ترجمة وتحرير: نون بوست
قبل بضع سنوات، زار تاجر آثار الأستاذ خالد أبو الفضل في منزله في لوس أنجلوس، وقال أبو الفضل لصحيفة نيو لاينز: “لقد عرض عليّ هدية أكره رؤيتها. صفحة، صفحة مفردة، من مخطوطة”.
إن أحد أسوأ أعمال العنف ضد المخطوطات، بخلاف حرقها بالكامل، هو تمزيقها، ولكن هذا ما يحدث للعديد من الكتب التاريخية، وخاصة الأمثلة الأكثر ثراءً بالزخارف، لأن بيعها صفحة تلو الأخرى يحقق ربحًا أكثر بكثير من الاحتفاظ بها كاملة. وقد يعتز الناس بالصفحات بسبب رسوماتها، وربما يقومون بتأطيرها كفن، ولكن هذه الممارسة تدمر جزءًا من قيمتها التاريخية.
ولم يعد بوسعنا أن نفهم العمل ككل، سواء محتواه أو التفاصيل التي يقدمها عن تاريخه، مثل الإشارات إلى الناسخين أو الملاك السابقين، أو السمات المادية التي تخبرنا عن البيئات الثقافية والمهنية التي أُنتج فيها هذا الشيء، أو الهوامش المنتشرة غالبًا في جميع أنحاء النص والتي تعطي رؤى حول ممارسات التدريس والدراسة والتعليق.
بعد هذا العرض المدمر، الذي كان بمثابة إغراء، أظهر التاجر لأبو الفضل قائمة بما يعرضه للبيع، من خلال فهرس يضم أكثر من مئة مخطوطة وكتاب. علم أبو الفضل على الفور أن القائمة بالكامل تعود إلى تمبكتو (مدينة في مالي)، التي كانت تمتلك واحدة من أكثر مجموعات المخطوطات إثارة للإعجاب في أفريقيا. وعندما تعرض التراث للتهديد بسبب وصول المتطرفين إلى المنطقة في سنة 2012، كان هناك جهد كبير للحفاظ على الكتب والمخطوطات القيمة التي كانت موجودة في المدينة، والعديد منها فريد من نوعه.
وتم بذل جهود لتهريب بعضها إلى عاصمة مالي، باماكو، بينما تم إنقاذ أخرى من خلال الاحتفاظ بها في المكتبات العائلية في تمبكتو. كما أخذت بعض المخطوطات قبائل محلية كانت تعرف قيمتها، فدفنتها في الصحراء، وهي بيئة جيدة للغاية للحفظ، ما لم يكتشف اللصوص مكانها.
وقال أبو الفضل، بإحباط واضح: “كان هذا الوكيل مرتبطًا بطريقة ما ببعض الأشخاص هناك الذين أخرجوا المخطوطات من تحت الرمال. وكان يعرض عليّ بيع المجموعة بالكامل مقابل 100 ألف دولار”.
وكان الفهرس يحتوي على أوصاف موجزة لكل عمل، وهو ما أظهر القيمة التاريخية الهائلة لما كان بحوزته. وقال هذا العالم البارز، الملم بالشريعة الإسلامية والتاريخ: “كانت هناك كتب عن الشريعة المالكية، كتبها علماء مالكيون أفارقة من جنوب الصحراء الكبرى لم أسمع بهم من قبل. لقد أذهلتني القائمة التي أراني إياها، بما في ذلك الفلسفة والسفر والقانون. وكان من بين أكثر الكتب إثارة للدهشة في القائمة كتابات مسلم في القرن الثامن عشر عن تجارة الرقيق، مضيفًا: “تخيلوا ما يمكن أن تقدمه تلك النصوص من رؤى”.
وكان تاجر هذه المجموعة واثقًا من أنه سيبيعها، متفاخرًا بعلاقاته بالجامعات في إسرائيل والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، بينما أغفل بشكل ملائم التداعيات القانونية المترتبة على تصدير وبيع المواد المنهوبة المحتملة، والتي إما محظورة تمامًا أو منظمة في كل من هذه البلدان. لقد شددت الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، قبضتها على استيراد الأشياء الثقافية التي يتم الاتجار بها بشكل غير مشروع والتي تدخل البلاد من الخارج، حيث تقود وحدة الاتجار بالآثار في نيويورك الطريق في تعقب الأشياء المهربة.
بالنسبة لباحث مثل أبو الفضل، قد يكون الشراء مغريًا للغاية، على الرغم من عدم قانونية كيفية الحصول على الوثائق، لكنه ليس قرارًا بسيطًا على الإطلاق. وتُظهر الأبحاث أن شراء المخطوطات والأشياء التاريخية، مهما كانت النوايا حسنة، يؤدي إلى عكس الهدف من الحفاظ على التاريخ الذي يسعى إليه أبو الفضل.
فقد ثبت أن هذه الإستراتيجية تشجع على تجارة الآثار، مما يمول ويحفز المسؤولين عن التصدير غير المشروع للتراث وتوزيعه. وفي نهاية المطاف، تخاطر هذه الإستراتيجية بخلق المزيد من المواقف التي يتم فيها نهب المواقع، أو تصبح المكتبات أو المتاحف أهدافًا، أو يتم استغلال أفراد المجتمعات المحلية الضعفاء في عمليات التنقيب غير القانونية.
وسألنا: “فهل أمتنع عن شراء المخطوطة حتى لا أشجع هذا النوع من التجارة؟ أم أجازف بضياع مخطوطة قيمة في التاريخ؟”. وأضاف أبو الفضل الذي هو في الأساس باحث: “لا ينبغي أن تكون هذه المخطوطات في المتاحف، بل ينبغي أن تكون متاحة للباحثين لتحريرها ونشرها ودراستها”. وهو يعلم أن التجار ليسوا باحثين على الإطلاق، وقال: “الأسوأ من ذلك أن تجار المخطوطات سوف يتخلصون ببساطة من المخطوطات التي لا يستطيعون بيعها”.
ومن المستحيل معرفة مقدار ما فقد من التاريخ بسبب عدم وجود سوق، لكن من المعروف أنه حدث على مدى قرون؛ ربما منذ أن بدأت المخطوطات في الظهور. لكن دعم البائعين بالمبيعات يعني أنهم سيستمرون في عاداتهم، بما في ذلك التخلص من الأشياء التي لا يمكنهم بيعها، وكما وصف أبو الفضل فهو يبدو: “وكأنه بين المطرقة والسندان”. وفي هذه الحالة، لم يكن هناك إغراء، حيث كانت المجموعة تُباع دفعة واحدة مقابل 100,000 دولار، وبعضهم سيقول إن هذا أقل بكثير من قيمتها الحقيقية، لكنه لا يزال مرتفعًا جدًا بالنسبة لأكاديمي عادي. وشعر أبو الفضل بالغضب من فقدان مثل هذه الرؤى الثمينة، فقام بطرد التاجر من المنزل.
إن تجارة القطع الأثرية التاريخية قديمة، وبالطبع ليست دائمًا ضارة. فقد عمل جامعو التحف والمؤسسات المتخصصة في كثير من الأحيان كحماة للتراث، وحفظ وتوثيق وبحث العناصر التي بحوزتهم للأجيال القادمة. ولكن أبو الفضل وآخرين يعتقدون أن ما يحدث في الوقت الحالي، مدعومًا بالعديد من الأسواق الإلكترونية التي أثبتت صعوبة كبيرة في مراقبتها، أمر غير مسبوق.
لقد جعل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي من السهل جدًا بيع الأشياء ذات المصدر المشكوك فيه (أي الأشياء التي لا تمتلك سلسلة ملكية موثقة تروي قصتها). كما أدى ذلك إلى مضاعفة مبيعات المنتجات المزيفة لهواة الجمع عديمي الخبرة. وتظهر منصات واستراتيجيات جديدة طوال الوقت، مما يجعل من الصعب على أجهزة إنفاذ القانون مواكبة ذلك.
خلقت الصراعات الأخيرة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط ظروفًا تتيح تلبية الطلب المتزايد على الآثار والمخطوطات التاريخية من خلال السلع المسروقة والمنهوبة. ونظرًا لحجم السوق الهائل، والعواقب الحقيقية المترتبة على ذلك على حياة الناس ــ بما في ذلك دور الجريمة المنظمة، واستغلال العمالة الرخيصة، وانتهاك حقوق الملكية الفردية والوطنية، والضرر الذي يلحق بتراث وموارد المجتمعات المحلية، وفقدان الفهم التاريخي ــ فإن الاتجار غير المشروع بالآثار لابد وأن يؤخذ على محمل الجد من قِبَل الجميع.
وقال أبو الفضل: “لقد رأيت صفحة واحدة من مخطوطة جغرافية تعود إلى القرن الرابع عشر، من العراق، ولا يوجد سوى ثلاث نسخ موجودة من هذا العمل. وهذا يعني أن نسخة واحدة من كل ثلاث نسخ في العالم قد تمزقت”. واقترح فكرة دقيقة مفادها أن هذه النسخة تعود لجامعة بغداد، وهي واحدة من آلاف المخطوطات التي اختفت بعد الغزو في سنة 2003.
وتابع أبو الفضل: “لقد قابلت أساتذة جامعيين عراقيين أخبروني بأهوال ما حدث للمخطوطات في بلادهم”. وكان قد زار أحدهم قسمه في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، ووصف كيف حاول إقناع القوات الأمريكية بحماية المكتبات من النهب الذي كان يمكنه أن يشعر به من اليأس الشديد في الشوارع.
في النهاية، أخبرته القوات الأمريكية: “نحن هنا لسبب آخر – هل تطلب منا أن نقلق بشأن الكتب بينما نحاول الحفاظ على أرواح جنودنا؟”. وقد اختار هذا الأستاذ العراقي، مع صديق له، أكثر عشرة مخطوطات قيمة واحتفظوا بها في منازلهم، لكن لم يستطيعوا فعل شيء بشأن البقية: لقد اختفى العديد منها تمامًا، بينما ظهرت أخرى في السوق السوداء.
ليست المخطوطات فقط هي التي تُعرض للبيع على منصات مثل إيباي؛ فمن بين العديد من الأشياء التي يصورها أبو الفضل، هناك عملات ذهبية إسلامية، يتم الإعلان عنها على أنها سُكَّت في سوريا وإيران والعراق في العصر الأموي في القرنين السابع والثامن. وتُباع هذه القطع الذهبية الصغيرة، التي تحمل نقوشًا عربية – “قطع فنية لا يمكن تعويضها وجميلة ورائعة”، على حد تعبير الفيديو الخاص به – بأقل من 2000 دولار، والعملات النحاسية أرخص بكثير. ومن السهل العثور على المزيد من الأمثلة من خلال تصفح سريع على موقع إيباي.
ووفقًا لبحث حديث أجراه عالم الآثار نيل برودي، كان هناك زيادة في بيع العملات النحاسية الأموية من سوريا بعد سنة 2011، مما يُظهر تأثير الصراع هناك، عندما انخرطت العديد من الفصائل في بيع الآثار، وأشهرها تنظيم الدولة.
وركز برودي على نوع جميل ونادر، يحمل صورة منمقة لـ (ربما) الخليفة عبد الملك وعادة ما يُطلق عليه “الخليفة القائم”. ولم يكن متداولًا إلا لفترة وجيزة في أواخر القرن السابع، وهي تتداول مرة أخرى اليوم عبر الإنترنت.
ويعتقد الباحثون أن الزيادة في المبيعات غير المشروعة لمثل هذه القطع الأثرية الصغيرة التي يسهل حملها في الجيب في السنوات الأخيرة مرتبطة بسهولة المبيعات عبر الإنترنت. وعلى سبيل المثال، يوجد على موقع إيباي بائع يبدو أنه متخصص في الأعمال الزجاجية الرومانية، يعلن عن “وعاء زجاجي إسلامي قديم” من أريحا، في فلسطين، من بين أشياء أخرى من هذا القبيل. ويعرض نفس البائع أحجار فسيفساء صغيرة، تُعرف باسم “تيسيرا”، تعود إلى أواخر العصور القديمة وتأتي من الخليل، في الضفة الغربية المحتلة من فلسطين أيضًا.
ولا يقدم الوصف الموجود على الموقع أي معلومات حول مصدر الأشياء أو سلسلة الملكية. وهناك الكثير من العلامات الحمراء، ولكن المعلومات مفقودة، وطلبات الحصول على مزيد من المعلومات لا تتم الإجابة عليها، مثل: أين تم العثور على هذه الأشياء الزجاجية بالضبط؟ إذا تم العثور عليها أثناء الحفريات الأثرية المنتظمة، فلماذا يتم بيعها على الإنترنت؟ كيف تمكن البائع من الحصول عليها في المقام الأول؟
إن هذه الإشارات إلى أريحا والخليل تدق ناقوس الخطر بشكل خاص، فقد تم تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق إدارية مختلفة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو في سنة 1993، مما يعني أن هناك الآن خليطًا من اللوائح المتعلقة بحماية التراث الثقافي في فلسطين، والتي أظهر باحثون مثل موراج كيرسيل أنها سهلت الاتجار بالآثار على الرغم من وجود لوائح للحد منها.
ومع ذلك، فإن هؤلاء البائعين يروجون بشكل أكثر شيوعًا لبضائعهم على أنها قادمة من مناطق أقل تحديدًا، مثل “الشرق الأوسط”، ويعدون بشحنها بأمان من دول ثالثة، مثل تايلاند، أو المملكة المتحدة، حيث يوجد تجار الآثار غالبًا. بينما ينص موقع إيباي على موقعه الإلكتروني على أنه بموجب سياسته “لا يمكن بيع السلع المنهوبة أو المسروقة على إيباي” وتقدم التعليمات والموارد للبائعين، فإن عبء التأكد من بيع ما يشترونه بشكل قانوني يقع على عاتق المشتري.
فما هي قصة حياة القطعة الأثرية؟ وما هي القوانين التي تسمح ببيع البقايا الأثرية؟ وهل يمكن تصديرها بشكل قانوني؟ وهل يمكننا استبعاد أن تكون مسروقة؟ وهل يمكننا استبعاد احتمال أن تكون مزيفة؟ لقد طرحنا هذه الأسئلة على بائعين مختلفين للتراث الشرق أوسطي على موقع إيباي ولم نتلقَّ أي رد حتى وقت كتابة هذا التقرير. ولا يمكن لأي مشترٍ أن يكون متأكدًا من مشروعية شراء هذه القطع.
لقد أدى الصراع في سوريا، كما هو الحال في العراق، إلى انتشار عمليات النهب على نطاق واسع. وعُثر على الفسيفساء الرومانية من هنا أيضًا معروضة للبيع، على فيسبوك. ولأنها صغيرة ومكسورة عن كل ما هو أكبر، فهي قابلة للنقل وأقل قابلية للتتبع وأقل تكلفة، مثلها مثل الصفحات المفردة من المخطوطات أو العملات المعدنية.
وانتشرت مقاطع فيديو لجنود إسرائيليين وهم يفتشون في المتاحف الأثرية ومرافق التخزين في غزة خلال هذا الصراع، ولا أحد يعرف أين ومتى ستظهر القطع التي تم أخذها بعد ذلك. وربما سيتم الاحتفاظ بها في منازل الجنود كغنائم حرب، أو سيتم العثور عليها قريبًا على موقع إي باي وبيعها من أجل الربح.
وفي عدد من البلدان، تم استخدام فيسبوك لتنظيم عمليات التنقيب عن الآثار غير المشروعة وبيع أي قطع يتم اكتشافها في عمليات النهب هذه، وفي أحد المنشورات، قدم أحد المستخدمين تعليمات حول كيفية نهب مقبرة رومانية في مصر؛ وفي منشور آخر، يمكن للمستخدمين تقديم “طلب” للحصول على “مواد” معينة منهوبة.
وتضم المنطقة الكثير من الخبرات الأثرية التي تغذي في بعض الأحيان التجارة غير المشروعة في الآثار: ففي دراسة أجريت في فلسطين في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أظهر عادل يحيى أن اللصوص غالبًا ما يكونون على دراية جيدة بالمفاهيم الأثرية وتقنيات الحفر، وعندما يدرب علماء الآثار موظفيهم، فإنهم قد يدربون لصوص المستقبل. وكتب يحيى أن أحد حفاري القبور الذين تحدث إليهم، وهو رجل عجوز من قرية الجيب، قال له: “لقد تعلم أهل القرية الحفر والطبقات من عالم الآثار الأمريكي جيمس بريتشارد الذي قام بالتنقيب في القرية في خمسينيات القرن الماضي”، وهذه علامة أخرى على مجموعة من الجهات الفاعلة التي يمكن أن تشارك في الحفر غير القانوني، من القرويين إلى الجنود والميليشيات المسلحة والموظفين المدربين على يد علماء الآثار، وغالبًا ما يتعرض الأطفال أيضًا في بعض المجتمعات المحلية لخطر توظيفهم في عمليات الحفر الخطرة، كما أوضحت خبيرة التراث الثقافي مونيكا حنا في مصر.
وسألنا الفضل عمّا إذا كان قد اكتشف هوية من يبيع المخطوطات، فذكر لنا مثالين معبّرين للغاية؛ الأول كان أستاذًا في لبنان “لقد لاحظ أنني قمت بتصوير هذه الفيديوهات، وكانت إحدى المخطوطات التي عرضتها مخطوطة يقوم هو ببيعها”، ومن الواضح أن البائع لاحظ انتباه الفضل، لأنه “بدأ في تضمين رسائل يزعم أنها من الحكومة اللبنانية”، كما قال الفضل، “يقول إنهم على علم بأن هذا الأستاذ الجامعي يبيع هذه المخطوطة، وعلى الرغم من أهميتها، إلا أنهم قرروا أن هناك الكثير من النسخ من هذه المخطوطة، لذا فبيعها لا يسبب خسارة وطنية”.
لقد كانوا يتعاملون مع الأستاذ الخطأ، وقال لنا الفضل بصراحة: “إما أن الرسالة مزورة أو أنه قام برشوة شخص ما. إلا إذا كنت تعتقد أن الناس في الحكومة اللبنانية أغبياء، وهو أمر وارد للغاية أيضًا، من المستحيل أن يكون هناك الكثير من النسخ من هذا النص لدرجة أنه يمكن السماح بخروج نسخة واحدة من بلدك”.
في الواقع، إن التبرير القائل بأن بيع القطع الثقافية لبلد ما أمر مشروع طالما أن هناك العديد من النسخ المماثلة لا أساس له من الصحة، فهو لا يعكس الطريقة التي تعمل بها المؤسسات والخبراء اليوم عند اتخاذ قرارات الاستحواذ. هناك حظر مطلق على تصدير القطع الأثرية في لبنان، ويتطلب الأمر استخراج تراخيص لتصدير أي نوع من القطع التي تدخل في فئة الممتلكات الثقافية إلى الخارج، وقد كانت القصة التي روّج لها التاجر لإغراء المقتني غير صحيحة كما شكّ أبو الفضل.
أما مثاله الثاني فكانت رسالة فريدة من نوعها كتبها محمد عبد الوهاب، مؤسس الوهابية. وقال أبو الفضل: “رسالة غير معروفة حتى الآن؛ لم أتمكن من العثور على سجل لها في أي مكان”، وقد تعقب صاحبها، وهو أستاذ لغة عربية متقاعد في كلية دارتموث، وقد تحدث الفضل إلى هذا الأستاذ عبر الهاتف، وسمع أن هناك ما يثبت أن الرسالة أصلية وأن محتوياتها رائعة، وأوضح أبو الفضل أنه “كان يبلغ من العمر حوالي 90 سنة، وكان يعيش بمفرده بعد وفاة زوجته”.
لقد جمع هذا الأستاذ مجموعة كبيرة من المخطوطات عندما كان في مصر في السبعينيات، واشترى مخطوطات من السوق السوداء، وجلبها إلى الولايات المتحدة رغم القوانين المصرية، بما في ذلك هذه الرسالة من عبد الوهاب مع سلسلة الملكية التي تثبت صحتها، مما يشير إلى أنها أُعطيت أولاً إلى مستشار مصري لعبد الوهاب، ثم انتقلت عبر عائلته.
وشرح الأستاذ لأبو الفضل أسباب بيعه للمخطوطات، أنه كان قلقًا على مجموعة مخطوطاته عندما يتوفى، وأوضح أنه باع المخطوطات في الماضي عندما كان في حاجة ماسة إلى المال، لكن الوضع مختلف الآن، لكن مكتبة دارتموث لم ترغب في الحصول عليها، فليس لديهم أي مخطوطات إسلامية بالفعل وليسوا مهتمين بإنشاء مجموعة جديدة.
وهناك باحثون وجامعو كتب في جميع أنحاء أمريكا – بل في جميع أنحاء العالم – سيتهافتون على اقتناء رسائل فريدة من نوعها من شخصية مؤثرة في التاريخ الإسلامي مثل عبد الوهاب، لكن الحصول على كتب ووثائق نادرة كهذه ليس بالسهولة التي قد يتصورها المرء، وربما لم يتمكن الأستاذ من العثور على مشترٍ لأن هناك شكوكًا في أن مجموعته ستكون نعمة ونقمة في نفس الوقت: فالمكتبات ملزمة بنفس التشريعات التي تتصدى للتهريب والتصدير غير المشروع مثلها مثل المؤسسات الأخرى، ولم يعد الكثيرون على استعداد لاقتناء القطع الثقافية دون وجود أوراق تثبت مصدرها، وربما بدت هذه الوثيقة بالأخص غريبة أو غير محتملة. لم يرد الأستاذ على الهاتف منذ ذلك الحين، ونظرًا لكبر سنه، يشعر أبو الفضل بالقلق، لكن هناك الكثير من المخطوطات الأخرى التي تشغل باله، وهذه مجرد واحدة من قصص الضياع الكثيرة.
يمثل هذان البائعان على موقع “إي باي” الطريقة التي كانت تتم بها هذه التجارة في الشرق الأوسط لقرون من الزمن: البائع المطلع الذي يبعثر مجموعات المكتبات ببطء في المنطقة، والأجنبي الذي يقتني المخطوطات الرخيصة ليأخذها معه إلى بلاده، وكتب أحمد الشامسي عن كيفية قيام هواة جمع المخطوطات في القرن التاسع عشر باستنزاف مخطوطات الشرق الأوسط في جميع الموضوعات ومن جميع الأنواع، النادرة منها والموجودة في كل مكان، المصورة وغير المصورة، القديمة منها والجديدة، وقد استجابت السوق، وجرى الاستحواذ على المخطوطات لا من بائعي الكتب الشرعيين فحسب، بل من أمناء المكتبات وغيرهم من موظفي المؤسسات الذين كانوا يهربونها بهدوء بغرض الإثراء الشخصي.
وشاهد أبو الفضل شخصيًا مخطوطات في مصر تحمل أختامًا تشير إلى أن مصدرها إحدى المكتبات المصرية، وأحيانًا الأزهر ودار الكتب، وكلاهما مؤسستان تعليميتان مرموقتان وعريقتان، وكلاهما نُهبتا بطريقة غير مشروعة لتحقيق مكاسب شخصية. كان أحد البائعين موظفًا في الأزهر، وشملت مسؤولياته أمانة مكتبة المخطوطات، أي أن أمين مركز تعليمي عريق كان يقوم بتفكيك المجموعة التي كان يتقاضى أجرًا لحمايتها بصفة خاصة.
وظهرت مبادرات لمكافحة هذه المشكلة، فعلى سبيل المثال، قام مشروع يسمى “حماية”، ومقره مكتبة قطر الوطنية وبدعم من الاتحاد الدولي لجمعيات المكتبات، بتدريب أمناء المكتبات وغيرهم من المهنيين في هذا المجال على مكافحة تبديد الكتب والوثائق من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعالج المشروع نفس أنواع الأنشطة غير المشروعة التي كان أبو الفضل شاهدًا عليها: المكتبات التي تتعرض للتلف أو الاستنزاف بسبب عدم وعي موظفيها.
في تموز/يوليو 2023، أكمل فريق من أمناء المكتبات وخبراء الترميم في غزة، بالتعاون مع موظفين من متحف “هيل” ومكتبة المخطوطات وبرنامج الأرشيفات المهددة بالانقراض، عملية الحفظ الرقمي لأكثر من 200 مخطوطة من مجموعة المسجد العمري الكبير في غزة، بالإضافة إلى كتب من المجموعة الخاصة للباحث عبد اللطيف أبو هاشم، وتتضمن المجموعة المرقمنة التي تم إنقاذها أعمالًا قديمة في الشعر العربي وعلم الكلام والشريعة الإسلامية يعود معظمها إلى الفترة العثمانية، ويعود بعضها إلى القرن الرابع عشر.
حدث ذلك في الوقت المناسب، فقد فُقدت مكتبة المسجد العمري الكبير عندما دُمر في القصف الإسرائيلي في كانون الأول/ديسمبر 2023. ومثله مثل بعض المخطوطات، كان المبنى نفسه عبارة عن مخطوطات منقوشة؛ حيث تعود أقدم طبقة إلى أواخر العصر الروماني، عندما كانت هناك كنيسة في نفس المكان؛ أما أقدم استخدام للمسجد فيعود إلى القرن الأول الهجري.
وبُذلت جهودٌ مماثلة لرقمنة المخطوطات في مالي بقيادة مكتبة الحرم المكي الشريف؛ حيث تم الحفاظ على التاريخ الذي كان التاجر الذي زار أبو الفضل في لوس أنجلوس يساعد في تدميره؛ ويمكن قراءة هذه المخطوطات المرقمنة، بما في ذلك الهوامش، لكن النسخ الرقمية لن تكون أبدًا مثل النسخ الأصلية المادية.
من الواضح أن الأكاديميين أصبحوا على جانبي معركة الحفاظ على التراث: فمن ناحية، يتم استشارتهم بشكل روتيني للحصول على المشورة والمساعدة في مكافحة التهريب، ومع ذلك تورط العديد منهم أيضًا في فضائح تهريب سيئة السمعة، ومن الأمثلة الشهيرة على هذه الأخيرة فضيحة “هوبي لوبي” التي تكشفت بين سنتي 2010 و2017، عندما صادرت الجمارك الأمريكية عددًا كبيرًا من القطع الأثرية القديمة من العراق كانت متجهة إلى متحف عائلة غرين للكتاب المقدس في واشنطن العاصمة (عائلة غرين هي من مؤسسي متاجر هوبي لوبي).
وكشفت أبحاث روبرتا مازا حول هذه القصة عن شبكة دولية من التجار وجامعي القطع الأثرية والمستثمرين والعلماء المتورطين في اقتناء تلك القطع ونشرها، بما في ذلك البروفيسور الشهير ديرك أوبينك، الذي خضع للتدقيق بسبب سرقة البرديات المصرية من إحدى مكتبات جامعة أكسفورد، كما تمكن أحد أمناء المتحف البريطاني من اختلاس أكثر من 1500 قطعة أثرية من مجموعته على مدى سنوات عديدة قبل أن يتم اكتشافه، ولم يتم تعقب العديد منها، إنها تجارة كبيرة، ويتورط فيها بعض الأكاديميين وأمناء المتاحف.
من السهل جدًا ببساطة بيع القطع الأثرية بشكل خاص، سواء من خلال الشبكات أو الأسواق عبر الإنترنت، لكن القانون الدولي بحاجة لمواكبة ذلك، لأسباب ليس أقلها وجود أدلة واسعة النطاق على أن هذه التجارة تمول الجريمة الدولية، واتضح هذا الأمر عندما بيعت الآثار من سوريا والعراق لتمويل تنظيم الدولة، ولكن هذا الأمر يحدث منذ فترة أطول وفي أماكن أخرى أيضًا، فقد تورطت الجماعات المسلحة وأمراء الحرب وقوات الدولة والمسؤولين الحكوميين في تهريب الآثار، ومن الصعب تنظيمها على المستوى الدولي لأن التهريب بحكم تعريفه ينطوي على عبور الحدود إلى ولايات قضائية مختلفة بقوانين مختلفة، ويطلق الخبراء على التجارة غير المشروعة في القطع الثقافية اسم “السوق الرمادية، وهي ليست دائمًا غير قانونية.
وراقب أبو الفضل جزءًا واحدًا من هذه السوق، وهو سوق الإنترنت، لأكثر من عقد من الزمان، وشهد تغيرات واسعة النطاق في ما هو متاح على الإنترنت، مما يعكس النزاعات والصراعات في الشرق الأوسط.
يقول أبو الفضل: “هناك المزيد والمزيد، فقبل عشر سنوات، كانت كل قوائم المخطوطات الإسلامية المعروضة على موقع “إي باي” تتكون من صفحة أو صفحتين، أما الآن فهي تستمر إلى الأبد، وهناك المزيد والمزيد من الدروع والسيوف والخوذات. لا يتعلق الأمر بالكمية فقط، يضيف أبو الفضل: “لقد أصبح السوق أكثر جرأة هناك قطع نادرة حقًا مقابل 10,000 دولار أو 20,000 دولار، بما في ذلك المصاحف مصورة ومزخرفة بشكل رائع، أين كانت هذه المصاحف؟ كيف انتهى بها المطاف على موقع “إي باي”؟ لن نعرف أبدًا من الذي نفذ أو امتلك أو تعبد بهذه القطع الجميلة، مما يفقدنا المعرفة بالممارسات السابقة للإسلام.
يحاول أبو الفضل أن يخبر الناس أنه لا يوجد مستقبل دون الحفاظ على الماضي، لكنه يشعر أنه يخوض معركة مستحيلة، ويقول: “على مر السنين، تغير ما هو معروض للبيع، وهذا يعني أن العديد من المخطوطات قد اختفت بين أيدي الأفراد، وليس لدينا أي طريقة لمعرفة ماهيتها أو ما سيحدث لها”.
وفي النهاية، فإن نهب الثقافات الشرق أوسطية والإسلامية ليست مشكلة يمكن حلها عن طريق شراء القطع المشكوك في أصلها، حتى وإن كان ذلك بهدف حمايتها. ففي الواقع، يمكن لهذا الأمر أن يغذي الممارسات التي توفر القطع الأثرية التي يتم الحصول عليها بطريقة غير مشروعة على أرض الواقع، ولا يمكن معالجتها على المدى الطويل إلا من خلال محاربة هذه الممارسات، سواء التجار الذين يكتشفون الفرصة، أو الأكاديميين وأمناء المكتبات وأمناء المتاحف الذين يستغلون امتيازات الوصول إليها؛ حيث يمكن لأي شخص لديه حساب على موقع إي باي أو فيسبوك أن يمتلك قطعة من الماضي: من الصفحات المفردة الرخيصة وقطع الفسيفساء إلى المخطوطات المزينة بأجمل الزخارف (وبأسعار باهظة)، وذلك بغض النظر عن كيفية الحصول عليها أو ماهية مالكها الحقيقي، ودون أي تحمل لمسؤولية الحفاظ عليها من أجل المستقبل، وكما قال أبو الفضل “إنه سيناريو مرعب، واعتداء مباشر على التاريخ والحضارة الإسلامية”.
المصدر: نيو لاينز