“السودان سلة غذاء العالم”، هذه المقولة دُرست لكل طلاب الوطن العربي منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم، فحسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة FAO فإن المساحات الصالحة للزراعة بالسودان تبلغ 200 مليون فدان أي ما يعادل 81 مليون هكتار، يُستغل منها حاليًّا 30 مليون فدان فقط “12 مليون هكتار” وهو ما يساوي 15% فقط .
ولذلك السودان مؤهل لسد الفجوة الغذائية العربية والعالمية لما يمتلكه من مقومات زراعية وبيئة طبيعية غنية إلى جانب الأنهار العذبة التي تشق أراضي البلاد والأمطار الوفيرة التي تهطل في معظم أنحاء السودان خلال فترة الصيف التي تذكرنا بالمناخ المتنوع في السودان من صحراوي في الأنحاء الشمالية إلى شبه استوائي في ولايات جنوب دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والنيل الأبيض كما أن أجزاءً من ولاية البحر الأحمر تتفرد بمناخ البحر الأبيض المتوسط.
الواقع أن مشكلة الزراعة في السودان واحدة من جملة المشكلات التي تعاني منها البلاد خلال العقود الأخيرة
ولعل السؤال الذي يدور في أذهان كثير من العرب والغربيين هو: إذا كان السودان يمتلك كل هذه المقومات والموارد الطبيعية الهائلة فلماذا يعيش ضائقة اقتصادية وينعدم فيه الخبز أبسط احتياجات الإنسان؟ فهل هذا بسبب كسل السودانيين وعجزهم عن زراعة أراضيهم كما يقول بعض مروجي النكات العنصرية السخيفة؟
الواقع أن مشكلة الزراعة في السودان واحدة من جملة المشكلات التي تعاني منها البلاد خلال العقود الأخيرة رغم أن حكومة الإنقاذ التي استولت على السلطة بانقلاب 1989 رفعت في بداياتها شعارات في غاية الطموح مثل “نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع”، وبالفعل بدأ النظام بدايات قوية في تنفيذ الشعار، ففي موسم 1991 و1992 تم زراعة 800 ألف فدان من القمح في مشروع الجزيرة وهو ما يعادل أكثر من 80% من احتياجات الشعب السوداني من القمح، هذا إلى جانب المساحات التي تم زراعتها في المشروعات الزراعية الأخرى.
ولكن بعد قرابة 30 عامًا من حكم الإنقاذ عاد بالشعب إلى ما هو أسوأ من عهود صفوف الخبز التي عاشها السودانيون في عصور سابقة، وكانت حكومة البشير تتباهى حتى وقتٍ قريب بأنها قضت على ظاهرة صفوف الخبز والوقود، فعادت حاليًا الطوابير الطويلة منذ بداية العام الحاليّ إلى سابق عهدها، بل إن السودان أصبح في الوقت الراهن من أكثر دول المنطقة تلقيًا للمساعدات والمعونات، حتى إن وزراء الحكومة صاروا يعلنون بلا أدنى حياء وبكل فخرٍ وغبطة أخبار الحصول على وديعة أو قرضٍ أجنبي.
بعد مضي أقل من شهر على تكليفه، أصدر رئيس الوزراء السوداني، معتز موسى، قرارًا بزيادة السعر التركيزي لجوال القمح إلى 1800 جنيه، بجانب رفع سقف التمويل للمزارعين من 50 ألف جنيه إلى 100 ألف
وعلى الرغم من تردي الأوضاع الاقتصادية واستمرار تدهور الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية، أبدى قطاع عريض من السودانيين تفاؤلًا حذرًا بتعيين معتز موسى رئيسًا للوزراء ووزيرًا للمالية في الوقت نفسه مطلع سبتمبر/أيلول الماضي ومصدر التفاؤل يعود إلى الحماس الذي أظهره الرجل فور تسلمه المنصب، فضلًا عن انتهاجه سياسة التواصل مع الجهور عبر مواقع التواصل الاجتماعي وهو تصرف لم يعتد عليه السودانيون من مسؤولي الحكومة.
معتز موسى يشجع الإنتاج والبشير يفك الحظر عن المنتجات المصرية
بعد مضي أقل من شهر على تكليفه، أصدر رئيس الوزراء السوداني، معتز موسى، قرارًا بزيادة السعر التركيزي لجوال القمح إلى 1800 جنيه، بجانب رفع سقف التمويل للمزارعين من 50 ألف جنيه إلى 100 ألف، وجاءت رمزية قرارات معتز من أنه أصدرها إبان انعقاد جلسة لمجلس الوزراء في مدينة ودمدني التي تحتضن رئاسة مشروع الجزيرة أكبر مشروع زراعي مروي عرفته القارة الإفريقية قبل أن تدمره سياسات حكومة الإنقاذ وتهبط بإنتاجيته إلى أقل من 25% من الإنتاج الحقيقي حسب أعضاء في اتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل.
سياسات رئيس الوزراء تلقّاها الجمهور بصورةٍ إيجابية باعتبارها تصب في إطار تشجيع المزارعين وتحفيزهم على الإنتاج رغم أن البعض شكك في نتائجها معتبرين أن معضلة الاقتصاد السوداني وقطاع الزراعة على وجه التحديد أعقد من أن تحل بمثل هذه الإجراءات السريعة، ولفت هؤلاء إلى إصدار الرئيس عمر البشير قرارات معاكسة بفك الحظر عن المنتجات المصرية بعد أيامٍ قليلة فقط من حزمة الحوافز التي أقرها رئيس الوزراء خصوصًا أن جزءًا كبيرًا من المنتجات المصرية المشار إليها تشمل سلعًا زراعية مثل الفواكه والخضراوات والأسماك المعلبة ومحضرات السلع الزراعية لذلك رأى عدد من المحللين أن قرارات البشير الفجائية تتضارب مع سياسات معتز موسى الإيجابية.
مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ، كشف المنسق القومي لمشروع إنتاج القمح إسلام محمد خير، عن تخطيط الإدارة لزراعة 700 ألف فدان قمح منها 400 ألف بمشروع الجزيرة و120 ألف فدان بالشمالية و65 ألف فدان بنهر النيل و50 ألف فدان بالنيل الأبيض و60 ألف فدان بحلفا الجديدة، وأكد أن إدارة المشروع سلمت كل المشاريع الزراعية والأسمدة التي شملت سماد اليوريا والداب عبر البنك الزراعي.
لنتوقف قليلًا مع مشروع توطين القمح الذي يعد من المشروعات الضخمة التي رُصدت لها أموال كبيرة وكانت الخطة واضحة من قيامه وهي تمزيق فاتورة استيراد القمح، ولكن من خلال التقييم يتضح أن المشروع لم يحقق الأهداف المرجوة منه، وقد طالبت قيادات زراعية أكثر من مرة بإعادة النظر فيه، نظرًا لأن المشكلات التي تعيق عمليات الإنتاج ما زالت قائمة، ولا يزال السودان يستورد نحو مليوني طن من القمح، والإنتاج المحلي لا يتجاوز نصف مليون طن في أفضل حالاته.
بينما تتذرع حكومة السودان وتحاول تبرير فشل المشروعات الحكومية الكبرى في إنتاج القمح رغم رصد الأموال الطائلة لها، فوجئ السودانيون بتلال القمح التي أنتجها مشروع الراجحي المملوك لرجل الأعمال السعودي سليمان الراجحي في الولاية الشمالية العام الماضي
وقد اعترف عبد الجبار حسين الأمين العام لمشروع النهضة الزراعية (أحد أجسام الحكومة السودانية المتعددة) بأن برنامج توطين القمح فشل بسبب خلافات بين وزراء بشأن دعم القمح وأوضح أن كمية القمح المخطط إنتاجها خلال فترة البرنامج كانت 10.2 مليون طن لم ينتج منها 1.9 مليون طن فقط وأن نسبة الأداء لم تتجاوز 19%، فيما أكد توقف الاهتمام بالقمح كمحصول إستراتيجي من العام 2013 حتى 2017.
الحكومة السودانية تفشل والراجحي ينجح
بينما تتذرع حكومة السودان وتحاول تبرير فشل المشروعات الحكومية الكبرى في إنتاج القمح رغم رصد الأموال الطائلة لها، فوجئ السودانيون بتلال القمح التي أنتجها مشروع الراجحي المملوك لرجل الأعمال السعودي سليمان الراجحي في الولاية الشمالية العام الماضي، فقد تجاوز إنتاج الفدان الواحد بمشروعه الخاص نحو 30 جوال قمح، داحضًا كل التبريرات الواهية التي تتذرع بها الحكومة السودانية واتحادات المزارعين، فالأرض هي الأرض ذاتها، والمياه هي المياه، والمناخ هو المناخ الذي قال عنه الرئيس البشير ذات يوم: “مناخ السودان غير صالح لزراعة القمح”.
ولكن نجاح مجموعة الراجحي لم يكن صدفة فهو مبني على الدراسة المحكمة والتخطيط السليم، ثم المتابعة والتنفيذ الدقيق، فكان الإنتاج الوفير الذي أحرج وزارة الزراعة الاتحادية في السودان ووزارات الزراعة ال18 في الولايات! هذا بخلاف عشرات الإدارات والأجسام الإدارية المترهلة التي أثقلت كاهل المواطن البسيط بأعبائها المالية من مرتبات وحوافز ومكافآت ويا ليت بعد كل هذا حصدت نجاحًا حقيقيًا، فإنتاج الفدان من القمح لم يزد على 15 جوالًا في مشروعات الجزيرة ونهر النيل بل إن بعض المشروعات أنتج فيها الفدان نحو 7 جوالات فقط.
تفاؤل بنجاح الموسم الشتوي.. ولكن
وللتعليق على التطورات الأخيرة والسياسات الجديدة للحكومة السودانية لتشجيع إنتاج القمح، استنطق “نون بوست” رأي المحلل الاقتصادي والكاتب بصحيفة الجريدة السودانية إيليا روماني وليام، الذي اعتبر أن فاتورة استيراد القمح أرهقت كاهِل الاقتصاد السوداني، مشيرًا إلى بلوغها في العام السابق 671 مليون دولار للقمح و118 مليون دولار لدقيق القمح وهي تُمثل 8.6% من إجمالي الواردات، وأضاف وليام “سعى رئيس الوزراء معتز موسى إلى تمزيق هذه الفاتورة وفق سياسة طموحة شجاعة برفع السعر التركيزي للقمح إلى 1800 جنيه سوداني وهنا لا بُد من الإشارة إلى أن هذا السعر تفوقَ على السعر العالمي”.
ويبدي إيليا روماني تفاؤله بنجاح الموسِم الشتوي ويتوقع تحقيق نتائج إيجابية لأنه يعتبر العوائد مغرية حسب وصفه، لكنه يشترط لذلك حل أزمتي “الوقود والنقد”، ويستحضر حديثًا لرئيس الوزراء خلال منتدى اقتصادي قبل أسابيع أشار فيه إلى أن القروض السلعية قد ورطت الاقتصاد ولا يُمكن الاعتماد عليها.
العائق الأكبر في تقديرنا يكمن في الرسوم الباهظة التي تتفنن الحكومة السودانية في تطبيقها على المزراعين وصغار المنتجين مما جعل الكثير منهم يعزف عن النشاط الزراعي ويتجه إلى التجارة وممارسة الأنشطة السهلة التي تدر عليه دخلًا دون مخاطر الخسارة
ويصف روماني في حديثه الخاص لـ”نون بوست” اتجاه الدولة لتخصيص طُلمبات وقود خاصة بمناطِق الإنتاج الزراعي بأنه “حل معقول”، ويكاد المحلل الاقتصادي يجزم بقرب انجلاء أزمة السيولة وفق معلومات توافرت لديه حسبما أفاد، متوقعًا أن ترسل الحكومة شحنات النقود الأولى إلى مناطق الإنتاج للشراء مباشرة من المزارعين، ويختتم إيليا روماني بقوله: “دون ذلك تكون الحكومة قد هزمت نفسها بنفسها، وورطت مزارعيها، وأحبطت الرأسماليين، وتكون قد وضعت صورة قاتمة لإمكانية الحل الاقتصادي لأزمات البلاد”.
الجبايات العائق الأكبر أمام الإنتاج.. ودول آسيا تغير وجهتها من السودان إلى إثيوبيا
تدهور القطاع الزراعي في السودان بما فيه إنتاج القمح لم يكن بسبب العوائق التي سردها روماني فحسب، بل إن هناك ما هو أخطر من أزمة انعدام السيولة النقدية وندرة الوقود وتدهور قيمة العملة الوطنية، فالعائق الأكبر في تقديرنا يكمن في الرسوم الباهظة التي تتفنن الحكومة السودانية في تطبيقها على المزراعين وصغار المنتجين مما جعل الكثير منهم يعزف عن النشاط الزراعي ويتجه إلى التجارة وممارسة الأنشطة السهلة التي تدر عليه دخلًا دون مخاطر الخسارة.
وقال لـ”نون بوست” المزارع أحمد علي إنه ورفقائه لا يستطيعون الاستمرار في العملية الإنتاجية في ظل الضرائب والرسوم المفروضة عليهم، وأكد أن عشرات المزراعين دخلوا السجون بسبب الإعسار وعجزهم عن سداد التمويل الذي أخذوه من البنوك، وأضاف علي “أنا شخصيًا لن أتحمل أي زيادات في الضريبة التي تفرضها علينا الحكومة خاصة بعد الزيادات في أسعار المحروقات التي دخلت على المزارعين في منتصف الموسم السابق وزادت من أعبائهم”.
غير بعيد عن موضوعنا، كشفت صحيفة السودان اليوم أن 67 شركة أجنبية، بجنسيات آسيوية مختلفة (الهند، الصين، إندونيسيا) عدّلت وجهتها لصادرات الحبوب الزيتية من السودان إلى إثيوبيا بعد أن وجدت أسعار السمسم السوداني أعلى من الأسعار العالمية.
إن حكومة السودان يهمها فقط العائد السريع القريب، تحصيل الضرائب بغض النظر عن النتيجة وهي فقدان البلاد لملايين الدولارات من النقد الأجنبي وتعطل الإنتاج وزيادة حجم البطالة وركود الأسواق، إلى آخره
وكشفت مصادر مطلعة أن الشركات التي طافت ولايات الإنتاج الزراعي بالسودان (القضارف) لشراء السمسم وجدت الأسعار مرتفعة عن السوق العالمية، ولفتت المصادر ذاتها إلى أن الشركات دفعت مبلغ 1600-1650 دولارًا للطن عالميًا، فيما بلغ سعر طن السمسم داخل السودان 2200 دولار! أي بزيادة قدرها 600 دولار في الطن الواحد، وبكل تأكيد تلعب الضرائب الباهظة وتعدد الرسوم والجبايات الدور الأكبر في ارتفاع أسعار السمسم السوداني عن السعر العالمي، إذ إن حكومة السودان يهمها فقط العائد السريع القريب، تحصيل الضرائب بغض النظر عن النتيجة وهي فقدان البلاد لملايين الدولارات من النقد الأجنبي وتعطل الإنتاج وزيادة حجم البطالة وركود الأسواق، إلى آخره.
حسنًا فعل معتز موسى برفع السعر التركيزي للقمح وبزيادة سقف التمويل الأصغر للمزارعين وبانتهاجه سياسة تشجيع الإنتاج وعدم الالتفات لأي معونات خارجية، ولكن إذا أراد أن ينهض بالقطاع الزراعي، يجب عليه التدخل لوقف الرسوم الزراعية والضرائب الباهظة التي تفرضها سلطات الولايات والحكومة الاتحادية على المزارعين، ونذكره بأن حكومات دول الجوار تشجع صغار المنتجين وتمنحهم تسهيلات متعددة بدلًا من إثقال كاهلهم بالرسوم والضرائب من دون أن تُقدّم لهم أي مقابل.
أما المشروعات الكبرى فقد ثبت تمامًا فشل الدولة في إدارتها ومشروع الجزيرة خير مثال على ذلك، فلماذا لا ترفع الحكومة يدها عن كل المشروعات، ولتتركها للقطاع الوطني الخاص أو تفتح الباب للمستثمرين الأجانب وتجربة الراجحي خير دليل وبرهان؟ الزراعة واعِدة، والسودان يزخر بالموارد الهائلة فقط نحتاج إلى الإدارة الراشدة والحكم الرشيد كما يقول صديقنا إيليا روماني.