استفاق الشعب العراقي على ظهور فاعل لمنصب رئيس الجمهورية العراقية بعد عقد ونصف من الغياب شبه التام، لرؤساء بلا حضور داخلي ولا خارجي.
برهم صالح الشخصية السياسية الكردية الكارزماتية، تتحرك بسرعة منذ أيامها الأولى في منصب رئاسة الجمهورية وتتجه لرسم سياسة خارجية عراقية عبر جولة مكوكية في دول المنطقة وتثبت حضورًا سياسيًا وإقليمًا لافتًا للنظر لم يعتد عليه العراقيون، وكذلك ساسة دول المنطقة، مما دفع الكثير لطرح السؤال الأهم: كيف سيكون شكل السياسة الخارجية العراقية في الأربع سنوات القادمة التي ستكون الفترة الرئاسية الدستورية لصالح؟
يقبع العراق في ظلال منطقة متعددة الصراعات والتجاذبات، يحاول كل طرف فيها أن يستغل العراق إلى جانبه في لعبة المحاور أو جعل أرضه ساحة لتصفية الحسابات والنفوذ، ومن غير المنطقي أن يتم طرح قراءة سياسة العراق الخارجية للسنوات القادمة دون قراءة لواقع المنطقة وتداعياته على العراق.
سياسة العراق الخارجية التي يتبناها الرئيس العراقي هي سياسة متفق عليها بين رئاسات العراق الثلاثة التنفيذية والتشريعية؛ مما يكسب صالح زخمًا وشرعية أكبر من شرعية منصب الرئيس الفخري لمبادرته في إصلاح ما يمكن إصلاحه
ورغم طرح الرئيس العراقي الجديد خلال زياراته للكويت والسعودية والإمارات والأردن وإيران مبدأ التعاون المشترك وعدم الانحياز وتبني فلسفة شبيهة بفلسفة رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو عن تصفير المشاكل الخارجية، فإن كلمات الرئيس العراقي في جريدة الحياة تبعث رسالة مفادها أن العراق جزء من المنطقة ولا يمكن له أن يستقر دون استقرارها، والتداخلات الإقليمية مؤثرة في العراق ولكنها تبعث رسالة إيجابية من زاوية أخرى مفادها أن سياسة العراق الخارجية التي يتبناها هي سياسة متفق عليها بين رئاسات العراق الثلاثة التنفيذية والتشريعية مما يكسب صالح زخمًا وشرعية أكبر من شرعية منصب الرئيس الفخري ولمبادرته في إصلاح ما يمكن إصلاحه.
الرئيس صالح نشر في 10 من نوفمبر الحاليّ مقال يقول في مقدمته: “من الممكن أن تكون هذه المرحلة البداية الحقيقية لخروج العراق من دوامة أزماته، وبالتالي الإسهام في تجاوز المنطقة بالكامل لأزماتها، والطريق بات أكثر وضوحًا لدى العراقيين نحو الضفة الأخرى، وهو مرتبط باستحقاقات داخلية، وأخرى خارجية متبادلة مع الأشقاء والجيران ودول العالم، والقيادة العراقية الجديدة في المستويات التشريعية والتنفيذية تمتلك الرؤية الواضحة لمثل هذه الاستحقاقات”.
الاستحقاقات الخارجية التي ذكرها الرئيس العراقي تحددها أربعة ملفات رئيسية متعددة الأشكال، يشكل العراق جزءًا منها يكبر أو يصغر حسب نوع الاستقطاب وأقطابه، ويتداخل في بعض الأحيان، وسوف نستعرض خلال هذا المقال أنواع الاستقطابات وموقف العراق منها وتوقعات شكل قراره السياسي الخارجي مستقبلًا تجاه هذه الملفات.
1- ملف المياه
يواجه العراق تحديًا حقيقيًا في ملف المياه خاصة أنه يواجه مشكلة حاليّة على الأرض في موضوع شح المياه والملوحة في الجنوب العراقي، ويقبع السبب الأساسي في المشكلة أن العراق يعتبر دولة مصب وليس منبعًا للمياه مما يجعله تحت ضغط دول المنبع (تركيا وإيران).
إيران التي أعلنت أنها تنفذ 3 مشاريع كبرى لإحياء سهول خوزستان وإيلام، إضافة إلى نقل المياه بالأنابيب أراضي سهل سيستان ومشروع إنشاء الشبكات الفرعية للري والبزل في محافظات غرب وشمال غرب ايران جعلها تمنع حق العراق بالمياه وفق المعاهدات الدولية، ولأن العراق لا يمتلك وسائل ضغط حقيقية على طهران فإنه عجز عبر سياسته الخارجية في كسب تقدم حقيقي في هذا الملف، لكن العقوبات الأمريكية الاقتصادية الحاليّة على إيران قد تمكن المفاوض العراقي من فتح الملف مجددًا لتحقيق وضع أفضل لتدفق المياه إلى أراضيه.
إن ملف المياه سيكون حاضرًا وبقوة في السنوات المقبلة وسيخلق توترات إذا لم يستطع العراق إدارة مياهه داخليًا وإدارة الملف مع إيران وتركيا خارجيًا بما يضمن عدم حدوث كارثة نتيجة الجفاف خاصة في الجنوب العراقي
فيما تفجرت أزمة دبلوماسية مع تركيا بسبب سد إليس المقام على نهر دجلة، وسببها شروع تركيا بملء خزان السد مما خفض نسبة تدفق مياه دجلة للعراق بواقع 50%، لكن الأزمة انتهت بدفع حصة العراق كاملة من قبل تركيا بعد ضغط سياسي واجتماعي تتوج بزيارة العبادي لأنقرة ولقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لكن الأزمة لم تحل بشكل جذري، فقط تم تأجيلها على أمل أن يعيد العراق بناء منظومة ترشيد والاستفادة من المياه الواصلة له، لذلك فإن الملف سيكون حاضرًا وبقوة في السنوات المقبلة وسيخلق توترات إذا لم يستطع العراق إدارة مياهه داخليًا وإدارة الملف مع إيران وتركيا خارجيًا بما يضمن عدم حدوث كارثة نتيجة الجفاف خاصة في الجنوب العراقي.
2- الملف الأمني
يعد العراق بعد هزيمته لتنظيم داعش محورًا مهمًا في الحرب على الإرهاب في المنطقة، ولضمان عدم تكرار التجربة القاسية يحتاج العراق للتعاون الأمني مع دول المنطقة في ملاحقة أعضاء داعش الفارين، وأيضًا للتنسيق المعلوماتي عن أي تهديد أو تشكيل محتمل خاصة في وجود جبهة ما زالت ملتهبة في سوريا.
يمتلك العراق أوراقًا مهمة في المجال الأمني منها قدرته على الضغط على حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره أنقرة أولوية أمنية لديها، فيما يمتلك العراق ورقة مهمة تجاه السعودية وإيران في تحسين صورة طهران والرياض المرتبطة بالإرهاب عبر فسح المجال لهما لتقديم نفسيهما كمحاربين شرسين للإرهاب في المنطقة
فيما يمتلك العراق أوراقًا مهمة في هذا المجال منها قدرته على الضغط على حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره أنقرة أولوية أمنية لديها وقد اتخذ جبال قنديل أقصى الشمال العراقي مقرًا له، فيما يمتلك العراق ورقة مهمة تجاه السعودية وإيران في تحسين صورة طهران والرياض المرتبطة بالإرهاب عبر فسح المجال لهما لتقديم نفسيهما كمحاربين شرسين للإرهاب في المنطقة.
فيما يعتبر أمن البصرة أولوية مهمة للكويت المجاورة للجنوب العراقي وقد ظهر هذا بشكل واضح خلال تظاهرات البصرة الأخيرة التي رفعت حالة التأهب القصوى على حدودها الشمالية خوفًا من أي تطور أمني هناك.
لعل أبرز ما يمكن أن يحققه العراق في هذا المجال قدرته على الوصول لكمية ممتازة من البيانات التي خلفتها داعش في المناطق العراقية المستعادة، هذه المعلومات لو تمكن العراق من استغلالها عبر أجهزة استخبارات قادرة على جمع وتحليل المعلومات وتبادلها مع الدول الأخرى وفق آليات تجعله يكسب من هذه المعلومات أهدافًا أمنية وسياسية فإنه سوف يقطع شوطًا جيدًا في توازن القوى في المنطقة.
الملك سلمان يستقبل الرئيس العراقي برهم صالح في قصر اليمامة بالرياض
3- الملف الاقتصادي
يعتبر العراق سوقًا كبيرًا في منطقة الشرق الأوسط لوجود القوة الشرائية النسبية والكثافة السكانية البالغة 38 مليون نسمة، وتعد الصادرات الإيرانية والتركية للعراق جزءًا مهمًا في العلاقات معهما، فقد بلغت صادرات إيران للعراق 13 مليار دولار؛ لذلك يعتبر العراق أحد المتنفسات الاقتصادية الإيرانية خاصة بعد قرارات العقوبات الأمريكية عليها، فيما يمثل العراق السوق الأكبر للبضائع التركية في المنطقة وكذلك يعتبر العراق المشتري رقم واحد في تركيا؛ الأمر الذي استخدمه العراق فعليًا للضغط على تركيا فيما يتعلق بملف المياه خلال أزمة سد أليسو.
فيما تحاول السعودية التوسع في دخولها للسوق العراقية خاصة أنها تحاول في السنوات القادمة تنويع مصادر الدخل مما يعطي العراق أفضلية من ناحية استخدام الملف الاقتصادي العراقي والسوق العراقية في فتح آفاق وعلاقات تعتمد مبدأ البراغماتية البحتة والبحث عن المصالح.
فيما يحتاج العراق اقتصاديًا لدول المنطقة بشكل أساسي في ملف إعادة الإعمار، وللأسف فإن التجربة الكويتية في مؤتمر إعادة اعمار العراق غير موفقة ولم تثمر خاصة أن هناك وعودًا عربية لم تتحقق على الأرض رغم مرور أكثر من عام على المؤتمر؛ مما يجعلنا نطمح لمبادرات حقيقية أو ضغوط سياسية عراقية لإيفاء المتعهدين في المؤتمر بالتزاماتهم تجاه العراق.
4- ملف الصراعات الإقليمية
الصراع الإيراني الأمريكي: يعتبر العراق أحد أبرز مناطق الصراع بين النفوذ الإيراني والأمريكي في المنطقة، وحالة الشد والجذب بين البلدين خلقت حالة من التأثير الأمني والاقتصادي بشكل مباشر على العراق، الأمر الذي حاول أن يحاربه رئيس الوزراء العراقي العبادي، هذا الاستقطاب ألقى بظلال وخيمة طوال الـ15 عامًا الماضية، ولكن المشكلة الأساسية أن القرار السياسي العراقي مرهون إلى حد كبير بالقدرة الإيرانية التي تمتلك كثيرًا من أوراق اللعب في الساحة السياسية العراقية.
ولعل الأزمة بلغت ذروتها بعد قرار ترامب فرض عقوبات على طهران؛ الأمر الذي أدخل الحكومة العراقية السابقة في مأزق حقيقي دفع العبادي للتصريح بالتزامه بالقرار الأمريكي رغم عدم موافقته له، فيما يتوقع أن تستخدم إيران العراق كساحة رئيسية في تحديدها للقرارات الأمريكية؛ مما يوقع العراق في حرج دبلوماسي حقيقي بين إيران وأمريكا لن ينتهي إلا بقرار أمريكي يستثني العراق من العقوبات الإيرانية.
الصراع الإيراني السعودي: في ثمانينيات القرن الماضي قاتل العراق إيران نيابة عن الخليج العربي حتى أطلق عليه حامي البوابة الشرقية، هذا الحال تغير بعد 2003 ووصول المعارضة العراقية المدعومة إيرانيًا للسلطة في بغداد؛ الأمر الذي خلق جفوة عن محيطه العربي دامت لحين وصول ترامب للسلطة في أمريكا؛ الأمر الذي ضغط على الطرفين العراقي والخليجي للانفتاح على بعض بغرض تحقيق توازن في المنطقة ولمواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد.
مما لا شك فيه أن العراق بعد تجربته المريرة منذ 2004 إلى 2017 أدرك أن تصفية الحسابات على أرضه مكلف جدًا مما دفعه لمحاولة إبعاد العراق عن الصراع السعودي الإيراني؛ الأمر الذي نجح إلى حد ما خاصة في وجود مناطق بديلة للصراع متمثلة في اليمن وسوريا، ولكن يبقى السؤال في حال توقف الصراع اليمني والسوري هل يعود الصراع للأرض العراقية؟ هذا ما يجب أن يفكر فيه العراق وكيف يضمن أن تدور حرب أخرى على أرضه عبر الوكلاء في المنطقة.
رئيس مجلس النواب العراقي الحلبوسي خلال زيارته لقطر
الصراع الخليجي القطري: إن أزمة الخليج تخلق حالة من الاستقطاب العربي في الخليج الذي يشكل العراق جزءًا منه رغم عدم دخوله تحت عباءة مجلس التعاون الخليجي، لكن تأثير انحيازه لمحور من محاور الصراع سيخلق ثقلًا مهمًا، خاصة فيما يتعلق بوجوده في الخليج وتقاطعه الاقتصادي في ملفات النفط والأمن.
ورغم انفتاح السعودي في المجال الرسمي والاقتصاد، فإن قطر حافظت على حبل الود مستمرًا عبر تخفيض الجزيرة لهجتها تجاه الملفات العراقية وخاصة الحشد الشعبي، فيما تم حل الأزمة المتعلقة باختطاف الصيادين القطريين في العراق بدفع فدية قطرية؛ الأمر الذي خلق حالة توازن، خاصة إذا أدركنا أن أمريكا تدفع نحو علاقات أكثر قوة مع السعودية، وإيران تدفع تجاه علاقات أكثر قوة مع قطر على الحساب السعودي، لكن العراق في فترة حكم العبادي استطاع أن يتجاوز موضوع الانحياز لأحد المحاور وسوف تستمر هذه السياسة وفق رؤية العراق بالابتعاد عن التجاذبات خاصة أن وجود العراق في الصراع القطري الخليجي لا يشكل موضوعًا محوريًا في الصراع وكذلك لا يشكل أحد الأقطاب فيها لاعبًا أساسيًا في الداخل العراقي.
الأمل العراقي بالرئيس الجديد
لعل الغياب الطويل لمنصب الرئيس وعودته بشكل نشط على الصعيد الخارجي دفع العراقيين لرفع سقف التوقعات من جولات الرئيس برهم صالح ونتائجها الملموسة على الأرض، لكن مما لا شك فيه فإن السياسة الخارجية العراقية التي تحاول أن تبتعد عن نظام المحاور وتعتمد مبدأ النأي بالنفس لا يمكن أن تستمر إذا لم يكن هناك توافق سياسي في الجبهة الداخلية العراقية يدعم هذه الرؤية.
فلسفة تصفير المشاكل والحياد فلسفة يتفق الجمهور العراقي مع رئيسه فيها ويتبناها بعد كل ما حدث على أرضه، ولكنها فلسفة لا يمكن تطبيقها في ظل عدم وجود وحدة قرار سياسي عراقي حقيقي، ولا وجود مؤسسات دولة قادرة على خلق أوراق تفاوض وردع للعراق في وجه الدول التي تحاول جذبه ليكون جزءًا من صراعها الدولي أو الإقليمي
إن معضلة العراق الأساسية في إدارة ملف سياسته الخارجية هي قدرة الدول الإقليمية والدولية على الضغط على أذرعها داخل العملية السياسية العراقية لتنفيذ أجندة الدولة المتنفذة وليس أجندة العراق.
رئاسات العراق الثلاثة: الحلوبسي على اليمين وعبد المهدي على اليسار يتوسطهم صالح
إضافة إلى وجود ضعف في البنية الداخلية للدولة من الفساد وغيرها التي تعرقل جهود امتلاك أوراق ضغط حقيقية لدى المفاوض العراقي في علاقة العراق مع البلدان الأخرى أو استغلال المكاسب التي قد تحقق من جهود السياسة الخارجية، فالعراق مثلاً في ملف المياه فإنه رغم كسبه لبعض الوقت من خلال الضغط على تركيا لتأجيل تخفيض تدفق المياه لكنه لم يستغل الأمر سابقًا ولا حاليًا لتنظيم موضوع المياه داخليًا لكي لا يكون ضعيفًا جدًا أمام أي تهديد بخفض مستوى تدفق المياه لأرضه.
فلسفة تصفير المشاكل والحياد فلسفة يتفق الجمهور العراقي مع رئيسه فيها ويتبناها بعد كل ما حدث على أرضه، ولكنها فلسفة لا يمكن تطبيقها في ظل عدم وجود وحدة قرار سياسي عراقي حقيقي ولا وجود مؤسسات دولة قادرة على خلق أوراق تفاوض وردع للعراق في وجه الدول التي تحاول جذبه ليكون جزءًا من صراعها الدولي أو الإقليمي.