“البارون” هو اللقب الذي تطلقه الدراسات الغربية واليهودية على الثري الألماني موريس دي هيرش، الذي أسهم في تأسيس واحدة من أبرز التشكيلات المدنية التي مهّدت لاحتلال فلسطين والاستيطان فيها وتهجير أهلها، مقابل استقدام المهاجرين اليهود.
لا يعبّر هذا اللقب الحصري عن فعالية المؤسسة التي أنشأها الرجل، ودورها الأساسي في رسم خارطة “إسرائيل” بالشكل الذي تبدو عليه اليوم، إنما يعبّر عن الدور الفعّال للرجل الذي أسّس لمفهوم نقل اليهود من مجتمعاتهم في أوروبا نحو “الأرض الجديدة”، بغطاء خيري وإنساني، سيظل مستمرًّا حتى أمد طويل.
من جديد، نسلط الضوء في ملف “استيطان مدني” على مركّب آخر من مركّبات شبكة الخدمات والدعم الصهيوني، التي أفرزت دولة الاحتلال وعززتها وساهمت في استمرار وجودها سياسيًا واقتصاديًا وإقليميًا ودوليًا.
هذه المرة نرتحل خلف صفحات الأمس لنقرأ عن ولادة واحدة من أبرز المؤسسات الاستعمارية وأكثرها فعالية في خدمة أعظم مشروع ليبرالي غربي في الشرق الأوسط: “إقامة وطن قومي لليهود”، وهي جمعية الاستعمار اليهودي، حيث نشهد الخطوات الأولى لنشأتها وعلاقاتها المتشابكة، وتوسعها بالتزامن مع إعلان قيام “إسرائيل” على الأرض الفلسطينية.
الاستيطان بدوافع “الشفقة والعطف”
في بدايات العام 1890 كانت أوروبا ترزح تحت اكتظاظ سكاني كبير ومستويات فقر عالية، حيث قدرت أعداد سكانها بأكثر من 400 مليون نسمة، كانوا مجبرين على التعايش مع الكساد الاقتصادي والأوبئة المتتالية، ما تسبّب في رفع أعداد الفقراء وزيادة الاضطرابات.
نتيجةً لذلك، وجدت فكرة توزيع الفائض السكاني على الدول الأخرى رواجًا، وأُنشئت الجمعيات التي تعمل على تشجيع هجرة السكان وتعدهم بمستقبل أفضل وراء البحار، بما يشابه نموذج مكاتب الهجرة في حديث أيامنا، فسجّلت في تلك الفترة أكثر من 130 جمعية في المملكة المتحدة وحدها، تشجّع على الهجرة، بوصفها الخيار الأمثل لحلّ قضايا الفقر والتسول والاكتظاظ السكاني.
كان من بين هذه الجمعيات “جمعية الاستعمار القومي”، التي أسّسها الثري البريطاني إدوارد غيبون لاستعمار جنوب إستراليا، ووضع لها محفزات من قبل تطبيق الحكم المحلي الذاتي والحصول على حماية من الإمبراطورية البريطانية، ودعمها بصندوق خاص.
كانت جميع هذه الجمعيات تنطلق من فكرة ربط المهاجرين بالأرض وجعل الزراعة مصدر عيشهم ورزقهم، بما يمكّنهم من التملك والعيش والإنتاج دون حاجة لمعونات متواصلة، وهذه المميزات كانت أبرز ما لفت نظر المصرفي اليهودي الألماني البارون موريس دو هيرش، وجعل من المتاح جدًّا إنشاء جمعية يهودية بمثل هذه المواصفات وبمعايير هذا الحلم.
أطلق البارون دو هيرش فكرة تأسيس صندوق خيري في عام 1891، بدافع تطوير وتحسين ظروف اليهود الفقراء حول العالم، وخاصةً الأقليات الموجودة في أوروبا حيث يعانون من القهر والتجاهل السياسي والحقوقي.
يختص هذا الصندوق بتوفير الأموال لتحفيز وتمويل هجرة اليهود وتوطينهم في مكان آخر في العالم، يسمح لهم فيه بتملك الأرض وزراعتها والتمتع بحقوق الملاك والمواطنين على حدّ سواء، فأنشأ لذلك “صندوق توفير هيرش” الذي عُرف بالأوساط اليهودية لاحقًا باسم “جمعية الاستعمار اليهودي”.
مع اعتماد الاسم الجديد، كان لا بدَّ من ميثاق واضح ومجلس إدارة موثوق، فصدر ميثاقها الذي يشير إلى هدف تأسيسها في مادته الثالثة بالقول: “إن الغرض من إنشاء هذه الجمعية هو مساعدة وتشجيع هجرة اليهود من أي جزء من أوروبا أو آسيا، وخاصةً من البلدات التي يخضعون فيها لأي ضرائب خاصة أو إعاقات سياسية، حيث تعمل الجمعية على نقلها إلى أي جزء آخر من العالم، وتأسيس مستعمرات في أجزاء مختلفة من أمريكا الشمالية والجنوبية وبلدان أخرى لأغراض زراعية وتجارية وغيرها”.
في الميثاق أيضًا تتضمن مهام الجمعية كالتالي: “المساهمة في إنشاء وصيانة المؤسسات التعليمية والتدريبية والمزارع النموذجية وبنوك القروض والصناعات والمصانع وأي مؤسسات أو جمعيات أخرى في أي جزء من العالم، التي تعتبر مناسبة لهجرة اليهود ومساعدتهم على الاستقرار في أجزاء مختلفة من العالم، باستثناء أوروبا، مع المساهمة في تمويل أي جمعية أو مجتمع قائم بالفعل أو يتم تشكيله في المستقبل، وله أهداف قد تساعد أو تعزز تنفيذ أغراض الجمعية”.
وبهذا انطلقت أنشطة الجمعية لتمثل أول تشكيل يجمع اليهود ويهدف لتهجيرهم ومن ثم توطينهم فتمليكهم، ومن خلال ارتباطاته المالية والاستثمارية بمؤسسات وروابط فرنسية وانجليزية، استطاع البارون الانطلاق في عمل الجمعية، وبالفعل سجّلها عام 1893 في لندن كمؤسسة خيرية.
لكن المبدأ الخيري لم يمنعه من اعتبارها شركة مساهمة، حيث حدد رأسمالها الأساسي بمليوني جنيه إسترليني، وانطلق في تقديم خيارات معيشية أفضل للمضطهدين اليهود، ملقيًا على عاتقه مهمة تحقيق “نهضة” للأمة اليهودية بعيدًا عن أوروبا، وقد ضمّ مجلس الإدارة عددًا من أثرياء اليهود في أوروبا، كان من أبرزهم اللورد روتشيلد، والسير جوليان غولدسميد، والسير كاسل، والسير دموكاتا، وبنيامين كوهين من لندن، وغولدشميت وسولومون ريناخ من باريس.
ولأن نمط الهجرة السائد حينها كان يتجه نحو القارة الأمريكية، فقد تماشى البارون معه، فاشترى أراضي في كندا والأرجنتين والولايات المتحدة الأمريكية، وأنشأ مزارع ومشاريع توطين وتدريب يهودية ودعمها بما لا يقل عن 10 ملايين جنيه إسترليني، وبالفعل هاجرت أكثر من 300 عائلة يهودية بمساعدة من جمعية الاستعمار اليهودي نحو عالمهم الجديد.
في عام 1896 كانت لا تزال الحركة الصهيونية فكرة قيد التبلور مصحوبة بسعي الصحفي النمساوي ثيودور هيرتزل لدعمها واستنهاضها، فكان أول من اتصل به هو البارون دو هيرش، عارضًا عليه اقتراحات لمأسسة الجهد الاستعماري اليهودي، وتمويله بشكل أوسع، وكان من بين الاقتراحات دعوته للمشاركة بتأسيس بنك الاستعمار اليهودي، وإسناده بمبلغ مليوني جنيه إسترليني من قبل جمعية الاستعمار.
بقيَ دو هيرش المدير الوحيد والمشرف المتابع لجمعية الاستعمار اليهودية، حتى وفاته بداية عام 1896، وكانت الجمعية حينها تمتلك صندوقًا بمبلغ 6 ملايين جنيه إسترليني، ثم بعد وفاته ألقيت مهمة الإدارة على عاتق مجلس إدارة الجمعية الذي تصدّره اللورد إدموند دي روتشيلد، لكن بوجود غولدشميت رئيسًا فخريًا.
مع تصدر روتشيلد لإدارة الجمعية، أصبح التوافق بينها وبين الحركة الصهيونية عالي المستوى، لا سيما مع سمعته المتقدمة بوصفه “أبو السكان اليهود في أرض إسرائيل”، بسبب ما أغدقه من أموال لتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين، وخاصة اليهود الروس، فخلال فترة 1883-1889 وقبل أن تنشأ جمعية الاستعمار، تحمّل اللورد كامل مصاريف المستعمرات اليهودية الأولى في فلسطين، وهي ريشون ليتسيون، وزخرون يعقوب، وروش بيا، وعقرون، ودفع 5 ملايين جنيه إسترليني لمساعدة مستعمرات أخرى.
بعد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، ونتيجةً لدورها الفاعل في الاستيطان اليهودي، تم إقرار جمعية الاستعمار اليهودية كإحدى المؤسسات الرسمية لتشجيع الهجرة والاستعمار اليهودي.
وفيما كانت الجمعية قد أسّست مستعمرات في كل من أمريكا الشمالية وقبرص وآسيا الصغرى وفلسطين وروسيا ورومانيا، إلا أنها مع مطلع عام 1899 ركزت استيطانها على فلسطين، كما تولت إدارة جميع المستعمرات التي أنشأها روتشيلد منتصف القرن التاسع عشر في فلسطين، البالغ عددها 44 مستوطنة، والتي كانت تتم بمبادرات فردية منه ومن المتحمسين للاستيطان.
مع نهاية عام 1899، كانت جمعية الاستعمار قد أنشأت إلى جانب عملها في استقدام يهود العالم إلى فلسطين، سلسلةً من المنشآت التجارية والصناعية في القدس لتعزيز الاستيطان فيها، ومنها مصانع للحرير والصوف يعمل بها أكثر من 100 مستوطن، ومصنع لإنتاج آلات الحياكة، ومنشأة صباغة، ومصنع نسيج.
وإلى جانب المصانع بنت الجمعية حيًّا خاصًّا بالعمال الرجال، وبنك إقراض للأموال بفائدة معتمدة خاص بالمستوطنين اليهود، ومدارس لتعليم الفتيات فنّ الحياكة وصناعة الدانتيل وشبكات الشعر، وهي الصناعات النسيجية الأكثر رواجًا آنذاك.
تأثير عائلة روتشيلد الممتد
رغم وضوح الخطوات ووحدة الهدف مع الحركة الصهيونية، إلا أن السنوات اللاحقة لجمعية الاستعمار اليهودي مثّلت النشاط الأعظم لها، تأتّى ذلك بالأرضية الاستعمارية التي وفرتها لها مستعمرات روتشيلد القائمة أصلًا في فلسطين، حيث أنشأت لها الجمعية صندوقًا خاصًّا برأسمال مقداره 15 مليون فرنك فرنسي.
وسعى روتشيلد حثيثًا على تشجيع هجرة واستيطان يهود العالم في فلسطين، ومساعدتهم على تجاوز التردد أو الخوف في قراراتهم، مؤسسًا لهم أرضية استعمارية تضمن أريحية في الهجرة، وتعينهم على البقاء والتطور.
فمع نهاية عام 1900 كانت الجمعية قد استطاعت شراء أراض وبناء مستعمرات في أفضل المواقع الجغرافية في فلسطين، وأقلها اكتظاظًا بالعرب، وأقربها إلى المياه وخطوط المواصلات، فظهرت المستعمرات في كل من منطقة الجليل الشرقي، وبحيرة طبريا وما حولها، كما موّلت الجمعية الخبراء الزراعيين وفرق الطلائعيين الذين رسموا طبوغرافية المستوطنات بما يتناسب مع أهداف الأمن والتوسع.
وعلى طول شمال فلسطين والجليل الأعلى، انتشرت مستعمرات الجمعية التي عُرفت بمستعمرات “روتشيلد”، وحملت بعضها أسماء مرتبطة بأفراد عائلته مثل مستوطنة “زخرون يعقوب” على اسم والده يعقوب جيمس، ومستوطنة “مزكيرت باتيا” على اسم والدته باتيا بتي، و”جفعات عادا” على اسم زوجته عادا ادلييد.
إلى جانب الاستيطان، عملت جمعية الاستعمار بدفع من رؤية روتشيلد نفسه على تعزيز الصناعة اليهودية، فأنشأت مصانع الخمر والنسيج والمواد الغذائية، ومصانع زراعية وأخرى حيوية، تضمن للوجود اليهودي في فلسطين الاكتفاء الذاتي عن محيطه العربي وعن التبعية للقنصليات والرعاة الغربيين.
تذكر الأدبيات الصهيونية أن طبيعة عمل الجمعية الاستعمارية اليهودية لم تكن مقبولةً بشكل كامل من قبل الصهاينة، بل إن عملها “المدني” تعرّض لهجوم مستمر، ووُصفت بأنها غير كفؤة وتهدر الأموال ولديها فائض من الأهداف المتنوعة.
رغم ذلك واصلت الجمعية عملها، وحرصت على الاستفادة من الفرص السياسية لصالحها، حيث وجد ريتشموند ظروف ما بعد الحرب العالمية الأولى مواتية لتعزيز عمل الجمعية وتوسيع نطاقها، فقاد المرحلة الحاسمة من عمر جمعية الاستعمار اليهودي عام 1924، بعد 4 سنوات من الانتداب البريطاني لفلسطين، والمساهمة الخيرية الواسعة التي قدمتها عائلة روتشيلد عسكريًا وماليًا للانتداب، وبعد 7 سنوات من وعد بلفور الذي كان لعائلة روتشيلد مساهمة أساسية في صدوره.
حينها أعلن البارون إدموند جيمس دي روتشيلد حق الملكية اليهودية في مستعمراته بالقدس، وحوّل اسم جمعية الاستعمار اليهودي إلى جمعية الاستعمار اليهودية الفلسطينية (Palestine Jewish Colonization Association)، تأكيدًا على تركز جميع الجهود الاستيطانية اليهودية في فلسطين.
وافتتح أول فرع لها في القدس، بتنسيق مع المنظمة الصهيونية العالمية، وبإشراف ابنه جيمس أرماند دي روتشيلد، لتمثل أقوى جسم تنظيمي يدير الأراضي والكيبوتسات والموتشاف في فلسطين لصالح استمرار الاستيطان اليهودي.
في عام 1929، كانت جهود الجمعية وإنجازاتها قد فاقت جميع المؤسسات اليهودية الاستعمارية نجاحًا، لا سيما دورها في تخفيف آثار ثورة البراق على المستوطنين اليهود من خلال تعويضهم وإصلاح المستعمرات المتضررة، وتأسيسها لصندوق طوارئ خاص، وهو ما دفع المنظمة الصهيونية لمنح روتشيلد منصب المدير العام الفخري للوكالة اليهودية.
خلال فترة ما قبل النكبة، استطاعت لجنة الاستعمار اليهودية الفلسطينية تمكين المستوطنين اليهود داخل فلسطين، فساهمت في تطوير الزراعة باعتبارها المفهوم الأساسي في ربط المستوطن بالأرض المسلوبة، حيث دعمت الجمعية الأبحاث الزراعية في الجامعة العبرية ومعهد وايزمن للعلوم.
كما أنشأت سلسلة مدارس للتدريب الزراعي حملت اسم “مدارس مكابي إسرائيل الزراعية”، وعملت على تجفيف المستنقعات في منطقة الخضيرة، وقدمت لقاحات للمزارعين اليهود لحمايتهم من وباء الملاريا الذي اتسع انتشاره حينها.
أما على صعيد دعم الهجرة والاستيطان، فقد موّلت أعمال جمعيتَي “هياس” و”جوينت” اليهوديتين الأمريكيتين اللتين تتوليان تقديم المساعدات لليهود الرافضين الهجرة إلى فلسطين، وأنشأت مجموعة جديدة من المستوطنات منها سجرا وكفار تابور ويفيئيل وبيت غان وماتسبيه كنيرت وكفار جلعادي وتل حيي وايليت هاشاحر ومحاليم وبنيامينا وبني براك ومجدئيل ورمتايم وهرتسليا وكفار حانيم وبرديس حنا وتل موند وناتانيا وهدار.
على الصعيد الاقتصادي، أطلقت حملة بناء صناعي كبرى، تمثلت في إنشاء منطقة صناعية في ريتشون ليتسيون تختص بصناعة النبيذ والخمور، وأول مصنع كهرباء في المنطقة، ومصنع اسمنت نيشر، ومصنع إنتاج وتعبئة الملح عتليت، ومصانع المطاحن الكبيرة في حيفا لتخزين الحبوب وطحنها وتعبئتها.
بعد النكبة
في ظل ارتفاع زخم الحرب والمناوشات ما بين عامي 1947-1948 انخفض نشاط الجمعية الاستعمارية اليهودية الفلسطينية، واكتفت بتدعيم وإسناد المستعمرات، وتعزيز بقائها وقوتها مقابل هجمات الفدائيين الفلسطينيين، لكن مع نهاية الحرب انطلقت من جديد في دعم مشاريع التعليم والزراعة والسياحة، خاصة في منطقتي شمال الجليل وجنوب النقب، فأكملت مشروع تجفيف مستنقع الحولة، واستخدمت مياهه في تروية المستعمرات في منطقة النقب.
كما تداخلت مشاريعها مع الصندوق القومي اليهودي، فأطلقت معه مشروع الناقل القطري، وبنت آبار المياه وطوربيدات الكهرباء، وأسّست عددًا من المستوطنات من بينها كفار واربورغ، ولاحقًا نير بانيم، وسيده موشيه، وكفار ميمون، ولاكيش.
في عام 1955، وفي خضمّ التحولات الشكلية والمحو المتسارع للوجود والتاريخ الفلسطيني، أُعيد تسمية الجمعية الاستعمارية اليهودية الفلسطينية لـ”الجمعية الإسرائيلية الاستعمارية”، ورغم انفصال عملها عن الوكالة اليهودية منذ عام 1933، إلا أنها شاركت في مشروع تأسيس 50 مستوطنة مهاجرة في منطقة الجليل الأعلى، وتصدّر اسمها قائمة المؤسسات اليهودية المساهمة في مشروع “تطوير الجليل”.
المنعطف الأخير في تاريخ جمعية الاستعمار كان عام 1957، حين قرر جيمس دي روتشيلد قبل وفاته بفترة وجيزة نقل جميع أملاك ومشاريع جمعية الاستعمار اليهودية إلى ملكية الصندوق القومي اليهودي، بهدف تخصيص 1.25 مليون جنيه إسترليني لبناء مبنى الكنيست في القدس.
رغم انتهاء عمل الجمعية “المفترض” مع رحيل روتشيلد، إلا أنه عاد بأنماط مختلفة، من خلال تأدية أدوارها الاستيطانية بالخفاء في الدول العربية، واستمرار شراء الأراضي والممتلكات فيها بأسماء وهمية أو مستعارة، حيث عملت الجمعية خلال فترة الستينيات على تأسيس مرافق للرهن العقاري في دول شمال أفريقيا.
كما شمل عملها تأسيس مركز تدريب زراعي في المغرب، وتأسيس شركة الزراعة للإسرائيليين المغاربة، وفي كينيا قدمت قروضًا زراعية، وفي أوروبا الشرقية وأستراليا وكندا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا قدمت مساعدات مالية، وأنشأت مؤسسات تعليمية وثقافية.
يأتي ذلك في الوقت الذي قامت فيه منظمات يهودية حول العالم مثل؛ المؤتمر اليهودي العالمي (WJC)، منظمة “ووجاك” (WOJAC)، المنظمة العالمية لليهود المولودين في الأقطار العربية، منظمة العدالة ليهود البلاد العربية (JJAC)، ومنظمة يهود بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (JIMENA)، بالادّعاء بوجود ممتلكات يهودية في الأراضي والدول العربية يجب استعادتها أو تحصيل تعويضات عنها.
شهدت مزاعمهم آذانًا صاغية في مرّات مختلفة، فبعد الحرب العالمية الأولى تقدمت جمعية الاستعمار اليهودية بطلب إلى الملك فيصل بإعادة الأراضي التي حصلت عليها الدولة العثمانية خلال الحرب إلى ملكية الشركة، وهو ما وافق عليه.
كما قدمت وثائق لقادة عرب عن إقدام اللجنة على شراء أراض من عملاء محليين في لبنان، من بينها إمل فرانك الذي استطاع شراء ما يقارب 100 ألف دونم، في قرى سحم الجولان وجبلين ونبعة وبوسطاس من المزارعين العرب، مطالبة بتعويضات تتجاوز 1.4 مليار دولار في سوريا وحدها.
الشاهد على كل ما سبق، أن مطامع الاحتلال ليست مقتصرة على فلسطين، وأن أدواته ليست مقتصرة على الصندوق القومي أو جمعية الاستعمار، وأن سعيه للتوسع ملازم له في الحرب والسلم، بالاستيلاء والاحتيال، ولهذا فإن جهود مقارعته يجب أن تكون منوعة كتنوع أدواته، واسعة كاتّساع مطامعه، واعية كإدراكه لمقدراته، ومصمّمة على فنائه كتصميمه على البقاء، وأكثر.