تحتضن منطقة القرن الإفريقي منذ مئات السنين العديد من القوميات، على رأسهم قومية العفر التي تعتبر من أقدم الشعوب التي سكنت هذه المنطقة في شرق القارة الإفريقية. قومية تحترف الرعي والزراعة وصيد الأسماك واستخراج الأحجار الكريمة من منطقة البحر الأحمر، في هذا التقرير سنحط الرحال في هذه المنطقة ونتعرّف سويا على ” ربان البحر الأحمر”.
انتشار كبير
أطلق عليهم الأحباش قديما اسم “أدال”، نسبة سلطنة عدل، التي حكمت المنطقة خلال القرن الخامس عشر عقب سقوط سلطنة “عفت” الإسلامية، فيما أطلقت عليهم بعض القبائل الصومالية المجاورة اسم ” عدعلي” نسبة إلى إحدى أبرز القبائل في سلطنة “أدال”، غير أن الاسم الأشهر بين العرب هو “دناكل” نسبة إلى ملك كان يحكمهم يقال له “دنكلي بن ملكان”.
يعتبر الشعب العفري من أبرز وأقدم الشعوب التي استقرت في منطقة القرن الإفريقي منذ آلاف السنين. ويقول بعض العفريين لنون بوست، إن أهلهم جاؤوا من حضر موت وعدن باليمن عقب قيام حروب بينهم وبني أحد ملوك اليمن الذي شدد الخناق عليهم.
ويقصد بمنطقة القرن الأفريقي -جغرافيا- ذلك الجزء الممتد على اليابسة الواقع غرب البحر الأحمر وخليج عدن على شكل قرن، وهو بهذا المفهوم يشمل أربع دول في شرق إفريقيا هي الصومال وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا، وتقدر مساحة القرن الإفريقي بمفهومه نحو 1.9 مليون كيلومتر مربع.
قديما كان العفريون القاطنين هناك يستخرجون الملح، ثم ينقلونه على ظهور الجمال
تنتشر قومية العفر في المنطقة الممتدة المسماة بالمثلث العفري على طول سواحل البحر الأحمر، والتي تبدأ من إثيوبيا حيث تبلغ نسبتهم فيها حوالي 4 %من إجمالي عدد السكان، يتركزون في منطقة” أوسا”، أما في إريتريا فيعيشون في منطقة” دنكالليا“من مصوع حتى حدود جيبوتي طولا وتصل نسبتهم لـ10 %من السكان البلاد.
وفي جيبوتي، يتواجد العفر في أغلب مناطق البلاد بخاصة في تاجورة وأبيخ ودخيل، حيث الطبيعة والمناخ القاسي، والحرارة الشديدة وسلاسل الجبال والوديان العميقة تتخللها عدد من الأنهار التي تجري من تحتها، ويمثل العفر نسبة 50 %من إجمالي عدد السكان.
وتقول بعض المراجع على قلّتها، إن للعفر قديما إمارات تحكم منطقة القرن الإفريقي، وقد كانت هذه الإمارات مستقلة استقلال تاما عن الحبشة، تبرم الاتفاقيات والعهود مع المماليك المجاورة لتنظيم التجارة بينهم.
ويتحدث أبناء العفر لغة كوشية (نسبة إلى حام بن كوش) بها كثير من المفردات العربية، مما جعل دخولهم في دين الإسلام سهلاً، بعدها أصبحت اللغة العفرية تضم الألفاظ العربية الدينية التجارية وكتبت العفرية بالعربية، وحولت باللاتينية في الفترة الأخيرة.
تجارة الملح
يمتهن الكثير من العفريين تجارة الملح الذي يوجد بكثافة في بحيرة عسل، الواقعة في مثلث عفر بجيبوتي. وتنخفض هذه البحيرة عن سطح البحر بحوالى 155 مترا، وهي أدنى نقطة على الأرض في إفريقيا، وثالث أدنى نقطة على مستوى العالم، بعد بحيرة طبريا والبحر الميت.
ويبلغ مستوى ملوحة البحيرة عشرة أضعاف ملوحة البحر، بسبب درجات الحرارة العالية، وارتفاع معدل التبخُّر، مما يجعلها أكثر البحيرات ملوحة على مستوى العالم، بعد بحيرة دون جوان في القارة القطبيّة الجنوبيّة.
تمثّل تجارة الملح أبرز الأنشطة التجارية للعفريين
قديما كان العفريون القاطنين هناك يستخرجون الملح، ثم ينقلونه على ظهور الجمال عبر طرق التجارة والقوافل المتّجهة إلى أثيوبيا، إذ ارتبطت تجارة الملح بالمقايضة مع ما تنتجه منطقة الحبشة من الذرة والفحم والقهوة والعاج والمسك وغيرها من السلع، إضافة إلى تجارة العبيد.
ويستغل العديد من العفريين هذه البحيرة التي تحتوي أكبر احتياطي للملح في العالم، لكسب المال، وتأخذُ البحيرة شكلا بيضاويا بطول 19 كم وعرض 6،5 كم، وتتألّف من قسمين منفصلين أحدهما هو السطح المتبلور، وهو حوالي 26 كيلومتر مربع، والآخر هو منطقة السائل عالي الملوحة، على مساحة تقدّر بـ 54 كيلومتر مربع، ويبلغ حجم الملح الموجود قرابة 300 مليون طن. وقد انخفض مستوى سطح البحيرة حاليا بحوالي 50 قدما مقارنة بالمستوى القديم لضفافها.
شعب رحّل
فضلا عن تجارة الملح، امتهن العديد من العفريين رعاية المواشي من الإبل والغنم، فينتجعون المراعي، متنقلين من مكان إلى آخر، في طلب الكلأ، ويعتمدون على الإبل في أغلب حياتهم في الغذاء والتجارة والترحال، كونها الأقدر على تحمّل قساوة الصحراء، ويفتخر العفري امتلاكه لكمية كبية من الإبل.
ورغم تطوّر الحياة، بقي عدد كبير من العفريين يسكنون في خيم مصنوعة من الحصير مغطاة، وتقع على عاتق النساء العفاريات مهام الغذاء من حلب الأبقار والأغنام وتزويد المياه للبيت وبيع الملح المستخرج من الصحراء إلى جانب الحليب والجلود في الأسواق القريبة.
وتشير بعض التقارير إلى اعتياد العفريين الطبيعة القاسية مما جعلهم أولو قوة وبأس شديد؛ حيث اعتادوا على الجفاف، والحرارة المرتفعة التي تعتبر من أعلى الدرجات في العالم، والبراكين المهدّدة بالانفجار في كلّ لحظة.
تعتبر الثقافة العفرية مزيجا بين الثقافة العربية والإفريقية
ينتظم العفر في مجموعات قبلية يرأس كل منها زعيم تقليدي يلقب بالسلطان، وتشكل اللحوم والحليب غالب المكونات الرئيسية للنظام الغذائي العفري. ويمتلك الحليب رمزية هامة في التفاعلات الاجتماعية. وعلى سبيل المثال، عندما يقدم للضيف حليب دافئ للشرب فإن المضيف يعني ضمنا أنه سيوفر حماية فورية للضيف.
ويعيش العفر في مخيمات تحيط بها حواجز شوكية تحميهم من هجمات الحيوانات البرية أو رجال القبائل المعادية. كما تسمى الأكواخ البيضاوية الشكل التي يسكنون فيها، “أرى” وهي تصنع من حصير النخيل حيث يتم نقلها بسهولة.
تداخل الثقافة العربية والإفريقية
تعتبر الثقافة العفرية مزيجا بين الثقافة العربية والإفريقية، حيث ارتبط العفريون بالعرب والأفارقة منذ القدم في إطار صلات تزاوج وتصاهر وتجارة نظرا لموقعهم على شاطئ البحر الاحمر، فقد كان العفريون بمثابة همزة وصل بين العرب والأفارقة.
ويعكس الزي العفري مناخ المنطقة الحار الجاف، حيث يلبس العفري الأزياء الفضفاضة البيضاء القطنية، وهو رداء يسمى الثوب ويغطي إلى ما تحت الركبة تلقى النهاية الأخرى فوق الكتف مثل الجلباب ويحرص “شعب العفر” في إثيوبيا على الالتزام بتسريحة شعر مميزة، يطلق عليها اسم أسداجو، ويحمل السيف العفري المعروف.
خيام العفريين في الصحراء
ترتدي المرأة عادة “الديراك”، وهو زي طويل وخفيف مصنوع من القطن أو البوليستر التي تلبس فوق زي آخر كامل، فيما تميل المرأة المتزوجة إلى وضع الأوشحة يشار إليها باسم “شاش”، وأيضا في كثير من الأحيان تغطي الجزء العلوي من الجسم بشال معروف باسم جاربسار.
رغم اشتراكهم في عديد التقاليد والعادات والتاريخ المشترك، فإن الحدود بين الدول الثلاثة التي يتواجد فيها العفريين والأزمات بينها وتطوّر الحياة في العقود الأخيرة، قد ساهمت في فكّ ارتباط عديد العفريين بأهلهم وتراجع أواصل القرابة بينهم بعد أن كانوا مجتمع واحد.