ترجمة وتحرير: نون بوست
يعتبر تركيز الإعلام الدولي على ولي العهد محمد بن سلمان، كونه المشتبه به الأول في جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، أمرا مفهوما ومبررا. إلا أن الاهتمام الموجه لشخص ولي العهد يبعد الأنظار عن آليات السلطة المطلقة التي اعتمد عليها واستمد منها قوته. إذ أن آليات السلطة المطلقة هي التي سمحت للحكام السابقين للملكة السعودية، وولي العهد محمد بن سلمان، وربما حكام المستقبل أيضا، بممارسة الحكم دون أي اعتبار لأسس وقواعد السياسة التوافقية. وهذه الآليات هي التي تسمح لمحمد بن سلمان بالالتجاء لمجموعة من الأساليب، من بينها العنف والاعتقالات غير القانونية والتعذيب في السجون والقتل.
السياق السياسي
في الماضي، دائما ما كان محمد بن سلمان يذكر محاوريه بأنه ينتمي إلى عائلة آل سعود المالكة، وأنه ليس غاندي ولا هو بالديمقراطي. وهو لم يكن يخجل من التباهي بثروته، وتذكير الآخرين بأنه ثري ومترف. ولكن كما هو متوقع، فإنه في المقابل لا يتباهى أبدا بعدم خضوعه للمحاسبة عندما يتصرف بشكل عنيف وقاس ومتهور. وفي وقت يواصل فيه المجتمع الدولي التنديد بولي العهد، حان الوقت لتفحص السياق السياسي الذي سمح له بالصعود وارتكاب تجاوزاته.
ليس للملك سلمان أي إخوة يضاهونه في النفوذ، حتى يقيم لهم حسابا أو يخشاهم أو يحترمهم، عندما اتخذ ذلك القرار التاريخي بجعل ابنه هو الماسك بدواليب الحكم في المملكة، وربما يأتي يوم يندم فيه على هذا القرار.
في السعودية يعد صعود محمد بن سلمان أو أي أمير آخر غيره إلى أعلى مراتب الحكم، مرتبطا بشكل كلي بقرار شخص واحد، وهو الملك. وقد أصبح بن سلمان وليا للعهد خلال العام الماضي كنتيجة لقرار اتخذه والده، الملك سلمان. ولم يتم إجراء أي مشاورات أو توافقات، من أجل التوصل إلى نتيجة مفادها أن محمد بن سلمان هو “الشخص المناسب في المكان المناسب”، وهي المقولة التي تتردد كثيرا في السعودية في كل مرة يقوم فيها الملك بتغيير بعض وزرائه أو كبار الموظفين.
بعد عام واحد تقريبا أصبح هذا الاسم مرتبطا بفضيحة، سوف تلطخ صورة المملكة السعودية لوقت طويل. وكان القرار الأحادي الذي اتخذه الملك هو الذي دفع بابنه محمد مباشرة إلى واجهة السلطة الملكية، حيث أن هيئة البيعة التي أنشأها الملك عبد الله في العام 2007، تم تهميشها بالكامل، خاصة وأن غالبية كبار السن من أعضائها فارقوا الحياة. وقد تبقى 33 أميرا في هذه الهيئة، تم إقصاؤهم من مراكز القرار وكثيرون منهم تعرضوا للاعتقال في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، بحجة القيام بحملة لمكافحة الفساد. وقد تم الإفراج عنهم لاحقا، ولكنهم لحد الآن ممنوعون من الكلام.
ليس للملك سلمان أي إخوة يضاهونه في النفوذ، حتى يقيم لهم حسابا أو يخشاهم أو يحترمهم، عندما اتخذ ذلك القرار التاريخي بجعل ابنه هو الماسك بدواليب الحكم في المملكة، وربما يأتي يوم يندم فيه على هذا القرار.
الجيل الأخير
باستثناء الأمير أحمد الذي لا يحظى بأهمية كبيرة، فإن الملك سلمان هو آخر أبناء الجيل الذي سيطر على المملكة السعودية كأنها ملكية خاصة لعائلتهم. وفي الماضي كان كل واحد من هؤلاء الإخوة شغل مواقع هامة جدا في الحكومة (على سبيل المثال فيصل وفهد وسلطان ونايف وعبد الله)، أو جمع ثروات من ممارسة الحكم (مثل طلال)، ومنهم من فضلوا العيش كأمراء مدللين يقضون وقتهم متنقلين بين قصورهم في مختلف أنحاء العالم.
وكان هذا هو الحال بالنسبة لباقي أبناء العائلة المالكة، الذين يقدر عددهم بأكثر من خمسة آلاف فرد. أما أبناء كبار الأمراء مثل فيصل وفهد ونايف وسلطان وعبد الله، فقد أصبحوا نوابا عن آبائهم الذين تقدم بهم السن، أو تم إرسالهم إلى مختلف أرجاء المملكة كأمراء مناطق، أو تم منحهم أدوارا أخرى أقل أهمية في منظومة الحكم.
مثّل أبناء فيصل الواجهة التي عرضتها المملكة أمام الخارج. حيث أن سعود وتركي الفيصل لعبا دورا في التأثير على المجتمع الدولي، الذي كان ينظر للمملكة بتردد وريبة. وقد شغل الأول منصب وزير الخارجية لأكثر من ثلاثة عقود وحتى وفاته، فيما كان الثاني أول مدير للمخابرات وأصبح لاحقا سفيرا لبلاده في واشنطن ولندن.
والآن تم تكليف الأمير تركي بمهمة التأثير على بعض الدوائر المهمة في الولايات المتحدة، وهو دور لعبه في وقت سابق إثر أحداث هجمات أيلول/ سبتمبر، عندما ألقى محاضرات في المنتديات الأكاديمية وحتى في الكنائس ومراكز الدراسات، حول تسامح المملكة السعودية، في إطار تنفيذه للحملات الدعائية التي كانت المملكة في حاجة ماسة لها.
مرة أخرى نرى الأمير تركي وهو يحاول تبديد التوتر الذي ساد في الولايات المتحدة على إثر اغتيال جمال خاشقجي، وذلك عبر تنظيم لقاءات مع الإعلاميين. وقد تم إرسال شقيقه الأكبر خالد الفيصل، أمير منطقة مكة، بشكل مباشر إلى إسطنبول بعد هذه الجريمة، لإجراء مفاوضات مع أردوغان.
تفتقر المملكة السعودية إلى المؤسسات التي يمكنها التصدي للأمراء الذين يتصرفون بشكل سيء
عندما تتم ترقية أمير دون القيام بمشاورات أو توافق أو إجماع، فإن شخصا مثل محمد بن سلمان سوف يظهر في المملكة السعودية، ليثير حالة من القلق على الصعيدين المحلي والدولي. وعندما يكون هذا الشخص لا يتمتع بأي مؤهلات، كما هو الحال مع محمد بن سلمان، فإن هذه الوضعية تؤدي إلى اندلاع أزمة القنصلية.
عملية التدقيق
تفتقر المملكة السعودية إلى المؤسسات التي يمكنها التصدي للأمراء الذين يتصرفون بشكل سيء، وتشير بعض الروايات إلى أن الملك سلمان بنفسه كان يشرف شخصيا على تأديب الأمراء عندما شغل منصب إمارة منطقة الرياض لمدة نصف قرن، ولكن للأسف يبدو أن هنالك أميرا تمكن من تجاوز هذه الرقابة الأبوية.
في غياب أي مجلس للعائلة المالكة أو جمعية وطنية منتخبة، فإن الملك يتمتع بحكم مطلق، وابنه يمكن أن يتسبب في الخراب. والسعودية اليوم هي آخر الممالك التي تفتقر لأي مظهر من مظاهر التشاور في الحكم.
الأمير أحمد بن عبد العزيز في مؤتمر صحفي في مكة في 2012.
من خلال دعوة الملك لإبعاد ابنه ومحاكمته على إصداره الأوامر بقتل خاشقجي، (إذا صدقنا التقرير الذي نشرته سي آي إيه مؤخرا)، فإن العالم على ما يبدو “تجاوز خطا أحمر”، بعبارات وزير الخارجية عادل الجبير. ولكن رغم ذلك من غير المرجح أن الملك سوف يستجيب لهذه الدعوات غير الواقعية. وحتى يكون مسموحا بمجرد التفكير في هذا الأمر، فإن تغييرا سياسيا حقيقيا يجب أن يحدث.
في ظل ندرة الأمراء المؤهلين وأصحاب الخبرة، فإن المرشحين الذين يقدمهم الملك لخلافته يجب أن يخضعوا لعملية تدقيق، من قبل مجلس وطني منتخب، على غرار ما يحدث في دول مشابهة مثل الكويت. ورغم أن هذه الطريقة بعيدة جدا عن الكمال، فإن المجلس المنتخب على الأقل سوف يعبر على رأيه ويقوم بالتصويت عندما يعرض أمامه الشخص الذي سيخلف الملك، وفقا لنظام ديمقراطي، رغم أنه يبقى محدودا ويعاني الكثير من النقائص. ولكن على الأقل في هذه الحالة سيتم التظاهر بوجود مشاورات، وهو أمر لا تحاول المملكة السعودية حاليا تصنّعه.
ثمن باهض
من الواضح أن الملك، الذي شارف على نهاية العقد التاسع من عمره، قام باختيار الشخص الخطأ لمنصب ولي العهد. ولذلك فقد دفع هو وباقي أبناء العائلة المالك ثمنا باهظا لغطرسة محمد بن سلمان وسلوكه الخاطئ.
لم تصل سمعة المملكة السعودية في الخارج أبدا إلى هذا المستوى من الانحدار، ويمكننا أن نفترض جازمين أن جريمة القتل مثلت أزمة مفتعلة ذاتيا، ولا سابق لها في تاريخ المملكة، وهي تعكس غياب الحكمة، والتنفيذ الفوضوي، والارتباك في إدارة هذه الحادثة.
تشهد الروايات السعودية المتعددة التي صدرت بعد الجريمة على حالة الارتباك والمحاولات الخرقاء للتغطية على تفاصيل عملية القتل، والتهرب من المسؤولية، وتبرئة القيادة العليا من أي اتهامات. وهي روايات لم تكن تستند إلى تحقيق جدي ونزيه وشفاف في هذه الجريمة السياسية.
إضافة إلى ذلك، فإن مصداقية القيادة داخل البلاد تعرضت لهزة عنيفة، وجولة الملك سلمان مؤخرا في عديد مناطق المملكة تعكس رغبة في استعادة الثقة في المؤسسة الملكية، وإظهار مصداقيتها في وقت يغرق فيه ابنه في قلب فضيحة دولية.
إلى جانب الاستثمارات التي تصل قيمتها إلى 450 مليار دولار التي تعهد بن سلمان بضخها، فإن ترامب أشار إلى الدور المركزي للمملكة السعودية في محاربة الإرهاب، واحتواء إيران، وتحقيق السلام مع “إسرائيل”.
هذه الجولة لم تكن لتكتمل دون وعود بإغداق المشاريع المالية والجوائز على المحافظات النائية، التي كانت تبدو منسية في وقت سابق اتجهت فيه كل جهود النظام الحاكم لترسيخ سطوة محمد بن سلمان. والآن يبدو أن الملك سلمان يحاول جاهدا إبقاء الغطاء فوق طنجرة الضغط.
إضافة إلى الدعم الكامل الذي يحظى به من والده، فإن بن سلمان يحتاج أيضا للاعتراف الإقليمي والدولي. لذلك فإنه من خلال زيارته لأبو ظبي والبحرين ومصر، ويليها ظهوره في قمة العشرين في الأرجنتين، سوف يبعث برسالة مفادها أنه طرف موثوق في المشهد الدولي.
هذا الأمر ما كان ليحدث لولا أنه يحظى بالدعم الكامل من الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي تجاهل مؤخرا تقريرا لوكالة الاستخبارات الأمريكية حول تورط محمد بن سلمان في الجريمة، بل وشدد على دعمه الكامل لولي العهد.
وقد أشار ترامب خلال تصريحاته إلى مجموعة من الاعتبارات الاقتصادية والجغراسياسية، التي تدفعه لمواصلة دعم ولي العهد السعودي. وإلى جانب الاستثمارات التي تصل قيمتها إلى 450 مليار دولار التي تعهد بن سلمان بضخها، فإن ترامب أشار إلى الدور المركزي للمملكة السعودية في محاربة الإرهاب، واحتواء إيران، وتحقيق السلام مع “إسرائيل”.
في ظل غياب أي ضغوط من داخل العائلة المالكة، وإضعاف المجتمع السعودي، ووجود مجتمع دولي مستعد للتغاضي عن جريمة قتل خاشقجي، يبدو أن محمد بن سلمان ضامن لموقعه في الوقت الحالي. وبما أن الملك غير مستعد لتقويض سيطرة ابنه على البلاد في المستقبل القريب، فإن التغيير الحقيقي قد لا يأتي إلا بعد وفاته.
المصدر: ميدل إيست آي