال غرب سوريا نازحين داخليًا، ويعتمد 80 بالمئة من السكان على المساعدات الإنسانية، وفقًا للأمم المتحدة.
ويقول عامل إغاثة سوري في غازي عنتاب يعمل في شمال غرب سوريا: ”السوريون الذين تم ترحيلهم إلى هنا هم الحلقة الأضعف في المنطقة. ليس لديهم ملابس ولا شريحة هاتف، وغالباً ما لا تعرف عائلاتهم حتى أين هم. ينام الكثير منهم في المساجد والقواعد العسكرية وهم في حالة ضعف شديد: إنهم يقومون بأي عمل لتغطية نفقاتهم ويمكن لأي شخص أن يجندهم“.
وهذا بالضبط ما حدث مع داوود، فعندما فشل في العثور على عمل في جرابلس وقرر الانتقال إلى إدلب، اتصل به مقاتلون من لواء السلطان مراد وعرضوا عليه وظيفة في النيجر، وهي واحدة من الوجهات الأخيرة التي تم إرسال المرتزقة السوريين إليها من خلال وسطاء أتراك (شملت الوجهات السابقة ليبيا وأذربيجان). وأضاف: ”قالوا لي إنني سأحصل على 3,500 دولار شهريًا ولن أضطر إلى القتال”، وقال داوود الذي عرض مجموعة المجندين المحتملين على الواتساب التي أضيف إليهاة ”بالنسبة للبعض، هذا هو السبيل الوحيد للخروج. لكنني لا أريد أن أكون مرتزقًا“.
وبدلاً من ذلك، دفع داوود 2600 دولار أمريكي لمهرب لإعادته إلى البلد الذي قام بترحيله للتو. وهو ليس الوحيد: فقد حاول العديد من السوريين الآخرين الذين تحدثنا معهم العودة إلى تركيا ونجحوا في ذلك، لكن الطريق محفوف بالمخاطر. ويقول داوود: ”في طريقي، رأيت العديد من الأشخاص الذين تعرضوا للضرب الوحشي من قبل حرس الحدود. لقد حاولنا وفشلنا 12 مرة في العبور. ولكن في المرة الثالثة عشرة، نجحنا في العبور، وأخذني أحد المهربين إلى إسطنبول. الحمد لله، لأن العديد من الرجال الذين ذهبوا إلى النيجر ماتوا الآن“.
لا يملك السوريون الذين يعودون إلى تركيا بعد الترحيل فرصاً مستقبلية كبيرة هناك. فهم غير قادرين على تجديد بطاقات هويتهم التركية، هذا إن كانوا يملكونها، ويمكن أن يتم القبض عليهم وترحيلهم مرة أخرى في أي وقت. وإلى جانب العديد من السوريين الآخرين – وغيرهم من اللاجئين والمهاجرين في تركيا – حتى من بين أولئك الذين لديهم وثائق صالحة، يبدو أن هدف الوصول إلى أوروبا أصبح الهدف الأسمى.
في الواقع، ووفقًا لإحصائيات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ازداد عدد الوافدين غير النظاميين من تركيا إلى اليونان ثلاثة أضعاف في عام 2023 مقارنة بالعام السابق، ليصل إلى ما يقرب من 50,000 شخص، تزامنًا مع الانتخابات الرئاسية التي أجريت في الوقت الذي قررت فيه أنقرة تسريع عمليات ترحيل ”المهاجرين غير النظاميين“. وقال العديد من الدبلوماسيين إن الخوف من الترحيل هو أحد العوامل التي تدفع الناس حاليًا إلى أوروبا. وقال أحد الدبلوماسيين عن سياسة الاتحاد الأوروبي في الاستثمار في مراكز الترحيل في تركيا: ”إنه فشل ذريع. ليس فقط من حيث حقوق الإنسان، ولكن أيضًا من حيث إدارة الهجرة“.
وفي الوقت نفسه، يناقش مسؤولو الاتحاد الأوروبي في بروكسل كيفية إنفاق حزمة المساعدات الجديدة البالغة 2 مليار يورو، والتي خصصها الاتحاد لتركيا في شباط/فبراير. وأكدت وزارة الخارجية الهولندية أن التمويل الجديد المحتمل للمراكز هو جزء من تلك المناقشات. وقال أحد الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي: ”هناك توقعات بزيادة التمويل المخصص للهجرة وإدارة الحدود، لأن هذا كان التزامًا من قبل مفوضنا“.
يعيش داوود الآن حياة الاختباء في مطعم سوري في ضواحي إسطنبول، حيث عرض عليه أصدقاء له إيواءه. أحدهم زميل سابق له تطوع أيضاً في الدفاع المدني السوري. قال داوود: ”لقد مررنا بالكثير معاً. نحن مثل الإخوة“.
وأوضح داوود أنه لم يغادر هذا المكان خلال الأشهر العديدة الماضية إلا مرة واحدة فقط؛ حيث كان ينام في الجزء الخلفي من المطعم ويحتفظ بمتعلقاته القليلة – بعض القمصان المطوية بعناية وبطانية وزجاجة عطر – في خزانة الملابس بجوار المراحيض. وفي كل يوم، يقوم بـ60 تمريناً يومياً ليحافظ على صحته العقلية. أما بقية وقته فيقضيه في العمل في المطبخ لسداد الديون التي تكبدها للمهرب السابق وادخار المال لمهرب آخر ليأخذه إلى أوروبا، كما فعل قبل عام.
وتابع داوود قائلًا: ”كل ما أريده هو أن أعامل كإنسان مرة أخرى“. وعرض أقاربه في أوروبا إرسال المال له، لكن عامل الإنقاذ السابق قال إنه يفضل أن ينقذ نفسه هذه المرة. وعندما سُئل عن السبب، قال مازحًا وهو يستعرض عضلة ذراعه مازحاً: ”لأنني رجل“.
الكتاب: أندريس مورينزا (الباييس)، ميلفين إنغليبي (المجلس النرويجي للاجئين)، يلينيا غوستولي (لاسبرسو)، مسعود تاتوز (الجمهورية)، مهند النجار، شبنم أرسو، مورييل كاليش وشتفن لودكه (دير شبيغل), ضياء وايز (بوليتيكو)، ونيكولا بورسييه (لوموند)، ومحمد بسيكي (الجمعية السورية لصحافة الاستقصاء والمساءلة)، وجليل رونق (مؤسسة ”إطلالة روز“)، والصحفيون المستقلون محمود بافاخ وجياكومو زاندونيني وج. جلالي ومي بولمان وفهيم عابد وبشار ديب وإيلينا ديبري وشارلوت ألفريد من ”لايتهاوس ريبورتس“.
المصدر: مجلة نيو لاينز