ترجمة وتحرير: نون بوست
على امتداد التاريخ الهندي، كان حكام هذه البلاد يركزون على القوات البرية على حساب القوات البحرية. فقد كانت أراضيهم تواجه تهديدات مستمرة بالغزو من جهة الشمال الغربي، إلى جانب شبح الاقتتال الداخلي. ولكن الغزو الاستعماري الأوروبي للهند عبر البحر مثّل درسا صادما. ولذلك مباشرة بعد تحقيق الاستقلال، ركزت نيودلهي على الحاجة لإنشاء جيش بحري قوي. ولكن الصراع مع باكستان، والتصدعات الداخلية والمناوشات الحدودية مع الصين كلها عمقت الحاجة لبناء قوات برية قادرة على مواجهة هذه التحديات. إلا أن الصين لم تختبر قوة الهند في البر فقط، فهي بصدد إحراز التقدم في المحيط الهندي، ولمواجهة هذا التحدي تعمل الهند على تعزيز قواتها البحرية إلى جانب تحسين تفكيرها الاستراتيجي.
الأهمية المتزايدة للقوة البحرية
رغم أن جيش البر يبقى هو الأولوية القصوى في الهند، فإن جيش البحر بدأ يكتسب أهمية متزايدة، وذلك لعدة أسباب. كانت وفرة الانتاج الزراعي وباقي الموارد في الماضي تعني أن التجارة البحرية هي نشاط تكميلي فحسب وليست ضرورة. في المقابل، باتت التجارة والمعاملات الاقتصادية الهندية الآن مرتبطة بشكل وثيق بفتح الطرق البحرية، إذ أن التجارة الدولية الهندية تعتمد في معظمها على النقل البحري (أكثر من 90 بالمائة من حجم هذه التجارة، وأكثر من 70 بالمائة من حيث القيمة، تمر عبر البحر) وهو ما يظهر الأهمية المطلقة لمسألة ضمان الوصول إلى أعالي البحار.
أصبحت الصين أكثر نشاطا في المحيط الهندي خلال العشرية المنقضية، حيث أنها أرسلت أعدادا متزايدة من السفن الحربية والغواصات إلى هذه المنطقة
إضافة إلى ذلك، فإن الهند تعمل على تحسين قدراتها على استخدام قوة الردع النووي في أوقات الأزمات، وذلك عبر مزيد الاستثمار في القوة النووية البحرية. وفي وقت سابق من هذا الشهر أعلنت الهند أن أول غواصة محلية الصنع مزودة بصواريخ باليستية نووية، وهي من فئة “أريهانت كلاس”، أكملت أول دورية ردع لها في المنطقة. واستكمال هذه الدورية يضع الهند بين مجموعة قليلة من الدول (الولايات المتحدة، فرنسا، المملكة المتحدة وروسيا) التي حققت هذا الأمر. ولكن حتى يحقق هذا الردع النووي الاستراتيجي في البحر أهدافه بشكل جيد، فإن الغواصات المزودة بصواريخ باليستية نووية ليست كافية، ويجب على باقي مكونات جيش البحر تأمين نقاط حيوية حتى تتحرك فيها غواصات “أريهانت كلاس”.
وأخيرا، أصبحت الصين أكثر نشاطا في المحيط الهندي خلال العشرية المنقضية، حيث أنها أرسلت أعدادا متزايدة من السفن الحربية والغواصات إلى هذه المنطقة. كما أنها كسبت حقوق استغلال بعض الموانئ، وطورت علاقات أقوى مع عدد من البلدان في المنطقة، حتى أنها حصلت على موطئ قدم مهم في جيبوتي، الواقعة في القرن الأفريقي. هذه التحركات أجبرت أسطول الهند على تجاوز مهمته الأساسية المتمثلة في احتواء البحرية الباكستانية في بحر العرب، والعمل على مهمة جديدة هدفها فرض هيمنته على المحيط الهندي بمساحته الشاسعة، من أجل التصدي للتوغل الصيني.
هذه الاستراتيجية المتمثلة في توسيع نطاق مهام جيش البحر الهندي كانت متطلبة جدا من حيث الموارد، لأن مهمة جيش البحر أصبحت بسط السيطرة على المياه وليس فقط منع العدو من السيطرة عليها. وبمعنى آخر، فإن الهند تحتاج لتحقيق القدرة على تأمين أسطولها من السفن التجارية وحرية الملاحة في كامل أنحاء المنطقة، وفي نفس الوقت منع وصول أعدائها إلى المحيط الهندي بغرض التجارة. ولتحقيق الهدفين، يجب عليها توفير قوة بحرية كبيرة الحجم لتسيير الدوريات ومجابهة كل الأخطار المحتملة، كما أن هذه المهمة تجعل البحرية في حاجة للسفن والطائرات باهظة الكلفة، التي تتميز بفاعلية كبيرة في تغطية المساحات الشاسعة في المحيط، مثل حاملات الطائرات المزودة بحوامات الهليكوبتر والمقاتلات. وقد امتلكت الهند حاملات الطائرات منذ بداية ستينات القرن الماضي، والمسؤوليات المتزايدة على عاتق جيش البحر الآن تبرز الحاجة لهذه الاستثمارات الضخمة.
طموحات كبيرة وموارد مالية محدودة
المشكلة بالنسبة للهند هي أن طموحاتها العريضة في البحر قد تتجاوز قدراتها على الإنفاق، خاصة على ضوء بقية التحديات الأمنية التي عليها مواجهتها. حيث أن الخلاف مع باكستان على إقليم كشمير وباقي المناطق لا يزال بعيدا عن الحل، وهناك العديد من حركات التمرد التي لا تزال نشطة في بعض أجزاء البلاد، كما أن الصين تعد خصما قويا في البر، وهو ما أظهره الخلاف الذي دار بين البلدين في 2017 حول خط السيطرة الفعلية الفاصل بينهما في أعالي جبال الهيملايا. وهكذا فإن هنالك العديد من المشاغل الأمنية الأخرى التي تمنع إصدار قرار ثوري بإعادة توجيه بعض موارد باقي فروع الجيش الهندي نحو القوة البحرية.
من غير المرجح أن تتمكن الهند من إحداث تغيير حقيقي في مشكلة اعتمادها على توريد المعدات العسكرية من الخارج
وحتى عندما تتم الموافقة على إنجاز مشاريع بتمويلات ضخمة، فإن هذه الأموال لا يتم دائما تأمينها. وعلى سبيل المثال فإن مخططها لتطوير القدرات البحرية على مدى 15 عاما بدأ فعليا يترنح. فقد كان مفترضا أن يتم تخصيص حوالي 8.5 مليار دولار سنويا لهذا المخطط، خلال الفترة بين 2015 و2030، من أجل شراء سفن جديدة والتركيز على التصنيع المحلي للمعدات. ولكن في العام 2017 لم تحصل البحرية الهندية إلا على 3 مليار دولار، و90 بالمائة من هذه الأموال ذهبت نحو عقود تم إبرامها في فترات سابقة، وليس لعمليات الشراء الجديدة. كما أن هدف البحرية الهندية المتمثل في رفع تعداد أسطولها من 140 سفينة حربية إلى 198 بحلول العام 2027 يبدو تحقيقه مستبعدا جدا.
علاوة على ذلك، فإنه من غير المرجح أن تتمكن الهند من إحداث تغيير حقيقي في مشكلة اعتمادها على توريد المعدات العسكرية من الخارج، حيث أن الواردات تمثل حاليا 70 في المائة من تجهيزات قواتها البحرية. وعلى الرغم من هذا النقص في التمويل، فإن البحرية الهندية حققت تقدما ملحوظا في بنائها لأسطول بحري قوي، ونشر عدد معتبر من طائرات المراقبة البحرية، ولكن هنالك بعض النقائص التي تواصل التأثير على قدرات هذا الجيش، حيث أنه يفتقر إلى طائرات الهليكوبتر والغواصات، ومعدلات الحوادث فيه مثيرة للقلق.
التفكير الاستراتيجي
كل هذه القيود والاكراهات تجبر نيودلهي على التفكير بشكل استراتيجي أكثر في مقاربتها في المحيط الهندي. وتسعى الهند بشكل خاص لبناء قوتها في أربعة مجالات أساسية، للاستفادة منها في حماية مصالحها في المنطقة.
أولا، يحب عليها منافسة الصين في الهيمنة في مختلف الدول المطلة على المحيط الهندي، مثل سريلانكا والمالديف وموريشيوس والسيشل، إذ أن تعزيز حضورها في هذه الدول لن يمكنها فقط من حرمان الصين من مجالات حيوية هامة تطل غالبا على طرق حيوية للتجارة البحرية، بل إنه سيمكنها أيضا من زيادة قدراتها على التسويق لمصالحها.
تبحث الهند عن التصدي للأنشطة الصينية في المحيط الهندي من خلال تعزيز نفوذها في الفناء الخلفي للصين، وبشكل خاص في منطقة بحر الصين الجنوبي
ثانيا، تقوم الهند بتطوير بنيتها التحتية العسكرية في البعض من النقاط الاستراتيجية التابعة لها في المحيط الهندي، وبشكل خاص هنالك مجموعتا جزر أندامان ونيكوبار في شرق خليج البنغال. هذه الجزر تمثل نقطة مراقبة استراتيجية للتجارة البحرية المتجهة إلى داخل وخارج مضيق ملقا الاستراتيجي. وانطلاقا من إيمانها بهذه الأهمية، عملت الهند على توسيع مطاراتها العسكرية للسماح بهبوط طائرات المراقبة البحرية الأكبر حجما، كما قامت بإنشاء مستودعات للذخيرة، وتوسيع موانئها العسكرية لاستقبال السفن الحربية الضخمة.
ثالثا، أدركت نيودلهي المنافع الهامة التي ستجنيها من تعزيز التعاون مع الولايات المتحدة في المحيط الهندي. وفي نفس الوقت تبقى الهند حريصة على تجنب أي خطوة قد تجعلها تبدو في تحالف مع الولايات المتحدة ضد الصين. وعلى سبيل المثال، فإنها وقعت اتفاقا للتنسيق الأمني والاتصالي مع واشنطن، وهي خطوة مهمة تمهد الطريق لمزيد العمل العسكري المشترك بين جيشي البلدين. كما تقوم البحرية الهندية بإجراء تدريبات مشتركة واسعة النطاق مع نظيرتها الأمريكية في المحيط الهندي، ومن أهمها التدريبات السنوية في مالابار.
ومن خلال هذا التعاون، تمكنت الهند من اكتساب تقنيات ومعدات متطورة على غرار طائرات المراقبة البحرية P-8 Poseidon، وهي تستعد الآن للحصول على دعم تقني قد يشمل برنامجها المقبل لتصنيع حاملات طائرات. كما أنها حصلت على معارف وخبرات مهمة من خلال تدريباتها المشتركة مع البحرية الأمريكية، إلى جانب حصولها على معلومات أفضل حول تحركات البحرية الهندية في المنطقة، وذلك من خلال اتفاق تبادل التقارير الاستخباراتية مع واشنطن.
وأخيرا، تبحث الهند عن التصدي للأنشطة الصينية في المحيط الهندي من خلال تعزيز نفوذها في الفناء الخلفي للصين، وبشكل خاص في منطقة بحر الصين الجنوبي. ولا تعد التحركات الهندية في تلك المنطقة جديدة، وهو ما تظهره سياسة “النظر نحو الشرق”، التي تحولت إلى مشروع “التحرك نحو الشرق” في 2014. وقد واجهت الهند عقبات حقيقية عند سعيها لترجمة جهودها في جنوب شرق آسيا إلى مكاسب هامة، كما أن حضورها الفعلي في بحر الصين الجنوبي لا يزال بعيدا عن مظاهات الحضور الصيني في المحيط الهندي. ولكن رغم ذلك لا تزال هنالك بعض النقاط المضيئة بالنسبة لنيودلهي في المنطقة: حيث أنها حققت تقدما هاما في علاقاتها مع تايوان، وعززت الروابط مع فيتنام من خلال عدة مشاريع مثل التعاون العسكري.
وفي المستقبل تتوقع الهند أن تواصل الصين توغلاتها وأنشطتها البحرية في المحيط الهندي. أما هي التي تعاني من محدودية قدراتها البحرية بسبب نقص التمويل وكثرة المهام، فإنها سوف تبحث عن أسبقية استراتيجية من خلال التقرب من الجزر المجاورة لها والولايات المتحدة، مع تعزيز منشآتها العسكرية في الجزر التابعة لها والواقعة في نقاط حيوية. ورغم أن نيودلهي لا تستطيع أن تجاري الاستثمارات الصينية الضخمة في مجال القوة البحرية، فإن بإمكانها التعويل على كل الميزات التنافسية التي تمتلكها في هذا السباق على الهيمنة على المحيط الهندي.
المصدر: ستراتفور