في الـ8 من أكتوبر عام 1928 أعداد كبيرة من المدرسين والمسؤولين الأتراك خضعوا لامتحانات اللغة لمدة أسبوعين تقريبًا، بهدف اختبار قدراتهم على قراءة وكتابة وفهم لغتهم الأم ولكن بأبجدية مختلفة عن التي اعتاد أجدادهم وأباؤهم التعامل بها على مدار 900 عام، فقد أقر القانون رقم 1353 استخدام الحروف اللاتينية بدلًا من الأحرف العربية وذلك بدءًا من 1 من نوفمبر 1928 وبأمرٍ من مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك.
العام الماضي، شهدت جمهورية كازاخستان السوفيتية السابقة قرارًا مماثلًا، فقد وقع الرئيس الكازاخي نور سلطان نازارباييف مرسومًا يقول: “حكومة جمهورية كازاخستان بصدد تشكيل لجنة وطنية للانتقال من أبجدية اللغة الكازاخية إلى الأحرف اللاتينية، وضمان الانتقال التدريجي من الأبجدية الكازاخية إلى الكتابة باللاتينية بحلول عام 2025“، وذلك عوضًا عن الكيرلية أو السيرلية المعتمدة على الأبجدية الروسية، فلماذا تغير كازاخستان أبجدية لغتها؟ وهل هناك دول أخرى سارت على هذا النهج وتراجعت فيما بعد؟
هذه ليست المرة الأولى
تعد كازاخستان بلدًا ثنائي اللغة؛ حيث تستخدم الكازاخية وهي لغة تركية يتحدث بها نحو 64.4% من السكان وتعتبر لغة الدولة بحسب الدستور، أما اللغة الثانية فهي الروسية التي يتقنها معظم الكازاخ وتستخدم في مجال الأعمال التجارية والحكومية والدوائر الشعبية، إضافة إلى كونها اللغة الأم للجيل الكبير ذوي الأصول الروسية، فبحسب إحصاءات عام 2016، يبلغ عدد سكان كازاخستان من أصول روسية نحو 3.65 ملوين نسمة، أي نحو 20% من إجمالي سكان البلاد البالغ عددهم 18 مليونًا تقريبًا.
المثير للاهتمام أن كازاخستان تعاصر التغيير الثالث للأبجدية في أقل من 100 عام، فقد اعتمدت في البداية على الأبجدية العربية حتى عام 1920، ثم استخدمت الأبجدية اللاتينية، ولكنها بعد 11 عامًا قررت التحول إلى السيريلية في عام 1940 على غرار جميع دول الاتحاد السوفياتي السابقة وحاليًّا تستبدلها باللاتينية.
نتائج استطلاع رأي تبين أن 79% من المشاركين في المسح أكدوا أن الأبجدية الكازاخستانية الجديدة ليست صعبة
في إطار خطة التحول، عقدت وزارة الثقافة والرياضة في كازاخستان بالاتفاق مع منظمات ومكتبات ومؤسسات تعليمية أخرى فعالية عامة باسم “التجديد الروحي”، حضرها 1.5 مليون شخص من أجل هجاء وممارسة الأحرف اللاتينية ضمن أنشطة جماعية ومن خلال تنفيذ امتحانات إملائية وسمعية.
فوفقًا لوكالة الأناضول التركية، قال يربول تليشوف المدير العام لمركز اللغة والعلوم والتطبيقات الوطنية: “الطلاب في الصف الأول في المرحلة الابتدائية سوف يبدأوا الدراسة باللغة اللاتينية في عام 2020″، مضيفًا إلى ذلك نتائج استطلاع رأي تبين أن 79% من المشاركين في المسح أكدوا أن الأبجدية الكازاخستانية الجديدة ليست صعبة.
لماذا تتخلى كازاخستان عن الأبجدية السيريلية وما عواقب ذلك؟
نشرت صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية مقالًا بعنوان “حولوا اللغة الكازاخية إلى الأحرف اللاتينية”، تشير فيه إلى أن إعلان استبدال الأحرف الأبجدية جاء أول مرة في عام 2007، واشتد الإصرار على تطبيقه رسميًا عام 2014 أي بعد الأحداث في أوكرانيا، فبحسب المقال، “بدأ المجتمع الكازاخستاني يظهر قلقًا معينًا فيما يتعلق بالجارة الشمالية، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر باستخدام أساليب هجينة من التأثير على الوعي العام في البلدان المجاورة، بما في ذلك من خلال الاستخدام الفعال لمجال المعلومات، حيث تهيمن وسائل الإعلام الروسية”، ما يعني أن السلطات الكازاخستانية ترغب في إضعاف النفوذ الروسي في الساحة الثقافية والمنابر الإعلامية.
وتبعًا لذلك يرى مراقبون أن هذه الخطوة دفعة رمزية وإضافية على طريق الاستقلال والانفصال من ظلال الماضي السوفياتي، وذلك على اعتبار أن اللغة الروسية أو حروفها شكل من أشكال الهيمنة الاستعمارية على الثقافة واللغة الكازاخستانية، فمن المتعارف عليه أن موسكو تحتفظ بمشاعر قوية تجاه الدول التي تتحدث لغتها.
يرى بعض النقاد السياسيين أنها خطوة ستفصل الأجيال القادمة عن ماضيهم وتعزلهم عن تاريخهم المكتوب بأبجدية مختلفة، كما حدث في تركيا التي لا يستطيع أفراد شعبها الحاليّ قراءة التاريخ العثماني بتوسع وتعمق
في هذا الجانب، وصف النائب في مجلس الدوما الروسي أليكسي جورافليوف، هذا التغيير بأنه “خطوة غير ودية تجاه روسيا الاتحادية”، لكن بالنسبة إلى نازارباييف فإن القرار يهدف إلى تطوير المجتمع على نحو فعال، وتسهيل الاتصال مع العالم الخارجي، ومساعدة الأطفال على تعلم اللغة الإنجليزية بسرعة أكبر، وما هو إلا موجة تجديد روحي وثقافي في البلاد، سعيًا إلى الانضمام لنادي الدول الثلاثين الأكثر تقدمًا في العالم.
في الجهة المقابلة يرى بعض النقاد السياسيين أنها خطوة ستفصل الأجيال القادمة عن ماضيهم وتعزلهم عن تاريخهم المكتوب بأبجدية مختلفة، كما حدث في تركيا التي لا يستطيع أفراد شعبها الحاليّ قراءة التاريخ العثماني بتوسع وتعمق بسبب جهلهم باللغة العثمانية، ففي أكثر من مناسبة دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شعبه لتعلم اللغة العثمانية تعويضًا لما سلب منهم ومن حضارتهم وذاكرتهم.
الجانب المشرق في هذه المسألة فيأتي من كونها خطوة أمام الانفتاح على العالم الغربي وفرصة للاندماج والتبادل التجاري والعلمي والتكنولوجي
يضاف إلى ذلك، الخوف من افتعال مشاجرات وأعمال عنف بين الأوساط الاجتماعية التي تتحدث الروسية في المجتمع الكازاخستاني، حيث يوجد نحو 130 قومية تستخدم اللغة الروسية فيما بينها كلغة مشتركة وأداة للتواصل، وأي مساس بها قد يعتبر عنصرية وتحيزًا للأغلبية الكازاخية، وقد يزيد بالتالي من أعداد المهاجرين إلى روسيا.
أما الجانب المشرق في هذه المسألة فيأتي من كونها خطوة أمام الانفتاح على العالم الغربي وفرصة للاندماج والتبادل التجاري والعلمي والتكنولوجي، ولا شك أن التركيز على اللغة الكازاخية في التعاملات الخارجية سيزيد العلاقات التركية الكازاخستانية تقاربًا في الجانب الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي والثقافي.
وسائل إعلام حكومية أفادت بأن إجمالي ميزانية الحكومة لعملية التحول ستبلغ نحو 664 مليون دولار، يذهب 90% تقريبًا منه إلى برامج التعليم ونشر الكتب المدرسية ودروس الأدب
اقتصاديًا، وجد بعض الخبراء أنه من الصعب إجراء تقييم صحيح للتكاليف المباشرة لهذا المشروع الضخم، لكن وسائل إعلام حكومية أفادت بأن إجمالي ميزانية الحكومة لعملية التحول ستبلغ نحو 664 مليون دولار، يذهب 90% تقريبًا منه إلى برامج التعليم ونشر الكتب المدرسية ودروس الأدب، إضافة إلى المدونين ومستخدمي الإنترنت الذين خصصت لهم أكثر من مليون دولار للترويج للأبجدية الجديدة وشرحها على المنصات الإلكترونية.
علمًا، أن اللغة الشيشانية غيرت أبجدية لغتها في أكثر من مرة أيضًا، ففي البداية كانت تكتب بالأبجدية العربية، ولكنها لم تأخذ شكلًا أدبيًا رسميًا، فاستخدمت الأبجدية اللاتينية مطلع العهد السوفيتي في عشرينيات القرن الماضي، ثم استبدلتها بالحروف السيريلية حين فرضت السلطات السوفيتية ذلك بغرض توحيد الكتابة لدى الشعوب السوفياتية، إلى أن عادت مجددًا خلال فترة التسعينيات إلى اللاتينية، لكنها لم تلق رواجًا شعبيًا، فتم استخدام الحروف الروسية مجددًا.