ترجمة وتحرير نون بوست
هذا المقال كتابة مشتركة بين نهى ورزان جمال خاشقجي
على الرغم من أن جمال خاشقجي كان رجلا يمتاز بشخصية معقدة، إلا أنه كان بالنسبة إلينا، نحن بناته، أبا بكل بساطة. لطالما كانت عائلتنا فخورة بعمله، وقد فهمنا السبب الكامن وراء نظرة الاحترام والعظمة التي يكنها له البعض. في حياتنا الخاصة، كان والدنا رجلا محبا ورحب الصدر. كنا نقضي أوقاتا ممتعة عندما كان يصطحبنا إلى محل بيع الكتب خلال عطلة نهاية الأسبوع. وكنا نستمتع بتصفح جواز سفره وفك رموز الوجهات الجديدة التي زارها من الصفحات المغطاة بختم الخروج والدخول. لكم أحببنا كذلك فكرة البحث في المجلات والجرائد القديمة التي تحيط بطاولة مكتبه.
عندما كنا صغارا، عرفنا أن والدنا كان يسافر باستمرار نظرا لأن عمله يتطلب منه زيارة أماكن مختلفة، إلا أنه كان يعود إلينا دائما بالهدايا والقصص الرائعة. لقد كنا نقضي الليل نتساءل حول مكانه وما عساه يفعل، وكلنا ثقة بأنه بغض النظر عن المدة التي سوف يستغرقها غيابه، سوف نراه مجددا فاتحا ذراعيه لعناقنا. على الرغم من أننا كنا نحب عمله، إلا أننا كنا ندرك منذ الصغر أن تأثيره يتجاوز حدود عائلتنا لأنه كان رجلا مهما ولكلماته وقع على الأشخاص على بعد مسافات كبيرة.
كان أبي يمتلك جانبا عمليا بالتأكيد، لكنه كان يناضل من أجل إنشاء نسخة مثالية من الواقع في أحلامه وطموحاته، ونعتقد أن هذه النقطة هي التي ألهمت الجانب النقدي في داخله
طول حياتنا، كنا معتادين على أن يستوقف الأشخاص والدنا في الشارع لمجرد مصافحته والتعبير له عن مدى تقديرهم واحترامهم له. كان كثيرون يعتبرون أن والدنا أكثر من مجرد شخصية عامة، نظرا لأن عمله لمس حياتهم بقوة وكان له صدى عليهم شخصيا، وهو لا يزال كذلك.
لوحة مرسومة بواسطة رزان جمال خاشقجي
لقد نشأنا مع والدين شغوفين بالعلم والمعرفة، ودائما ما كانا يصطحباننا إلى عدد لا يحصى من المتاحف والمواقع الأثرية. عندما نكون في طريقنا من جدة إلى المدينة، كان أبي يرينا مناطق مختلفة ويخبرنا عن أهميتها التاريخية. لقد أحاط أبي نفسه بالكتب وكان يحلم دائما بالحصول على المزيد. كان يطالع جميع الكتب من مختلف المشارب ويستوعب جميع الآراء. وقد علمه حبه للكتب بلْورة أفكاره الخاصة، وقد علمنا فعل الشيء نفسه.
أخبرنا أبي كذلك عن اليوم الذي غادر فيه المملكة العربية السعودية، وهو يقف خارج عتبة بيته، متسائلا عما إذا كان سيعود يوما ما. على الرغم من أنه بدأ حياة جديدة في الولايات المتحدة، إلا أنه كان حزينا على حياته التي تركها خلفه في المملكة
كانت حياته بمثابة سلسلة من التحولات والانعطافات غير المتوقعة، وقد عشنا معه ذلك. لم يعش الكثير من الأشخاص محنة طردهم من الوظيفة نفسها مرتين خلال بضع سنوات، مثلما حدث مع أبي عندما كان رئيس تحرير جريدة “الوطن”. لكن بغض النظر عما حدث، كان دائم التفاؤل ورأى في كل تحد فرصة جديدة.
كان أبي يمتلك جانبا عمليا بالتأكيد، لكنه كان يناضل من أجل إنشاء نسخة مثالية من الواقع في أحلامه وطموحاته، ونعتقد أن هذه النقطة هي التي ألهمت الجانب النقدي في داخله. كان التعبير عن رأيه ومشاركة آرائه فضلا عن تقديم مناقشات صريحة أمرا بالغ الأهمية بالنسبة له. ولم تكن الكتابة مجرد وظيفة، بل ضرورة. لقد كانت متأصلة في جوهر هويته، وهذا ما دفعه إلى التشبث بالحياة. لكن الآن، تعمل كلماته على تخليد ذكراه معنا ونحن ممتنون لذلك. وفي هذا السياق، قالت كل من نهى ورزان: “لقد كان هنا رجل عاش الحياة على أكمل وجه”.
عندما كنا في ولاية فرجينيا خلال شهر رمضان، عرّفنا أبي على العالم الذي أنشأه لنفسه خلال السنة الماضية، وعلى أصدقائه الذين رحبوا به هناك، واطلعنا على الأماكن التي يرتادها. على الرغم من أنه كان مرتاحا مع الأشخاص الذين من حوله، لم يمنعه ذلك من التحدث عن شوقه لرؤية منزله وعائلته وأحبائه.
لا يجب اعتبار كلامنا هذا تأبينا، لأن ذلك من شأنه أن يبدو وكأنه نهاية لقصة والدنا، وإنما وعد بأن نوره لن يخبو وذكراه لن تنسى أبداً، سنحافظ على إرثه في داخلنا.
أخبرنا أبي كذلك عن اليوم الذي غادر فيه المملكة العربية السعودية، وهو يقف خارج عتبة بيته، متسائلا عما إذا كان سيعود يوما ما. على الرغم من أنه بدأ حياة جديدة في الولايات المتحدة، إلا أنه كان حزينا على حياته التي تركها خلفه في المملكة. خلال جل قضاياه وسفراته، لم يفقد الأمل في العودة إلى بلده لأن أبي، في الحقيقة، لم يكن معارضا. إذا كانت الكتابة جزءا متأصلا في هويته، فإن انتماءه للسعودية كان جزء من ذلك على حد السواء.
بعد حادثة اختفائه في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر، زارت عائلتنا منزل أبي في فرجينيا، وكان الجزء الأصعب من الزيارة، رؤية كرسيه فارغا، لقد كان غيابه مدويا. كان يمكننا رؤيته جالسا هناك، واضعا نظراته على جبينه وهو بصدد القراءة أو الكتابة. عندما ألقينا نظرة على أغراضه، عرفنا أنه اختار الكتابة بلا كلل على أمل أن يعود إلى المملكة وقد أصبحت مكانا أفضل له ولجميع السعوديين.
لا يجب اعتبار كلامنا هذا تأبينا، لأن ذلك من شأنه أن يبدو وكأنه نهاية لقصة والدنا، وإنما وعد بأن نوره لن يخبو وذكراه لن تنسى أبداً، سنحافظ على إرثه في داخلنا.
“قال أبي إن البعض يغادر ليبقى خالدا”، وهو ما ينطبق على قصته اليوم. نحن نشعر بأننا محظوظتان لأننا كبرنا على أخلاقه واحترامه للمعرفة والحقيقة ومحبته. حتى نلتقي مجددا في الحياة القادمة.
المصدر: واشنطن بوست