لن يستطيع محلل سياسي أو مركز بحثي مهما بلغ من الدقة والعمق أن يحلل اتجاهات السياسة الخارجية للحكومة السودانية أو يحدد مواقفها، فهي متقلبة وليس لديها ثوابت أو ركائز حقيقية تستند إليها، قد يقول قائل إن مصالح الدول تتطلب السير في الطرقات الوعرة بمهارة وأن زمن المبادئ قد ولّى، فيما يرى آخرون أن تقلٌّب المواقف سلاحٌ ذو حدين قد يجعل الدولة تفقد كل الأطراف التي تسعى لمجاملتها وبالتالي لا يعول عليها أحد ولا يبني معها علاقة إستراتيجية.
تصريح غير مسبوق
ما يدل على تغيُّر بوصلة السياسة السودانية تصريحات وزير الخارجية الدرديري محمد أحمد غير المسبوقة التي أدلى بها لقناة فرانس 24 ووصف فيها الإجراءات المتخذة من السعودية والإمارات والبحرين ومصر، إزاء قطر بـ”الحصار”، متمنيًا انتهاءها بسرعة، وردًا على سؤالٍ لمذيع القناة عن موقف السودان من الأزمة الخليجية، قال الوزير السوداني، إن بلاده تقف على ذات المسافة من قطر والدول التي تفرض عليها الحصار.
سأله مذيع فرانس 24 وسيم الأحمر قائلًا: “تعتبره حصارًا؟”، فأجاب الدرديري: “بالتأكيد هو حصار، هكذا يسميه القانون الدولي، فعندما تمنع الطيران وتمنع البواخر وتمنع الوصول البري إلى منطقة فهذا يسمى حصارًا وفقًا للقانون الدولي”.
في أحيانٍ عديدة تُوجّه انتقادات للوزراء والمسؤولين السودانيين لعدم تنسيقهم بشأن التصريحات التي يدلون بها لوسائل الإعلام مع قيادة الدولة
الجديد كذلك في إفادات وزير خارجية السودان للقناة الفرنسية أنه أدلى بتصريحٍ دبلوماسيّ موزون فيما يتعلق بموقف بلاده من قضية اغتيال الصحفي السعودي خاشقجي فلم يستجب لمحاولات محاوره انتزاع موقف محدد منه بشأن دعم السودان للسعودية أو تركيا في القضية، حيث تمسّك الدرديري بدعوة الطرفين إلى التعاون المشترك وحل الأزمة بطريقة دبلوماسية وبذلك يكون وزير الخارجية السوداني قد محا ما جاء في البيان الأول لوزارته الذي وُصف بأنه يحمل بعض التحيز والدعم للرياض.
عند العودة لتصريح الدرديري بشأن الأزمة الخليجية، نجد أن قطر تستخدم مصطلح حصار لوصف ما جرى لها منذ يونيو/حزيران 2017 وكذلك تستخدم مقابله باللغة الإنجليزية “blockade” عدة وسائل إعلام عالمية، بينما تصر وسائل الإعلام التابعة للدول الأربعة على أنه “مقاطعة” وليس حصارًا، لكن الجديد فيما يتعلق بموقف الخرطوم أنها المرة الأولى التي يصف بها مسؤول سوداني رفيع كوزير الخارجية هذا التعبير الذي من الواضح أنه قصده تمامًا ولا أدل على ذلك من تكراره للمصطلح عندما استفسر مذيع فرانس 24 في خطوةٍ على ما يبدو لمنح الرجل فرصة للتراجع عن التصريح لكن الوزير أصرّ على وصف ما جرى لقطر بالحصار.
نشير إلى أن وزير خارجية السودان الدرديري محمد أحمد مصنف كخبير في القانون الدولي حيث إنه حاصل على درجة الدكتوراه في التخصص من جامعة ليستر البريطانية، كما نال درجة الماجستير في القانون الدولي الخاص بحقوق الإنسان من جامعة أكسفورد ولديه اهتمامات بحثية في القانون الدولي وقانون حقوق الإنسان والقانون الجنائي الدولي، ورغم ذلك لم يكن ليصرح بما قاله عن الأزمة الخليجية دون ضوء أخضر من القيادة العليا للدولة أو على الأقل يعلم بأن ما ذكره يوافق المزاج العام للرئيس البشير والحزب الحاكم.
المحلل السياسي السوداني وليد دليل يفسر تصريحات وزير الخارجية الدرديري الجديدة بأنها جاءت لعدم تجاوب الحكومة السعودية مع زيارات البشير المتعددة إلى الرياض وتضحياته بالمشاركة في حرب اليمن رغم المعارضة الشعبية
في أحيانٍ عديدة تُوجّه انتقادات للوزراء والمسؤولين السودانيين لعدم تنسيقهم بشأن التصريحات التي يدلون بها لوسائل الإعلام مع قيادة الدولة، إذ كثيرًا ما تتقاطع أقوالهم مع توجهات الحكومة، ولكن من المؤكد أن هذا لا ينطبق قطعًا على وزير الخارجية الدرديري محمد أحمد فهو دبلوماسي ذو خبرة طويلة، فضلًا عن أنه على تواصلٍ دائمٍ مع الرئيس عمر البشير خاصةً أن حديث الأول للقناة الفرنسية جاء ضمن جولةٍ أوروبية يقوم بها حاليًّا ومما لا شك فيه أنه يبلغ البشير أول بأول بنتائج جولته ولذلك من المستبعد أن تكون تصريحاته جاءت عفوية أو بسبب زلة لسان.
الخرطوم يئست من دعم السعودية والإمارات.. والبديل التركي موجود
المحلل السياسي السوداني وليد دليل يفسر تصريحات وزير الخارجية الدرديري الجديدة بأنها جاءت لعدم تجاوب الحكومة السعودية مع زيارات البشير المتعددة إلى الرياض وتضحياته بالمشاركة في حرب اليمن رغم المعارضة الشعبية فضلًا عن عدم إدراج السودان ضمن الجولة العربية لولي العهد السعودي، ويربط دليل في حديثه الخاص لـ”نون بوست” تصريح رئيس الدبلوماسية السودانية بالزيارات المتعددة للوفود التركية في الآونة الأخيرة إذ وصل الخرطوم الأسبوع الماضي نائب رئيس تركيا فؤاد أوقتاي وقبله وزير الدفاع خلوصي أكار ثم أخيرًا نائب وزير التعليم أورهان أرديم.
ويؤكد وليد دليل الذي يدير مجموعة سائحون الشهيرة على موقع فيسبوك أن الحكومة السودانية أرادت إبلاغ السعودية والإمارات من استقبالها للوفود التركية وتخطيط الرئيس البشير لزيارة أنقرة الشهر المقبل بأن هناك حليفين قويين في المنطقة هما تركيا وقطر، واختتم دليل بقوله “هل ستفهم القيادة السعودية هذه الرسالة وتغير تجاهلها للسودان”؟
واتفق مع وجهة نظر وليد دليل، رئيس القسم السياسي بإحدى الصحف السودانية الكبرى “فضّل عدم ذكر اسمه”، الذي أشار في حديثٍ لنون بوست إلى وجود تغير واضح في لهجة الإعلام الإماراتي تجاه الحكومة السودانية خلال الـ5 أشهر الأخيرة رغم استضافة أبو ظبي لمباراة الهلال والمريخ مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ.
من الواضح أن حكومة السودان تعول في الوقت الراهن على بناء روابط اقتصادية متينة مع تركيا وربما يئست فعليًا من الحلف السعودي الإماراتي
وفيما يتعلق بالموقف السعودي من حكومة السودان يلفت محدثنا إلى أن الأخيرة يئست تمامًا من الرياض خاصة مع وجود مؤشرات على انتهاء حرب اليمن بحلٍّ سياسي وبالتالي استشعرت الخرطوم عدم حاجة المملكة للقوات السودانية المقاتلة في اليمن، وزاد الصحفي المهتم بالشأن الخليجي، أن القضية الأساسية التي أثارت غضب الحكومة السودانية تجاه حليفتيها “الرياض وأبو ظبي” إحجامهما عن مساعدة السودان في الأزمة الاقتصادية الأخيرة وخاصة فيما يتعلق بأزمة انعدام الوقود فكان من السهل على السعودية والإمارات أن ترسلا بواخر وقود – على الأقل ـ إلى ميناء بورتسودان القريب من موانئ الدولتين النفطيتين.
استثمارات تركية زراعية ومعدنية في السودان
من الواضح أن حكومة السودان تعول في الوقت الراهن على بناء روابط اقتصادية متينة مع تركيا وربما يئست فعليًا من الحلف السعودي الإماراتي كما ذكر المحللان لـ”نون بوست”، وإذا تتبعنا زيارات الوفود الرسمية بين الخرطوم وأنقرة نجد أنها نشطت كثيرًا في الآونة الأخيرة فخلال عام واحد زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان السودان يرافقه 200 من رجال الأعمال، والبشير زار تركيا مرتين إلى جانب زيارات عدد من الوزراء والمسؤولين من الجانبين.
وتأكيدًا لما ذكرناه بالأعلى، قال وزير الزراعة والغابات التركي بكر باكدميرلي، في تصريحات جديدة إنهم يخططون لفتح الأراضي الزراعية التي جرى استئجارها في السودان لمدة 99 عامًا أمام رجال الأعمال الأتراك اعتبارًا من العام القادم 2019، وأوضح باكدميرلي أن المشاريع ستجري على مبدأ “رابح – رابح” لكلا البلدين، مشيدًا بأهمية افتتاح مكتب في الخرطوم للشركة الدولية التي جرى تأسيسها بالتعاون مع السودان من أجل بدء الاستثمار في قطاع الزراعة هناك.
كما وقّعت حكومة السودان اتفاقية أخرى حديثة مع المديرية العامة للبحوث والتنقيب عن المعادن التركية، تسمح للأخيرة بالتنقيب عن الذهب ومعادن أخرى في ولاية البحر الأحمر بشرق البلاد، وأوضح وزير الدولة بوزارة النفط السودانية عوض النيل ضحية، الخميس الماضي، أن الاتفاقية بين الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية التابعة لوزارة النفط، وهيئة الأبحاث الجيولوجية التركية، تتيح منطقتين “مربعتين” للتنقيب في ولاية البحر الأحمر.
قطر التي ساندت حكومة البشير في السراء والضراء طيلة العقود الثلاث الماضية لم تكن راضية تمامًا عن إعلان السودان الحياد عندما تعرّضت للحصار العام الماضي
إذًا هي مشروعات ذات طبيعة إنتاجية تراهن عليها حكومة الخرطوم لتحسين الأوضاع الاقتصادية مستقبلًا، ويمكن قراءة هذه التحولات مع الأخذ في الاعتبار السياسات الجديدة التي أعلنها رئيس الوزراء معتز موسى مؤخرًا وأكّد فيها أن الخطط الجديدة لم تنبنِ على انتظار أي قروض أو مساعدات خارجية في إشارة على ما يبدو على يأس الحكومة من الدعم السعودي والإماراتي وتصريحات الرئيس عمر البشير الأخيرة التي عاد فيها إلى مهاجمة الولايات المتحدة والغرب لا تنفصل كذلك عن عدم انتظار وعود الرياض وأبو ظبي بمساعدته في الخروج من قائمة الإرهاب الأمريكية بعد أن توسطتا برفع العقوبات المفروضة على السودان منذ 20 عامًا وهو ما تم بالفعل العام الماضي ولكن لم يحدث أي تغيير إيجابي في وضع البلد اقتصاديًا بعد رفع العقوبات بل زاد الطين بلة وتواصل تدهور قيمة الجنيه السوداني.
قطر لم تكن راضية عن موقف الخرطوم من الحصار
قطر التي ساندت حكومة البشير في السراء والضراء طيلة العقود الثلاث الماضية لم تكن راضية تمامًا عن إعلان السودان الحياد عندما تعرّضت للحصار العام الماضي، فقد كانت تتوقع موقفًا أكثر صلابة من الخرطوم ودعوة صريحة لوقف الإجراءات التعسفية التي اتخذتها ضدها الدول الأربعة، صحيح أن عمر البشير حافظ على الحياد رغم الضغوط التي مورست عليه لكنه كررّ زياراته إلى أبو ظبي والرياض في العام الأول من الأزمة الخليجية بينما لم يصل قطر منذ ذلك الحين إلا مرة واحدة قبل عام ولم تكن زيارته تضامنية ولم يدعُ فيها إلى رفع الحصار عن قطر بل كانت لأجل جهود إعمار السودان بحسب ما ذكرت وكالة الأنباء السودانية الرسمية “سونا” ولعل هذا ما فسّر عدم الرضا القطري رغمًا عن حرص الأخيرة على الاحتفاظ بالعلاقات الودية مع الخرطوم.
ربما تكون تصريحات وزير الخارجية الدرديري الأخيرة جاءت بغرض تصحيح الموقف السوداني بعد التقارب الشديد بين السودان وتركيا إلى جانب اتجاه الحكومة السودانية نحو تعزيز العلاقات مع الدوحة، فتصريح الدرديري غير المسبوق لقناة فرانس 24 وجد اهتمامًا إعلاميًا واسعًا ومن الواضح تمامًا أنه رسالة مغازلة إلى قطر، فهل ستلتقطها الدوحة؟