من المفارقات العجيبة في قضية خاشقجي أن يُقتل مسلم على يد مسلمين في بلد مسلم، فيتجه المسلمون المناصرون للضحية والمتَّهَمون بجريمة القتل على السواء إلى الغرب وخصوصًا أمريكا، ليحكموا بينهم في القضية، الطرف الأول يزود دول الغرب بأدلة تدين السعودية، والطرف الثاني يحاول أن يبرهن للغرب أن رأس النظام السعودي بريء من التهمة!
إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن دويلات المسلمين (قاطبة) مجرد “ملحقات إدارية وأمنية” لأمريكا والغرب، لا تتوافر حتى على السيادة والعزة والقوة والاستقلالية التي تتوافر عليها ولايات الولايات الأمريكية الخمسين، ويدل على أن الغرب هو الذي ينصب حكام المسلمين ويقلعهم متى شاء، أما الشعوب المسلمة فلا محل لها من الإعراب، لا سلطان لها البتة، هي في حكم العَدَم، حكام المسلمين يهمهم الرأي العام في الغرب ويخشونه، لكن لا تهمهم الشعوب المسلمة ولا يعيرون أي اهتمام لمشاعرها وإرادتها وآراءها، فلو كان للشعوب المسلمة سلطان، لكان الشعب في السعودية من حاسب محمد بن سلمان حسابًا عسيرًا على جريمة قتل خاشقجي، وأزاحه من الحكم وقدمه هو وعصابته المنفذة للجريمة للمحاكمة في السعودية.
لو كان للشعوب المسلمة سلطان لَمَا تجرأ أصلا محمد بن سلمان على قتل خاشقجي، ولَمَا تجرأ على قتل المسلمين في اليمن، ولا تجرأ هو وغيره من حكام المسلمين على اعتقال المسلمين لمجرد إدلائهم بآرائهم السياسية وانتقادهم للحكام، ولما تجرأوا على تعذيب المسلمين وإذلالهم وتجويعهم وقتلهم ونهب خيراتهم والتواطؤ مع دول الغرب ضدهم، فما دامت الشعوب المسلمة مسلوبة الإرادة والسلطان والقوة، فسيبقى الحكام الرويبضة ومن ورائهم الغرب يعبثون بها وبخيراتها وبلدانها.
ما الذي يدفع أمريكا لإزاحة محمد بن سلمان وهي التي أتت به لسدة الحكم، وضمن لها هو أن يقضي بالحديد والنار على ما تبقى من الإسلام في الحياة الاجتماعية في السعودية، ويمنحهم مزيدًا من المليارات جِزْيةً، ويرغم الشعب المسلم على التطبيع مع “إسرائيل”
وهكذا، أمام حالة الغثائية والعجز التي تعيشها الشعوب، يتطلع المسلمون وحكوماتهم (على رأسهم الحكومة التركية) للغرب وأمريكا على الخصوص ليتخذوا هم (وليس المسلمون) عقوبات صارمة ضد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تؤدي لإنهاء طموحاته في أن يصبح ملكًا في السعودية، وذلك بسبب إصداره أمر قتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بأنقرة.
فما الذي سيدفع الغرب لمعاقبة محمد بن سلمان على جريمةٍ، الغرب نفسه ارتكب ويرتكب جرائم أبشع منها ضد ملايين المسلمين في البلدان الإسلامية؟ وما الذي يدفع أمريكا لإزاحة محمد بن سلمان وهي التي أتت به لسدة الحكم، وضمن لها هو أن يقضي بالحديد والنار على ما تبقى من الإسلام في الحياة الاجتماعية في السعودية، ويمنحهم مزيدًا من المليارات جِزْيةً، ويرغم الشعب المسلم على التطبيع مع “إسرائيل” بعدما طبَّعت معها منذ عقود كل الأنظمة المتحكمة في البلدان الإسلامية؟ لماذا يمتنع الغرب عن التعامل مع محمد بن سلمان وهو الذي يقبل التعامل مع حكام عرب أشد بطشًا وإجرامًا من محمد بن سلمان.
الغرب استقبل السيسي في عواصمه وهو الذي وصل للحكم عن طريق انقلاب وسجل جرائمه أكبر وأبشع من سجل ابن سلمان
فمن كان من المسلمين يظن أن قتل خاشقجي وبشاعة كيفية التخلص من جثته (التي تمت في الخفاء)، ألمت الأنظمة الغربية وحركت ضميرها وستحركها لمعاقبة محمد بن سلمان وإزاحته من الحكم، فقد تفرج العالم كله على المباشر، كيف قتل السيسي، في 14 من أغسطس/آب 2013، مئات المسلمين المسالمين المعتصمين في ميداني رابعة العدوية والنهضة في مصر، ونقلت آلات التصوير الحي للإعلام المصري والعالمي كيفية تخلص السيسي من جثث القتلى والجرحى بحرقها وجرفها بالجرافات.
ومع ذلك استقبلت كل الحكومات الغربية السيسي بالسجاد الأحمر، استقبلت السيسي الذي، إلى جانب ارتكابه لمجازر، وصل للحكم بانقلاب عسكري، والانقلابات العسكرية من الممارسات المحرمة في فكر ومبادئ الديمقراطيات الغربية، بل واعتقلت حكومة ديمقراطية (ألمانيا) صحافيًا مصريًا (أحمد منصور) في برلين، في يونيو/حزيران 2015، بأمر من نظام السيسي واضطرت للإفراج عنه لاحقًا تحت الضغط الإعلامي.
الغرب يستميت لإبقاء بشار الأسد في الحكم وهو الذي قتل شعبه بأبشع الطرق
بشار الأسد ارتكب جرائم تقشعر لها الأبدان، قتل أكثر من مليون مسلم بأبشع الطرق، واعتقل وعذب مئات الآلاف، وهجَّر الملايين، قُطعت أجساد الناس وهم أحياء، وهناك من دُفنوا أحياء، ومنهم من ذبحوا كذبح النعاج، ومنهم من تم صلقهم بالزيت المغلي، ومنهم من مزقتهم البراميل المتفجرة لأشلاء، ومنهم من قُتلوا خنقًا بمختلف الغازات السامة، قتلٌ بطيء مؤلم، ومنهم من حُرقوا بالقنابل الفسفورية، وعدد الأطفال الذين دكتهم قنابل بشار لا يُحصى، ناهيك عن التمثيل بالجثث واغتصاب النساء، وغيرها الكثير من الجرائم البشعة التي تبدو أمامها جريمة قتل خاشقجي والتمثيل بجثته – مع وحشيتها وإدانتها – مجرد “مخالفة جنائية” بسيطة.
وجرائم بشار الأسد البشعة موثقة بالصوت والصورة، وسُلِّمت لدول الغرب عشرات الآلاف من صور ضحايا التعذيب والقتل الوحشي الذي يمارسه بشار الأسد، سرَّبها من سوريا شخص يحمل الاسم المستعار “قيصر” (خوفًا على سلامته)، كان مصورًا لدى الشرطة العسكرية السورية، ومع كل ذلك، فالغرب دعم ويدعم بشار الأسد في حربه الاستئصالية ضد أهل السنة في سوريا، ولا يمانع ترؤسه للحكومة الانتقالية المقترحة في سوريا وترشحه للانتخابات الرئاسية بعد ذلك.
https://www.youtube.com/watch?v=3PHp-gAIqm4
تهافت رؤساء الغرب على “الإرهابي” معمر القذافي
نفذ نظام معمر القذافي، حسب ما تبنته تقارير وتحقيقات رسمية للدول الغربية، عمليات إرهابية وجرائم قتل في عدة دول، منها بلدان غربية، ناهيك عن الجرائم داخل ليبيا، راح ضحيتها ليس ليبيون فحسب بل كذلك مواطنون غربيون.
فهناك مثلاً حادثة لوكربي سنة 1988 التي فُجِّرت فيها طائرة أمريكية “بانام 103” في سماء إسكتلندا، فسقطت وتناثرت أشلاؤها ونيرانها الحارقة على بلدة “لوكربي” الإسكتلندية التي أحرقت ودمرت 21 منزلاً، وقتلت 11 من سكان لوكربي وكل ركاب الطائرة الـ559 وأغلبهم أمريكيين.
وهناك جريمة ارتكبها أعضاء من السفارة الليبية في لندن سنة 1984، حيث أطلقوا النار على متظاهرين ليبين فأصابوا منهم أكثر من 10 بجروح وقتلوا الشرطية البريطانية إيفون فلتشر.
وهناك عملية “مرقص لابيل” في برلين الغربية سنة 1986، المرقص الذي كان يرتاده جنود أمريكيون، واتُّهِمت المخابرات الليبية بتنفيذها، قُتل فيها جنديان أمريكيان وفتاة تركية، وجُرح العشرات من زوار المرقص.
مجازر 7 من أبريل 1976 التي أعدم فيها القذافي طلبة وأساتذة جامعيين في طرابلس وبنغازي أمام حشود من الجماهير وعُرضت الإعدامات الجماعية على شاشة التلفاز الليبي، وهناك مجزرة سجن بوسليم في 29 من يونيو 1996 التي قُتل فيها أكثر من ألف معتقل
وهناك عملية تفجير طائرة ركاب فرنسية يوم 19 من سبتمبر 1989 فوق النيجر كانت متجهة نحو باريس، أدت لمقتل أكثر من 150 راكبًا من دول غربية وإفريقية مختلفة، من بينهم زوجة السفير الأمريكي لدى التشاد، ووزير التخطيط التشادي، وأكثر من 50 مواطنًا فرنسيًا، و9 أمريكيين، و48 كونغوليًا، وأدانت محكمة فرنسية سنة 1999 رسميًا دبلوماسيين ورجال مخابرات ليبيين بتفجير الطائرة الفرنسية.
وهناك عملية اختفاء الإمام الشيعي موسى الصدر (مؤسس حركة أمل اللبنانية) في ليبيا منذ سنة 1978 حين وصل إلى طرابلس الليبية بدعوة رسمية من النظام الليبي للمشاركة في احتفالات “ثورة الفاتح من سبتمبر” التي وصل على إثرها القذافي إلى السلطة عام 1969، وصرحت السلطات الليبية أيامها أن موسى الصدر ورفيقيه غادروا طرابلس مساء 31 من أغسطس/آب 1978 على متن طائرة للخطوط الإيطالية متوجهة إلى روما، لكن السلطات الإيطالية أكدت أنهم لم يدخلوا إيطاليا، رغم عثورها على حقائب لموسى الصدر ورفيقيه في أحد الفنادق بروما، تبين بعد عقود أن النظام الليبي غدر بالصدر ورفيقيه وقتلهم عندما زاروا ليبيا بدعوة منه، وقام بعملية تمويه حين وضعت المخابرات الليبية حقائب المقتولين في فندق في إيطاليا كدليل على أنهم غادروا ليبيا.
وهناك مجازر 7 من أبريل 1976 التي أعدم فيها القذافي طلبة وأساتذة جامعيين في طرابلس وبنغازي أمام حشود من الجماهير وعُرضت الإعدامات الجماعية على شاشة التلفاز الليبي، وهناك مجزرة سجن بوسليم في 29 من يونيو 1996 التي قُتل فيها أكثر من ألف معتقل.
رؤساء دول الغرب يتهافتون على زيارة القذافي في ليبيا واستقباله في عواصم دول غربية، حتى خيمة القذافي المشهورة تم توفيرها له خلال زياراته للغرب، وسُمح للقذافي “الإرهابي” باعتلاء منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ليلقي منها خطاباته النارية الشهيرة ضد “النظام الدولي”
رغم كل هذه الجرائم وغيرها الكثير التي لا يسع إحصاءها كلها، ورغم أن الغرب صنف أيامها القذافي على أنه أحد أكبر الرعاة للإرهاب الدولي، بدأ الغرب يعيد علاقاته الرسمية والحميمية مع القذافي منذ سنة 1999، وتمت تسوية أغلب القضايا الإرهابية ضد القذافي بمنح الأخير تعويضات مالية للضحايا الغربيين وتقديم أكباش فداء ليبيين للمحاكمة كمخططين ومنفذين للعمليات الإرهابية في أوروبا.
وبدأ رؤساء دول الغرب يتهافتون على زيارة القذافي في ليبيا واستقباله في عواصم دول غربية، حتى خيمة القذافي المشهورة تم توفيرها له خلال زياراته للغرب، وسُمح للقذافي “الإرهابي” باعتلاء منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ليلقي منها خطاباته النارية الشهيرة ضد “النظام الدولي”، فالصفقات الضخمة في مجال الطاقة (النفط والغاز) وبناء مرافق ومنشآت عامة في ليبيا، أسالت لُعاب الشركات الغربية، فجعلت (إلى حين) من القذافي “الإرهابي” المنبوذ ومن أبنائه، حلفاءً وأصدقاءً أقوياءً للغرب.
هل سيغفر الغرب لمحمد بن سلمان جريمة قتله لخاشقجي ويستقبله (ولو بعد حين) بسجاد أحمر؟
بعد هذه الأمثلة التي عرضتها عن جرائم قام بها رؤساء عرب، ولم تمنع الحكومات الغربية من الترحيب بهم وإقامة علاقات حميمية معهم، فلا يُستبعد أن نرى محمد بن سلمان يتبختر، عاجلاً أو آجلاً، فوق السجاد الأحمر في عواصم دول الغرب، ونرى رؤساء ووزراء دول الغرب يتوافدون على محمد بن سلمان في الرياض، وتعقد معه الشركات الغربية الصفقات التجارية، فجريمة قتل خاشقجي لا تكاد تساوي شيئًا (مع الإدانة لها وحرمة قتل ولو نفس واحدة بغير حق) أمام جرائم بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي ومعمر القذافي، كما أنه، مقارنةً بجرائم القذافي مثلاً، محمد بن سلمان لم يقتل أي مواطن غربي.
بتجاوز الغرب عن محمد بن سلمان جريمة قتل خاشقجي، سيجعل على رأس سدة الحكم في السعودية حاكمًا مكسور الجناحين، مدينًا للغرب ولأمريكا على الخصوص ببقائه في الحكم، فيكون سخائه المادي تجاه الغرب أكبر، وخدماته له ولـ”إسرائيل” أعظم
أمام كل هذه المعطيات وأمام ازدواجية معايير دول الغرب التي تتغير حسب المصالح المادية والسياسية وأمام تاريخ وحاضر دول الغرب الأسود تجاه المسلمين، حيث ارتكبت ما زالت ترتكب هي نفسها جرائم بشعة في عدد من البلدان الإسلامية، قُتل على إثرها أعداد لا تحصى من المسلمين الأبرياء، أطفال وشباب ونساء وشيوخ، وسُوِّيت مدنهم وقراهم بالأرض، وأمام الخدمات والأموال التي يقدمها آل سعود ومحمد بن سلمان للغرب ولأمريكا على الخصوص، وأمام إصرار محمد بن سلمان على منافسة الحكام المسلمين في خدمة “إسرائيل”، وتحمسه الكبير للعب دور ريادي في إتمام تصفية القضية الفلسطينية لصالح “إسرائيل”، أقول أمام هذا كله، ما الذي سيدفع الغرب (وخصوصًا أمريكا) ليتخلى عن محمد بن سلمان ويعمل على إزالته من الحكم في السعودية؟
وإذا كان، على سبيل المثال لا الحصر، سقط مئات آلاف القتلى من المسلمين جراء غزو أمريكا للعراق سنة 2003، غزوٌ بُرر على أساس قصص واتهامات مكذوبة، ومع ذلك لم يعاقب أي من المسؤولين الأساسين، بوش الابن الرئيس الأسبق لأمريكا وتوني بلير رئيس الوزراء السابق لبريطانيا، بل وتم إعادة انتخابهم كرؤساء على دولهم، واستقبلتهم كل دول العالم ورحبت بهم، فما المانع من ترميم صورة محمد بن سلمان وقبوله فيما يسمى “المجتمع الدولي”، وجريمة خاشقجي لا تعادل عُشر أعشار جرائم بوش وبلير؟
إلى جانب كل ذلك، فبتجاوز الغرب عن محمد بن سلمان جريمة قتل خاشقجي، سيجعل على رأس سدة الحكم في السعودية حاكمًا مكسور الجناحين، مدينًا للغرب ولأمريكا على الخصوص ببقائه في الحكم، فيكون سخائه المادي تجاه الغرب أكبر، وخدماته له ولـ”إسرائيل” أعظم، وحربه على الإسلام والمسلمين أشد.