دخل الاتحاد العام التونسي للشغل، اليوم الخميس، في إضراب عام عن العمل في القطاع العمومي، احتجاجًا على ما قال إنها “خطط حكومية لبيع مؤسسات عمومية”، في الوقت الذي تواجه فيه حكومة يوسف الشاهد ضغوطًا خارجية قوية لتنفيذ إصلاحات يطالب بها المانحون الدوليون.
إضراب انقسمت حوله الآراء في تونس بين مؤيد لهذا الحق الدستوري ومدافع عن خيار الاتحاد، ورافض لفكرة الإضراب لتبعاته الاقتصادية والاجتماعية على البلاد، وبين الطرفين يبرز العديد من المستفيدين من هذا التمشي الذي اختارته المركزية النقابية في تونس.
الاتحاد يستعرض قوته
يتعلّق هذا الإضراب الذي يشمل أكثر من 600 ألف موظف حكومي في تونس، بكل العاملين بالوزارات والإدارات المركزية والجهوية والمحلية والمؤسسات الخاضعة لأحكام القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية على غرار موظفي وزارة التربية ووزارة التعليم العالي ووزارة الصحة (باستثناء الحالات الاستعجالية) وموظفي وزارتي الفلاحة والعدل وكذلك الإدارات المالية وأعوان مجلس نواب الشعب وموظفي رئاستي الحكومة والجمهورية ووزارة الخارجية.
فيما لن يشمل أعوان شركتي الكهرباء والغاز والبنوك وأعوان البريد وأعوان وزارة النقل (باستثناء الإداريين)، مع الحفاظ على الحد الأدنى من الخدمات في مراكز العمل الحيوية التي تحددها الجامعات العامة حسب خصوصية كل قطاع.
وبدأ الإضراب حضوريًا بمقر العمل إلى حدود التاسعة صباحًا (توقيت غرينيتش)، تلاه تجمع عام أمام البرلمان في ساحة باردو بداية من العاشرة والنصف صباحًا بالنسبة لأعوان تونس الكبرى وأمام مقرات الاتحادات الجهوية والمحلية للشغل بالنسبة لبقية الجهات.
يطالب الاتحاد برفع أجور موظفي القطاع العام وتحسين المقدرة الشرائية للتونسيين
كان من المرتقب أن تتزامن وقفة النقابيين وأعوان قطاع الوظيفة العمومية أمام مقر البرلمان صباح اليوم مع وجود رئيس الحكومة التونسية تحت قبة مجلس نواب الشعب، لتقديم بيان الحكومة، بمناسبة انطلاق مناقشة مشروع قانون المالية للعام المقبل، إلا أن مجلس نواب الشعب، قرّر تأجيل جلسته إلى موعد لاحق، ويرجع أول إضراب عام في تونس ينفذه الاتحاد إلى سنة 1978.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي وقعت الحكومة مع الاتحاد العام التونسي للشغل اتفاقًا على الزيادة في رواتب العاملين في نحو 124 شركة حكومية، وهو ما مكن عشرات الآلاف من الموظفين من الحصول على زيادات تراوحت بين 205 و270 دينارًا ستصرف على ثلاث شرائح، ومنع إضراب كان يفترض أن ينفذ في هذه المؤسسات يوم 24 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
والتزمت الحكومة وفق نصّ الاتفاق بعدم المساس بمساهمات الدولة في القطاع العام، والتزام الحكومة بعدم الزيادة في الأسعار ومراقبة قنوات التوزيع، وتضاعف عدد العاملين بالقطاع العام 16 مرة، منذ الاستقلال إلى سنة 2017، ليرتفع من نحو 36 ألفًا سنة 1956 إلى أكثر من 690 ألف موظف.
تصاعد الخلاف بين الشاهد والاتحاد
هذا الإضراب العام، يؤكّد حدّة التوتر الذي وصلت له العلاقة بين المركزية النقابية التي يشرف عليها نور الدين الطبوبي والحكومة برئاسة يوسف الشاهد التي بدأت عملها في شهر أغسطس/آب 2016 كنتاج لوثيقة قرطاج الموقعة بين مختلف الأطراف السياسية والمنظمات النقابية في البلاد.
وتمسك اتحاد الشغل بتنفيذ هذا الإضراب العام بعد أن فشلت جلسات المفاوضات بين الطرف الحكومي والطرف النقابي في التوصل إلى اتفاق يُلغيه، رغم نجاح المفاوضات الأخيرة بالقطاع العام وموافقة الحكومة على زيادة الأجور وعدم بيع شركات حكومية.
وعلى امتداد أكثر من عامين، تميزت العلاقة بين الطرفين بتطورات كبرى، فقد كانت العلاقات بينهما في البداية مستقرة غير أن تصاعد الأزمة السياسية وخروج نداء تونس من الحكم أزّم العلاقة بينهما، إلى أن وصلت إلى طريق مسدود وتم إقرار الإضراب.
قبل يوم من الإضراب، أعلن نور الدين الطبوبي، في حوار مع القناة التليفزيونية الخاصة “نسمة”، أن الاتحاد سيتخذ إجراءات وأشكال تصعيدية أخرى عقب الإضراب، وأكد الطبوبي أن اجتماعًا ستعقده الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد الشغل، يوم السبت المقبل، لتدارس نتائج هذا الإضراب وللاتفاق بشأن أشكال تصعيدية جديدة من النضال من أجل تحقيق المطالب الاجتماعية المشروعة وهي تعديل المقدرة الشرائية للأجراء العاملين في قطاع الوظيفة العمومية.
كان الاتحاد العام التونسي للشغل، قد نفذ إضرابين عامين في 2013، الأول يوم 8 من فبراير/شباط، احتجاجًا على اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد أمام بيته في العاصمة تونس، بينما كان الإضراب الثاني في يوليو/تموز، احتجاجًا على اغتيال المعارض القومي الناصري محمد البراهمي في 25 من الشهر نفسه.
من يملك القرار في تونس؟
في أثناء خروجه من آخر جلسة مفاوضات جمعته مع رئيس الحكومة التونسية، أول أمس الثلاثاء، وإعلانه إيقاف التفاوض والوصول إلى طريق مسدود، قال نور الدين الطبوبي: “قرار تفعيل الزيادة في أجور الوظيفة العمومية، لم يعد قرارًا سياديًا وطنيًا، بل ينتظر الضوء الأخضر من وراء البحار”.
وتتهم بعض قيادات اتحاد الشغل، الحكومة بالارتهان إلى صندوق النقد الدولي وتطبيق توصياته وأجنداته في البلاد دون مراعاة الشعب، معتبرين أن المشروع الإصلاحي للوظيفة العمومية الذي تقوده الحكومة تحت مراقبة صندوق النقد الدولي مخالف لأحكام دستور البلاد ولا يراعي مصلحة الموظفين والأجراء.
ويطالب الاتحاد برفع أجور موظفي القطاع العام، وتحسين المقدرة الشرائية للتونسيين والحفاظ على المؤسسات العمومية، غير أن الحكومة متمسّكة بعدم الزيادة في الأجور، نظرًا لالتزاماتها مع المانحين الدوليين على رأسهم صندوق النقد الدولي.
وتعاني تونس من تضخم كتلة أجور موظفيها التي انتقدها صندوق النقد الدولي ووصفها بأنها من بين الأكبر عالميًا بالنظر إلى حجم اقتصاد البلاد، ويقدر حجم كتلة الأجور في الوظائف العامة وفق مشروع ميزانية الدولة لعام 2019، بنحو 16485 مليون دينار، (5887 مليون دولار)، أي ما يعادل 14.1% من الناتج الإجمالي، مقابل 14% محددة في سنة 2018.
تتجه تونس إلى عدم فرض أي ضرائب جديدة على الأفراد السنة المقبلة
قبل أيام حذّر مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد، جهاد أزعور، من أنه يجب على تونس إبقاء فاتورة أجور القطاع العام تحت السيطرة لتجنب مشاكل خطيرة متعلقة بالديون، وشرح أزعور في تقرير نشرته “رويترز”، أنه “من المهم جدًا للحكومة أن تحافظ على السيطرة على الإنفاق الجاري وأن تبقي السيطرة على فاتورة الأجور”.
وأضاف: “سيسمح لهم هذا بتحقيق الأهداف المالية التي حددوها للعام 2019، وسيخفف أيضًا الضغط الإضافي الذي ستفرضه زيادة الإنفاق على دافعي الضرائب”، وقال أزعور إن الحكومة بحاجة إلى تنفيذ “سياسة مالية شديدة المحافظة” ستسمح لها بتقليص عجز ميزانيتها تدريجيًا إلى مستويات مقبولة للاقتصاد.
وتبرّر الحكومة تمسكها بعدم الزيادة في الأجور إلى أن عدم تقييدها ببنود اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، قد يعرضها إلى صعوبات في تحصيل ما تبقى من أقساط قرض بقيمة 2.9 مليار دولار الذي تعهد النقد الدولي بمواصلة صرفها إلى حدود أبريل/نيسان 2020 تماشيًا مع تقدم برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تعهدت به الحكومة.
هل يقلب الشاهد الطاولة؟
يرى بعض المتابعين للشأن العام في تونس أن هذا الإضراب من شأنه أن يضعف الحكومة، ويساهم في مزيد من الاحتقان بالبلاد، خاصة أنه يتزامن مع تصاعد الصراع بين قصري قرطاج والقصبة ومطالبة نداء تونس الفائز بأغلبية مقاعد البرلمان في انتخابات 2014 برحيل الحكومة.
غير أن البعض، يذهب إلى اعتبار هذا الإضراب بمثابة الفرصة الكبرى لرئيس الحكومة يوسف الشاهد لقلب الطاولة والتملّص من التزاماته تجاه المانحين الدوليين الذين يطالبونه بإصلاحات كبرى من شأنها أن تؤثر في المقدرة الشرائية للمواطنين وتزيد في إرباك اقتصاد البلاد عوض إصلاحه.
يسعى الشاهد لاستثمار هذه الفرصة للترويج لشخصه
يعتبر هذا الإضراب بمثابة المبرّر الذي يمكن أن يستغله الشاهد لإقناع صندوق النقد الدولي بعدم قدرته على تنفيذ التزاماته تجاههم، حفاظًا على السلم الاجتماعي الذي يعتبر أولوية أولويتهم، وكانت الحكومة التونسية تدرس في وقت سابق تطبيق حزمة من الإصلاحات تمس المؤسسات الحكومية كبيع حصص في 3 بنوك على سبيل الخصخصة بالإضافة إلى خطوط الطيران التونسية ومؤسسات أخرى، وتسريح ما لا يقل عن 10 آلاف موظف في القطاع العام بشكل اختياري خلال العام الحاليّ، في إطار خطط متفق عليها مع صندوق النقد.
ويمكن للشاهد الآن إن استغل هذا الإضراب أمام المانحين أن يمرر ميزانية العام المقبل وخيارات يُرضي بيها الشعب، قبل سنة من الانتخابات التشريعية والرئاسية التي يطمح الشاهد أن يكون رقمًا صعبًا خلالها.
على غير العادة، تتجه تونس إلى عدم فرض أي ضرائب جديدة على الأفراد السنة المقبلة، مع تخفيف الضرائب المفروضة على شركات بعض القطاعات على غرار الصناعة والتكنولوجيا والاتصال، وهو ما يتناقض مع توصيات صندوق النقد الدولي والمؤسسات المقرضة.