لم يكن للسياسيين الكرد على اختلاف أحزابهم من بدٍ إلا التفاعل إيجابيًا مع ما ذهب إليه زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، في إجراء استفتاء انفصال كردستان عن العراق، ذلك لأن الاستقلال كان حلم الغالبية من الشعب الكردي، وأي سياسي يقف أمام تحقيق هذا الحلم كان سيغامر بمستقبله السياسي لا محالة، حتى لو كان مدركًا مسبقًا أن تحقيق هذا الحلم ضربٌ من الخيال وفق المعطيات الحاليّة.
هذه الحقيقة تنطبق أيضًا على السياسي الكردي برهم صالح الذي أصبح رئيسًا للجمهورية العراقية مؤخرًا، ففي يوم الاستفتاء وضع صالح ورقته التي أشّر فيها على “نعم” للانفصال في صندوق الاقتراع وهو يقول: “لأجل شهداء القصف الكيماوي لحلبجة، لأجل باليسان وبادينان، لأجل مناضلي استقلال كردستان، لأجل أجدادنا الراقدين على حلم كردستان مستقلة أدلي بصوتي بنعم”.
لكن بعد أن رأى الساسة الكرد النتائج الكارثية لخطوة إجراء الاستفتاء من حصار سياسي واقتصادي للإقليم، وخروج الشعب الكردي في تظاهرات على المنظومة السياسية الكردية، أدرك السياسيون الكرد جميعًا أنه لا بد من الرجوع خطوة إلى الوراء، والتعامل بشكل واقعي مع حكومة بغداد انتظارًا لفرصة أخرى قد تكون أكثر ملاءمة لإعلان الاستقلال، عدا مسعود البارزاني الذي استقال من منصبه وسلم صلاحياته للآخرين، لكنه ظل متمسكًا بصحة ما أقدم عليه، هذا ما قاله صراحةً في لقاء خاص له على قناة “الجزيرة”.
إذا نجح عادل عبد المهدي في استكمال وزارته، فستكون المرة الأولى التي تُشكل حكومة عراقية بعد الاحتلال الأمريكي، بعيدة عن حزب الدعوة
وحينما وصلت البلاد إلى الاستحقاقات الانتخابية وضرورة ترشيح سياسي كردي لمنصب رئاسة الجمهورية كما هو معمول به عُرفًا، أصر مسعود البارزاني على أن يكون هذا المرشح من حزبه، على غير ما جرت عليه العادة من أن يكون المنصب من حصة حزب الاتحاد الكردستاني، بيد أن الأحزاب الشيعية ومن خلفها إيران كان لها رأي آخر، فمن المستحيل أن توافق على مرشح ينتمي لحزب قام بشق عصا الطاعة الإيرانية وأجرى استفتاءً على الانفصال بغير ما ترغب، وكان الخيار الأفضل لهم هو مرشح حزب الاتحاد الوطني الكردستاني المقرب من إيران، هكذا جاء برهم صالح ليكون رئيسًا للعراق رغم أنه كان هو الآخر داعيًا لانفصال كردستان عن البلد الذي يترأسه الآن.
وعلى هذا، هل يشكل برهم صالح خطرًا على وحدة العراق؟ يبدو أن هذا الاحتمال بعيد وغير واقعي في الوقت الحاليّ، في ظل السيطرة شبه المطلقة للأحزاب الشيعية على نظام الحكم في العراق، إضافةً لقوة النفوذ الإيراني فيه، كما أن ضعف صلاحيات رئيس الجمهورية تجعله لا يشكل تهديدًا جديًا على وحدة العراق، فهو منصب شرفي وبروتوكولي ليس إلا.
لكن هذا لا يمنع أن يعمل الرجل على تأسيس أسباب وشروط الاستقلال القادم لكردستان عن العراق، لذلك لم ينتظر برهم صالح اكتمال وزارة عادل عبد المهدي وانطلق فور تنصيبه رئيسًا لجمهورية العراق بنشاطه الخارجي، متجاوزًا بتحركاته تلك رئيس الوزراء ووزير الخارجية، ليتحرك خارجيًا نيابة عنهم، فبعد جولته التي شملت دولًا خليجية إضافة إلى إيران والأردن، بدأت تنهال عليه الدعوات من زعماء العالم لزيارة بلدانهم، لم تكن آخرها دعوة الرئيس الروسي بوتين له لزيارة روسيا.
بالمقابل، إذا نجح عادل عبد المهدي في استكمال وزارته، فستكون المرة الأولى التي تُشكل حكومة عراقية بعد الاحتلال الأمريكي، بعيدة عن حزب الدعوة، هذا إذا استثنينا الحكومة المؤقتة التي شُكلت بقيادة إياد علاوي ولم تستمر سوى أقل من سنة، وربما ستكون هذه الانتقالة بمثابة إعلان لنهاية عهد هذا الحزب باستلام السلطة مرة أخرى.
العقم السياسي الذي دخلته العملية السياسية بعد الانتخابات الأخيرة، ولّد الرغبة في الكتل السياسية الشيعية، للتوافق على شخصية مقربة من الجميع وبنفس الوقت غير محسوبة على أي تكتل سياسي حاليّ
فيما يمكننا القول إن الإدارة السيئة لهذا الحزب لأمور البلاد طيلة الفترة التي قاد فيها الحكومة العراقية، انعكس داخليًا ليشهد حالة تشظي داخل الحزب، أسفرت عن ظهور جناحين: أحدهما بقيادة المالكي والآخر بقيادة العبادي، ورغم أن هذا الانقسام (غير المعلن) لحزب الدعوة ليس الأول من نوعه، حيث شهد انقسامات حقيقية منذ تأسيسه إلى عدة أحزاب تحمل أسماءً مختلفة، لكن الانقسام الأخير من غير المرجح أن يستمر لمدى أطول من ذلك، لأن الجناح الذي يقوده العبادي ربما ينتهي بالتفكك لا سيما بعد خسارته بولاية ثانية، وسينفض عنه اتباعه ويعودون للحزب الأم مرة أخرى، لكن إذا فشل عبد المهدي في الحفاظ على وزارته وأُسقطت حكومته، ربما ينعش ذلك آمال العبادي ليتم ترشيحه مرة أخرى لرئاسة الوزراء.
شخصية عادل عبد المهدي والحفاظ على وحدة البلد
عادل عبد المهدي، الرجل السبعيني، منذ نشأته وحتى الآن، وهذا الرجل ذو شخصية متذبذبة غير مستقرة؛ فقد أبدى في مقتبل شبابه تأثرًا واضحًا بالأفكار القومية وانخرط بصفوف حزب البعث، ولم يلبث أن تركه وناصبه العداء ليسافر إلى فرنسا، وهناك تأثر بشكل كبير بالأفكار الشيوعية وبالجناح الماوي منها تحديدًا، وبعد وصول الخميني للحكم بإيران، وجد عبد المهدي نفسه منخرطًا في صفوف حزب “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية” بقيادة باقر محسن الحكيم الذي تم تأسيسه في إيران وبرعاية منها ليشاركها في القتال ضد نظام صدام حسين في العراق.
بعد احتلال العراق جاء مع بقية السياسيين المعارضين ليساهموا في تشكيل السلطة السياسية الجديدة في العراق وبرعاية أمريكية، وتسلم حينها عدة مناصب، بدءًا من مجلس الحكم ثم وزارة المالية والنفط ثم نائبًا لرئيس الجمهورية، واستقال من جميع تلك المناصب، كما ترك صفوف حزب “المجلس الأعلى” ليعتزل السياسة ويتفرغ لكتابة المقالات.
إلا أن العقم السياسي الذي دخلته العملية السياسية بعد الانتخابات الأخيرة، ولّد الرغبة في الكتل السياسية الشيعية، للتوافق على شخصية مقربة من الجميع وبنفس الوقت غير محسوبة على أي تكتل سياسي حاليّ، وبالتأكيد يجب أن يكون لها ولاء مذهبي ومقرب من إيران، لم تنطبق تلك المواصفات سوى على شخصية عادل عبد المهدي، فاختاروه رئيسًا توافقيًا لرئاسة الوزراء.
يُرجَّح أن تستمر حكومة عادل عبد المهدي، ورئاسة برهم صالح على سياسة أسلافهم بالحكومات السابقة، وسيستمر الدعم الإيراني لهما
وراهن كثير من المراقبين على عبد المهدي بأنه سيكون بعيدًا عن التأثير الإيراني نظرًا لاستقلاليته حسب ما يدَّعون، وعدم انتمائه حاليًّا لأي حزب من الأحزاب ذات الهوى الإيراني، وذهب البعض بعيدًا ليؤكد أن ميول عبد المهدي القومية ستجعله بعيدًا عن إيران، لكن تأثر هذا الرجل بالأفكار القومية وهو شاب، من المستبعد أن تكون حائلًا بينه وبين التقارب مع إيران، أو الابتعاد تدريجيًا عن النظام الإيراني حسبما يتوهم البعض، ذلك لأننا لو استعرضنا بعضًا من المقالات التي كتبها منذ اعتزاله السياسة حتى الآن، لأدركنا أنه ما زال شديد الولاء للفكر السياسي الشيعي الذي يعتبر إيران نموذجًا ناجحًا يحتذى به للدولة الإسلامية المنشودة.
وحتى لو افترضنا جدلًا أن للرجل ميولًا عربية قومية، وأنه يريد الابتعاد تدريجيًا عن إيران، فإن هذا الأمر لا يمكن تطبيقه عمليًا في ظل سيطرة الأحزاب الموالية لإيران ووجود المليشيات التي شكلتها ورعتها، فبالإمكان إسقاط حكومته بشكل سريع إذا حاول القيام بذلك.
إلى أين يسير الرجلان؟
ومن هذا كله يُرجَّح أن تستمر حكومة عادل عبد المهدي، ورئاسة برهم صالح على سياسة أسلافهم بالحكومات السابقة، وسيستمر الدعم الإيراني لهما، والإبقاء على العراق ككتلة موحدة وطيعة لإيران، لكن تغير الوجوه مطلوب في كل مرحلة، أما ما يخص طموحات الكرد بالاستقلال فإن قادتهم السياسيين أدركوا جيدًا أن الوقت مبكر للقيام بذلك، وهم بحاجة للوقت لكي تتوافر الإرادة الدولية للسماح بذلك، وفي هذه الأثناء فسيعملون على تعزيز بناء البنية التحتية لتلك الدولة المنشودة، بدءًا من تعميق العلاقات السياسية الخارجية، وبناء المؤسسات اللازمة والكفيلة لتسهيل عملية الانفصال.