بعد نجاح فيلمه الأول “نحبك هادي” وتتويجه بجائزتين في برلين سنة 2016، يعود المخرج التونسي محمد عطية بشريط جديد بعنوان “ولدي”، ظاهره مغامرة جديدة في فكرة الإرهاب التي لا تنفك تلوكها العدسات، وباطنه مواصلة في مشروع فيلمه الأول.
ليس في بدايات الفيلم ما يشير إلى الظاهر، فطوال أربعين دقيقة، نتابع حياة عائلة تونسية من الطبقة الوسطى، الأم أستاذة والأب عامل نقل في الميناء، والابن على مشارف امتحان الباكالوريا، أربعون دقيقةً من تفاصيل الحياة التونسية المفرطة في تونسيتها، ليست تونسية الجبة والشاشية والملية والهريسة وموسيقى المزود والخمسة على الباب، بل هي تونسية فعلية، واقعية، تونسية أكوام الملابس المستعملة “الفريب” Fripes، وتونسية المغازات والدفع ببطاقات المطاعم، وموسيقى الإلكترو في الحفلات الشبابية الصاخبة، وخرافات الفيسبوك التي قد تنطلي علينا.
لقد تخلت السينما التونسية بعد الثورة خصوصًا عن إدمانها للمدينة العتيقة، وخرجت بعفوية تبحث عن التونسي خارجها، لكن محمد عطية يفعل ذلك عن سبق الإصرار والترصد، ويحاول أن يؤسس صورةً سينمائية جديدةً لتونس وللحياة التونسية، صورةً أكثر حميميةً وأكثر قربًا من المشاهد التونسي إذ يرى فيها بيئته.
ولا يخرج المستوى الدرامي عن هذا التوجه، في النصف الأول على الأقل، إذ يجد المرء نفسه منذ المشهد الأول في صلب الموضوع: الامتحانات تقترب والولد على غير ما يرام، هل هو الضغط العصبي؟ هل هو الإرهاق؟ هل هي حالة اكتئاب؟ أم مرض الشقيقة؟ تحار الأم ويغتم الأب ولا يملك الولد إجابةً، لكن محمد بن عطية يركز أكثر على الأب رياض، الذي أدى دوره الممثل محمد الظريف فأبدع، دون مبالغات درامية، أجزل في الكرم التعبيري، عبر قسمات وجهه، وتفاعله مع الكلمات البسيطة التي جاد بها الحوار، ولا شك أن رياض ليس أبًا مثل كل الآباء، وليس أبًا استثنائيا كذلك، فهو يمثل جزءًا كبيرًا من أبناء جيله ممن تسنى لهم تكوين عائلة صغيرة، ولم يعد لهم في العالم من طموح غير نجاح أبنائهم الدراسي وتمتعهم بمرحلة الصبا والشباب، لذلك، أيا بدت المبالغات في سلوك الرجل إزاء مشكلة ابنه الغامضة، فهي لا تخرج عن الطبيعي والمتوقع من شخص مثله، إنني أعرف جيدًا هذا النوع من الآباء، فحين يقول “ولدي كل شيء في حياتي” فهو لا يمارس تمرينًا بلاغيًا بقدر ما يقول حقيقةً خالية من المجاز.
تغيب الأم أحيانًا بسبب عملها بعيدًا عن العاصمة، ولكن الأب لا يغيب، ورغم عمله المتطلب، فالأب حاضر في المشاهد حيثما كان ابنه تقريبًا، أمام المدرسة، وقت العشاء، في أثناء الرياضة، في المغازة، أو عند الخروج من حفل صاخب، كما أنه يبدي كل أنواع التودد والتضامن والتفهم تجاهه، مع ذلك، يبقى الفتى ذلك الحاضر الغائب، ولا نعرف إن كان حضوره الضعيف، بسبب أمر يخفيه، (كما نتبين حين تسلل إلى المدرسة ليبدو للناظر من خارجها، كأنما جاء منها) أو هو بسبب ضعف أداء الممثل زكرياء بن عياد، وإن لم يكن دوره يتطلب الكثير، والغالب أنهما معًا.
بوستر الفيلم
المهم أننا خلال هذا القسم الأول الذي يدوم أربعين دقيقةً، نعيش ذلك العادي الذي ينعكس على الشاشة فيصبح غير عادي، ذلك المألوف الذي يصبح مدهشًا، قد يشعر البعض بالملل من هذا القسم، وقد يشعر ـ مثلي ـ بالتوتر مع توتر الأب وحيرته، ذلك أن السياق الطبيعي للقصة يجعل مما يحدث حقيقيًا إلى درجة مستفزة، وفي الوقت ذاته، يمنح ذلك الحدث الاستثنائي الذي سيطرأ، تأثيرًا كبيرًا، هكذا، ومنذ أن كنا نفكر في سبب الصداع، نجد أنفسنا في لجنة التجنيد لداعش، والحرب في سوريا!
كيف ومتى؟ نحاول أن نفهم شيئًا مثلما يحاول الوالد المكلوم، يسأل هنا وهناك، ويستفسر، ورسائل ابنه على الفيسبوك لا تقول بقدر ما يرغب، كيف ومتى؟ سؤالان أهم من إجابتيهما، ذلك أن بنية الفيلم تشكلت من أجلهما: هل يحدث التجنيد في غياب الأبوين، في غياب رعايتهما؟ هل يعكس إهمالاً أم سوء معاملة أم جهلاً؟ وماذا لو لم يعكس أيًا من ذلك؟ ماذا لو حدث وسط إفراط من الحب والحضور؟
وابتداءً من هذه اللحظة، تبدأ رحلة الأب ليفهم، ويتحول الفيلم إلى تنويعة من سينما الطريق Road movie، حيث يعكس سفر الأب إلى تركيا، على أمل الدخول إلى سوريا واسترجاع الضائع، رحلةً مع الذات، ومحاولةً للفهم، لذلك، تنتهي الرحلة حين يعثر على ما يشبه الإجابة.
في هذا القسم، تنقلب الآية، فيصبح غير العادي عاديًا، ويصبح الاستثنائي مألوفًا، ذلك أن قصة هذه العائلة لا تختلف كثيرًا عن عشرات القصص التي نسمع عنها في تونس منذ سنوات، في البرامج التلفزية، وفي الصحف وحين نجلس في المقاهي، لا بد للتونسي اليوم من وجود اسم من الذاكرة قد مارس ذات الغياب، وترك خبره دمعًا وحيرةً، يقول أهله ذات الكلام تقريبًا، شخص مسالم، خلوق، لا يؤذي أحدًا، ولم نسمع عنه تشددًا أو تطرفًا.
فيلم “ولدي” ليس فيلمًا عن فكرة الإرهاب التي حاول تغييبها قدر المستطاع عن الواجهة، بقدر ما هو فيلم عن الشباب التونسي في مواجهة آلة المجتمع المخيفة التي تسمى عائلة
لم يضف “ولدي” كثيرًا إلى هذا الذي نعرفه، وعلى عكس الجزء الأول الذي اهتم بالوصف، بالصورة، بالتفاصيل، كان الجزء الثاني دراميًا بامتياز، اضطر فيه المخرج إلى السرد والمواجهة، فخانته قلة الأحداث، وبساطة الحوار، وضعف الأداء، ولئن أخفى القسم الأول ضعف أداء منى الماجري (في دور الأم)، لقلة ما يتطلبه منها، كان القسم الثاني قاسيًا عليها، وعرى افتقادها للحرفية ولأدوات التمثيل، وضاعف من المحنة الدرامية هزال الحوار في لحظات الذروة، والتعويل على ما يشبه الارتجال في تلك المواقف التي تحتاج إلى الكلمات القوية المدوية، وهي نقطة تتكرر مع محمد بن عطية، إذ حدث الأمر ذاته في “نحبك هادي”.
وحتى عندما عاد إلى الوصف، بمتابعة حياة الأبوين بعد المحنة، ظل تأثير الإخفاق الدرامي متواصلاً، فلا الأم أقنعتنا بأنها خسرت ابنها الوحيد لتوها، ولا حتى الأب أقنعنا، وشعرت بانتقال سريع من الصدمة، إلى عودة الروح من جديد في المشهد الأخير.
لكن المخرج استطاع على كل حال أن يبلغ فكرته الرئيسية في أحد هذه الحوارات، حينما واجه البطل حارس النزل التركي قبيل الرحيل إلى سوريا، يردد رياض ذلك الكلام الذي حفظناه عن كل من ذهبوا إلى داعش : ابني ليس كالآخرين، ابني ليس مجرمًا، ابني صغير، لقد تلاعبوا بعقله، إن رياض يعرف ابنه تمامًا ولهذا يقول هذا الكلام، أو تراه يقول هذا الكلام، لأنه لا يعرفه؟
يجيبه الحارس باقتضاب : ابنك مانه صغير (ليس صغيرًا)، يذكره بما أنجز حينما كان في مثل سن ابنه، ويستفزه بتلك الحقيقة الصادمة: إن الفتى كالآخرين، يحاول أن يشعر بقيمته، بأنه قادر على فعل شيء في هذا العالم بعيدًا عن مساندة الوالدين الخانقة، فهل كان الحضور المفرط علة الغياب؟
هي قراءة ممكنة، وعلى كل حال فالمخرج لا يعممها، ولا يبحث أن يقدم لنا تفسيرًا ينطبق على الجميع، بل لعله من خلال حالة سامي، يؤكد أن كل العوامل المعروفة (الفقر، الجهل، القهر، الظلم، الإهمال، إلخ) قد لا تنجح أحيانًا في تفسير الظاهرة، وأنه أحيانًا يجدر بنا أن نتوقف عن معاملة هؤلاء الفتية على أنهم قصر لا يدرون ما يفعلون، وعلى أنهم لم يملكوا قرارهم بأيديهم، فلربما كانوا برحيلهم يحاربون هذا التفكير نفسه.
ومثل هذا المنطق ليس جديدًا على محمد بن عطية، إذ نجده أيضًا في “نحبك هادي” حيث عائلة الشاب أكثر تسلطًا (من خلال الأم)، وحيث صورة الشاب المقاوم من أجل حريته وحقه في أن يعامل كشخص راشد تبدو أكثر وضوحًا، لذلك، ففيلم “ولدي” ليس فيلمًا عن فكرة الإرهاب التي حاول تغييبها قدر المستطاع عن الواجهة، بقدر ما هو فيلم عن الشباب التونسي في مواجهة آلة المجتمع المخيفة التي تسمى عائلة، وفي مواجهة المعاملة الأبوية المغيبة لشخصيته ولحقه في أن يكون كيانًا مستقلاً ولو في تنظيم إرهابي.