يستيقظ ملايين الناس يوميًا في ساعات الصباح المبكرة للذهاب إلى العمل، وعند المساء وفي ساعة محددة ينتهي دوامهم ويحين وقت عودتهم لمنازلهم وشؤونهم الأخرى، ويعلم الكثير منهم أن مهمتهم لا تنتهي فعليًا في اللحظة التي يخرجون فيها من مكاتبهم أو مصانعهم أو متاجرهم، لأن العمل يصر أحيانًا على إبراز رأسه القبيح عبر اجتماع طارئ بعد انتهاء الدوام الرسمي أو إيميل مستعجل خلال ساعات المساء.
وبعيدًا عن الظروف التي تفرضها المجتمعات الصناعية والتطورات التكنولوجية على موظفي العصر الحاليّ، فإن ساعات العمل الرسمية تتفاوت من قطاع لآخر ومن دولة إلى أخرى بحسب القوانين الدستورية واللوائح الداخلية، فلطالما كان هذا الجانب بالتحديد محركًا أساسيًا في افتعال إضرابات وتظاهرات عمالية في مختلف دول العالم، احتجاجًا على ساعات العمل الطويلة والمرهقة.
نجيب في هذا التقرير عن الكيفية التي تحددت فيها ساعات العمل حول العالم وأسباب محاولة بعض الدول تقليص عدد ساعات الدوام بينما تقوم أخرى بزيادتها، إلى جانب العواقب والتأثيرات الصحية والنفسية والاقتصادية لكلا النظامين.
من يعمل أكثر؟
وفقًا لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2016، فإن البلدان ذات الدخل المنخفض تميل إلى العمل لساعات أطول من الدول الثرية، وذلك بسبب عدة أسباب منها، انخفاض الأجور وانعدام الأمان الوظيفي، وبالطبع لا تخلو هذه القاعدة من الاستثناءات، فقد وجدت منظمة العمل الدولية، أن قارة آسيا تضم أكبر عدد من الناس الذين يعملون لساعات طويلة، فبحسب إحصاءاتها:
23% من البلدان الآسيوية ليس لديها معيار قانوني للحد الأقصى لساعات العمل الأسبوعية مثل اليابان التي لديها مشكلة جدية وحادة مع حالات الوفاة التي يسببها الإفراط بالعمل، وأخرى بنسبة 29% يعمل موظفيها لأكثر من 60 ساعة أسبوعيًا، بينما تلتزم 4% منها بتوصيات المنظمة ومعايير العمل الدولية وتطبق حد أقصى يصل إلى 48 ساعة أو أقل في الأسبوع.
بصفة عامة، أظهر المسح أن كوريا الجنوبية تتمتع بأطول عدد ساعات عمل بمعدل 52 ساعة في الأسبوع، وتليها المكسيك وكوستاريكا وبعض الدول الإفريقية مثل تنزانيا.
من قرر أن نعمل من الساعة 9 صباحًا حتى الساعة 5 مساءً؟
كان من الشائع جدًا في القرن الثامن عشر وتحديدًا بعد الثورة الصناعية أن يعمل الأشخاص نحو 100 ساعة في الأسبوع، ورفضًا لهذا الوضع المضني، قاد المصلح الاجتماعي روبرت أوين في العام 1817، حملة بالتعاون مع النقابات العمالية ضد المصانع التي تظل مفتوحة 24 ساعة، وكان شعاره آنذاك “8 ساعات عمل، 8 ساعات للترفيه، 8 ساعات راحة”.
أيدت النقابات العمالية هذا المعيار وطالبت الكونغرس الأمريكي بتمرير قانون يفرض ساعات العمل لمدة 8 ساعات، لكن القانون بقي حبرًا على ورق إلى أن جاء القرن العشرين وبدأت بعض الصناعات المحلية والعلامات التجارية بتبني هذا المعيار ولكن معظم الناس كانوا لا يزالون يعملون 6 أيام في الأسبوع، إلى أن قرر هنري فورد صاحب شركة فورد للسيارات أن يلغي يومًا واحدًا من جدول عمل موظفيه في عام 1926.
قاد المصلح الاجتماعي روبرت أوين في العام 1817، حملة بالتعاون مع النقابات العمالية ضد المصانع التي تظل مفتوحة 24 ساعة، وكان شعاره آنذاك “8 ساعات عمل، 8 ساعات للترفيه، 8 ساعات راحة”
فقد لاحظ فورد أن عماله أصبحوا أكثر إنتاجية وعطاءً، مما أدى لاحقًا إلى تغيير لوائح وقوانين شركات أخرى تشجعت على تبني هذه الرؤية، وتدريجيًا أصبحت هذه الرؤية قانونًا رسميًا في البلاد بعدما أصدر الكونغرس قرارًا يحدد ساعات العمل – 40 ساعة أسبوعيًا -، ويطلب من أرباب العمل دفع ساعات العمل الإضافية للموظفين.
هل نقول وداعًا للعمل لمدة 8 ساعات؟
قبل عامين، وبعد تجارب عديدة أعلنت بعض الشركات السويدية عزمها الانتقال من برنامج العمل التقليدي ذي الـ8 ساعات إلى 6 فقط، في محاولة منها لزيادة معدل الإنتاجية وجعل العاملين أكثر سعادة وحيوية من خلال الوقت الذي سيقضونه في الاستمتاع بحياتهم الخاصة والطاقة التي سيجددونها بالتركيز على أنفسهم وصحتهم وهوياتهم.
أظهرت نتائج الدراسة التي أجريت على مجموعة من الممرضات أن عملهن كان أفضل وفي ظروف ملائمة أكثر تساعد على تخفيض نسبة إصابتهن بمرض ما
تأكيدًا على ذلك، قال بينجت لورينتزون، الباحث الرئيسي في مشروع دراسة تتعلق بتحديد معدل الإنتاجية لو تقلص دوام العمل إلى 6 ساعات، إن نتائج الدراسة التي أجريت على مجموعة من الممرضات، أظهرت أن عملهن كان أفضل وفي ظروف ملائمة أكثر تساعد على تخفيض نسبة إصابتهن بمرض ما، مضيفًا: “هذا التخفيض أدى إلى ارتفاع جودة العمل والرعاية الصحية – الممرضات كن أكثر سعادة بنسبة 20% في أثناء عملهن – وبالتالي أدى إلى زيادة الإنتاجية”.
ورغم الإيجابيات التي لاحظتها السويد من هذا التغيير، فإن الحكومة السويدية تقلق من التكلفة الاقتصادية لهذا القرار، مع العلم أنه لم يتم تطبيقه بشكل رسمي وشامل، وإنما يجري اختباره بشكل دوري ومؤقت على بعض المؤسسات في القطاع الخاص.
ماذا نستفيد لو عملنا لساعات أقل أو أكثر؟
تقول آنا توماس منسقة حملة “من أجل أسبوع عمل أقصر”، إن الوقت القليل في العمل يعني المزيد من الوقت لرعاية الأطفال والاهتمام بالأسرة والجيران المسنين، أو الخروج للعب كرة القدم، كما أنه فرصة جيدة لتوزيع فرص العمل بشكل عادل بين ملايين العاطلين عن العمل، عدا عن أنه سيساعد في تحقيق المساواة بين الجنسين، لأن الطرفين سيكون لديهما مقدار الوقت نفسه لإدارة الشؤون المنزلية.
ظهرت أصوات تنادي بأيام عمل أقل خلال الأسبوع، فبدلًا من العمل 5 أيام أو 6، تطالب هذه الحركة بتقليص العدد إلى 4 أيام، ولنفس الأسباب والمبررات التي تربط بين تدهور صحة الأفراد وعدد ساعات عملهم المرهقة، وطمعًا في تحقيق حياة مهنية وشخصية متوازنة
وتضيف توماس محورًا جديدًا يُعنى بالحفاظ على البيئة، فوفقًا لتقرير صادر عن المركز الأمريكي للبحوث الاقتصادية والسياسية، فإن انخفاض انبعاثات الغازات الدفيئة يسير جنبًا إلى جنب مع ساعات عمل أقصر لأن معدل الاستهلاك سيقل وبالتالي سنحافظ على المناخ من أي تغييرات ضارة.
بالجانب إلى ذلك، ظهرت أصوات أخرى كتوماس، تنادي بأيام عمل أقل خلال الأسبوع، فبدلًا من العمل 5 أيام أو 6، تطالب هذه الحركة بتقليص العدد إلى 4 أيام، لنفس الأسباب والمبررات التي تربط بين تدهور صحة الأفراد وعدد ساعات عملهم المرهقة، وطمعًا في تحقيق حياة مهنية وشخصية متوازنة، وخالية من الفوضى والأعباء التي يفرضها النمو الاقتصادي على أفراد القرن الواحد والعشرين.
ومع ذلك يرى بعض المراقبين أن العمل لساعاتٍ طويلة ليس بهذا السوء، لإنه يساعد الموظف على إنجاز المزيد من مهماته الوظيفية بشكل مريح ويخفف عنه تراكم المشاريع وثقل المسؤوليات المتتابعة، كما أنه قد يساعده على كسب المزيد من المال إذا زاد من إنجازاته وحقق نجاحات فريدة من نوعها، عدا عن كونه فرصة مثالية لتلميع صيته وصورته الخارجية في سوق العمل بسبب اجتهاده واستعداده المستمر في إنجاز المهمات المطلوبة.