في فيلم “Pulp Fiction“، يُخبر أحد الشخصيات صديقه أنّه لا يأكل لحم الخنزير لأنه حيوانٌ “قذر يتغذّى على فضلاته”، ليردّ الآخر قائلًا بأنّ الكلاب أيضًا قد تأكل فضلاتها، فهل تدعوها بالقذرة. ليصمت الآخر دون أنْ يعطي جوابًا محدّدًا أو أنْ يفكّر في الوقت نفسه أنّ العديد من الحيوانات الأخرى قد تأكل فضلاتها أحيانًا، كالأرانب على سبيل المثال، في حين أنّ الخنزير يتناول الأعشاب.
أفكّر بالأمر كيف طوّرنا نظرتنا عن الخنزير بأنه حيوانٌ قذر يأكل فضلاته لنجد تفسيرًا واضحًا لشريعتنا الإسلامية التي تحرّم أكل لحمه. إذ كان بإمكاننا القول بأنه محرّم لأنه محرّم دون الحاجة لتفسير آخر، لكنّ عقولنا تعمل دومًا على البحث عن أيّ مبرّر وتفسير لتسهّل تعاملها مع العالم الخارجيّ وتصوّرها عنه.
لكن، هل فكّرت يومًا كيف يمكن للكثير من الأفكار والعوامل الخارجية الأخرى أنْ تتحكّم في طعامنا وتفضيلاتنا الغذائية المتنوّعة؟ وبعيدًا عن لحم الخنزير المحرّم، ما الذي يجعل صديقتي تفضّل الطعام الحارّ وتأكل الفلفل و”الشطّة” كما تأكل الحلوى، فيما أشعر بشعورٍ سيء إن تناولتُ، خطأً، ملعقةً صغيرة من الطعام الحارّ أو حتى إنْ وضعته على رأس لساني؟
الجغرافيا والمناخ: كيف تطوّرت أذواقنا منذ البداية؟
يمكننا القول أنّ تفضيلاتنا الغذائية قد تكون بالفعل حصيلة سنين طويلة من التطوّر والتكيّف مع البيئة المحيطة بجغرافيّتها وتضاريسها ومناخها. إذ كان أسلافنا يزرعون محاصيلهم وفقًا للموارد المحلية والطبيعية المتاحة بين أيديهم، ممّا أثّر بشكلٍ كبير على عاداتهم الغذائية التي أصبحت مع الزمن جزءًا من التقاليد والعادات التي تؤثّر على العادات الغذائية في جميع أنحاء العالم وتمّ تمريرها عبر الأجيال المختلفة. إذ تعمل التضاريس والمناخات ومعدّلات الأمطار الهاطلة وغيرها الكثير من العوامل، جنبًا إلى جنب في التأثير على المنتجات النباتية والحيوانية التي نأكلها، والتي تشكّل من جهتها عاداتنا الغذائية المعتادة.
تفضيلاتنا الغذائية قد تكون بالفعل حصيلة سنين طويلة من التطوّر والتكيّف مع البيئة المحيطة بجغرافيّتها وتضاريسها ومناخها
فعلى سبيل المثال، يشكّل الطعام البحريّ جزءًا أساسيًا من العادات الغذائية للدول أو المدن الواقعة على سواحل الأبحر في العالم، فيما تشتهر المناطق ذات المناخ الحارّ والجاف بالأطعمة المعتمدة على التوابل الحارّة، مثل المكسيك وبعض دول أمريكا الجنوبية والهند وغيرها. ويرجع الأمر لسببين رئيسين؛ أولهما لسهولة زراعة الفلفل الحارّ في تلك المناطق، وثانيهما أنّ هذه الأطعمة ترفع درجة حرارة الجسم وتزيد من إفرازه للعرق، ممّا يساعد في تبريد الجسم بحيث تصبح درجات الحرارة القصوى أكثر احتمالا.
أبعد من الجغرافيا: كيف تعمل البيولوجيا والجينات؟
جنبًا إلى جنب مع العوامل البيئية والجغرافية التي تؤثر على اختياراتنا الغذائية، هناك العديد من الأدلّة التي تشير إلى أنّ التركيب الجيني يؤثر على كيفية تذوّقنا للطعام. فالمذاقات الأساسية، الحلو والمالح والحامض والمرّ، تعدّ بالأساس نتيجةً لتفاعل الموادالكيميائية التي تنتج هذه الأذواق مع مستقبلات معينة على ألسنتنا. وبما أنّ تلك المستقبلات تعتمد على الحمض النووي لكلّ فرد، فتتفاوت أذواقنا وتتمايز عن غيرنا من الآخرين.
ففي دراستها لعلم النفس البيولوجي، حاولت مارشا بيلشات العثور على إجابة معقولة لسؤالها عن سبب تفضيلنا لأطعمة معيّنة ورفضنا لأخرى، وانطلقت من دراسة تأثير جيناتنا الوراثية على مذاقاتنا للأطعمة، لتتوصل فعليًّا أنّ هناك العديد من العوامل البيولوجية التي تسهم في إحساسنا بمذاقٍ معيّن، مثل براعم التذوق باللسان ومكوّنات اللعاب، إضافةً للاختلافات الوراثية، وغيرها.
تلعب جيناتنا ومكوّناتنا الوراثية دورًا كبيرًا في تحديد أذواقنا وتفضيلاتنا الغذائية
تعتقد بيلشات في أبحاثها أنّ الجينات تشكّل ميولاتنا التذوّقية في الطفولة، لهذا تجد بعض الأطفال يحبّون بعض الأطعمة فيما يبغضها آخرون. أمّا فيما يتعلّق بتغيّر أذواقنا وتفضيلاتنا الغذائية فترجع بيلشات السبب إلى استعداد الفرد للتغلّب على مكوّناتهم الوراثية، عوضًا عن أنّ الرغبة في تجربة الجديد تزداد مع العمر، فالبالغون يتعاملون مع الأشياء الجديدة وغير المعتادة بطريقة تختلف عن الصغار.
وبكلماتٍ أخرى، ترى بعض الأبحاث أنّ جيناتنا تلعب دورًا كبيرًا في تحديد أذواقنا وتفضيلاتنا، لكنّنا في الوقت نفسه نمتلك القدرة الذهنية والإدراكية على تغيير تلك الأذواق في مراحل الحياة المختلفة بفعل قدراتنا المعرفية والإدراكية بالنظر للأمور والأشياء من حولنا، بما فيها الاستعداد لتجربة الجديد أو المغامرة والتغيير.
من جهةٍ ثانية، يعتقد بعض الباحثين أنّنا نطوّر بعض الصِلات المبكّرة مع العديد من الأذواق في مرحلة ما قبل الولادة، فالجَنين يتأثر بما تتناوله أمّه وما تفضّله ويأنف ممّا تأنف منه هي. لهذا، يعتاد الجَنين الذي تأكل أمه الطعام الحارّ على هذا النوع من الطعام، فيما قد يفضّل جَنين آخر الحلويات أو الموالح لتفضيل أمه لها، كما يستمرّ الأمر في مرحلة الرضاعة عن طريق حليب الأمّ الذي يستهلكه الرضيع.
كما وجدت دراسة أنه في عمر 21 أسبوعًا، يمكن للأجنة تمييز النكهات الكاملة للطعام باستخدام حواس الشم والذوق. فيما حذّرت أخرى أنّ تناول المرأة الحامل لطعام غير صحّي وغير مرغوب فيها، كالوجبات السريعة على سبيل المثال، يزيد من احتمالية اعتياد الجنين عليه وبالتالي تطويره لتفضيل ذوقي خاص تجاهه.
الدين والذائقة: ثقافة الحلال والحرام
ممّا لا شكّ فيه أنّ الطعام يعكس الكثير من الظواهر الاجتماعية ويؤثّر بها، كالثقافة والدين. فعلى سبيل المثال، تحدّد الأديان التي نتّبعها الكثير من تفضيلاتنا الغذائية وفقًا لما تحلّله وما تحرّمه أو تحظره، وفي كلّ دين هناك العديد من الطقوس الغذائية المعيّنة التي ترتبط به وتعبّر عنه وتميّزه، فلحم الخنزير والخمور تعدّ من المحرّمات في الدين الإسلامي، أمّا اليهودية فلها نمط معيّن من الطعام الحلال يُسمّى “الكشروت”، كما تحظر التوراة تناول الحليب واللحم معًا، لدرجة أنّ اليهود يعنون بفصلهما في المطبخ. والهندوسي لا يأكل اللحم، خاصة البقريّ.
تعمل الأديان بتحديدها لما هو حلالٌ وما هو حرام على تكوين تفضيلاتنا وذائقتنا الغذائية لما نحبّ وما نكره من الطعام
وبالتالي، يمكننا القول أنّ الأديان بتحديدها لما هو حلالٌ وما هو حرام فهي تعمل على تكوين تفضيلاتنا وذائقتنا الغذائية لما نحبّ وما نكره من الطعام، ففكرة أنّ لحم الخنزير حرامٌ في الإسلام والمسيحية تجعل ممّن يتّبعون هاتين الديانتين يأنفون منه ومن طعمه وشكله من خلال صنع العديد من الأساطير والقصص حوله بحجة أنّه حيوان قذر بشكله وطعمه، وعلى هذا قس.
العولمة والسفر: توسّع بالذائقة والتجربة
مع انكماش العالم وتقلّص حجمه وفقًا للعولمة والظواهر المرتبطة بها، بات من السهولة بمكان التأثّر بالأذواق المختلفة التي تختّص بها بعض الشعوب دون غيرها. فظاهرة سلسلة المطاعم العالمية ساعدتنا على تذوّق الطعام الهندي أو الإيطالي أو المكسيكي على سبيل المثال، في حين لم يكن الأمر ممكنًا للأجيال التي سبقتنا بسنواتٍ كثيرة. إضافةً إلى أنّ السفر ساعد الكثيرين أيضًا على تذوّق الكثير من الأطعمة الغريبة وتكوين روابط معها.
وبذلك، يمكننا القول أنّ ما نحبّه من طعام وما نكرهه لا يخضع لمعيارٍ واحدٍ فقط، وإنّما هو نتاج لعددٍ من التأثيرات التي تعرّضنا لها قبل ولادتنا حتى عن طريق تأثّرنا بجيناتنا المتوارثة من جهة، وما تأكله أمّهاتنا ونحن في مرحلة الأجنّة من جهةٍ ثانية. كما تعمل الجغرافيا وما يرتبط بها من عوامل جنبًا إلى جنب مع الثقافة والدين والانفتاح العالمي على التأثير في ذائقتنا وتحديد ما نحبّ وما نكره.