“كنا نشكو على مدى عقود من النفوذ العربي في أوروبا، فيما يتعلّق بقطاعي النفط والغاز، تصدير الغاز إلى أوروبا سيقوّض هذا التأثير إلى حد ما، وسيكون قوة موازية للقوة العربية”، بهذه الكلمات وصف وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شطاينس، الاتفاق المبرم لتدشين أنبوب بحري لنقل الغاز من “إسرائيل” إلى أوروبا بتمويل إماراتي ودعم أوروبي.
الاتفاق الذي وصفته وسائل الإعلام العبرية بـ”التاريخي” كانت قد قدمته الحكومة الإسرائيلية للاتحاد الأوروبي في مؤتمر عقد في أبو ظبي التي بدورها وافقت عليه بصورة كاملة وخصصت له 100 مليون دولار لدعمه كمرحلة أولى من الاستثمار في هذا المشروع الذي استمر التفاوض لأجله قرابة العامين.
خطوة تجسد حجم ما وصلت إليه العلاقات بين الإمارات والكيان الصهيوني، غير أنها في الوقت ذاته تطعن القضية الفلسطينية بخنجر سام في الظهر، هذا بخلاف ما يمكن أن تحدثه من تعزيز الشرخ في منطقة الخليج بصفة خاصة وتقويض للنفوذ العربي أوروبيًا بصفة عامة.. فهل تصبح أبو ظبي بوابة تل أبيب لاختراق السوق الأوروبية حتى ولو كان ذلك على حساب المصالح العربية؟
الأطول في العالم تحت الماء
وفق الاتفاق فإن الأنبوب المقترح مده لنقل الغاز من “إسرائيل” إلى أوروبا، يعتبر الأطول في العالم تحت الماء، إذ من المقرر أن يمتد بطول ألفي كيلومتر، وبتكلفة تصل إلى عشرين مليار شيكل (نحو 7 مليارات دولار)، ويربط “إسرائيل” بأربع دول يزود من خلالها منطقتي البلقان ووسط أوروبا بالغاز المكتشف شرق المتوسط، بدءًا من حقل ليفياتان قبالة الشواطئ الإسرائيلية إلى أفرودايت قبالة قبرص وإلى كريت ثم إلى اليونان وإيطاليا.
وقد وقعت تل أبيب مع عدد من الدول الأوروبية، العام الماضي، على إعلان مشترك لتعزيز العمل الذي يهدف إلى مد أنبوب بحري لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، في مدة لا تتجاوز 8 سنوات، وقد شرع في التوقيع على هذا الإعلان بجانب الكيان الصهيوني كل من إيطاليا وقبرص والاتحاد الأوروبي.
وعلى هامش قمة ثلاثية عقدت في مايو/أيار الماضي، جمعت رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ونظيريه في اليونان وقبرص، تم الاتفاق على البدء في تنفيذ مشروع مد الأنبوب البحري بين الدول الثلاثة، وذلك لما يمثله من أهمية اقتصادية بالنسبة لدولة الاحتلال التي دفعت وبقوة لإبرام المشروع.
تقوية شوكة دولة الاحتلال، اقتصاديًا، سيعزز بلا شك قدراتها العسكرية والتسليحية، الأمر الذي يؤثر سلبًا على القضية الفلسطينية وقدراتها في مواجهة الآلة العسكرية الصهيونية المتقدمة
كانت موافقة الدول الأوروبية على هذا المشروع بجانب تمويله أحد أبرز العقبات التي حالت دون تنفيذه قبل عامين، غير أن الوضع الآن قد تغير بصورة كبيرة، فقد وافقت الدول بعد الضغوط التي مورست عليها من “إسرائيل” وحلفائها، هذا بخلاف حل أبو ظبي لمعضلة التمويل وتعهدها بضخ مئة مليون دولار كحزمة استثمارية أولية في المشروع.
يذكر أن المباحثات بين “إسرائيل” والدول الأوروبية بشأن هذا الأنبوب تركزت حول مقترحين أساسيين بداية الأمر، الأول بناء خط عبر تركيا يمر مقابل المياه اللبنانية والسورية، والثاني من دولة الاحتلال إلى قبرص اليونانية ومنها إلى أوروبا، وهو ما تم إعلانه أمس.
اتفاق إسرائيلي يوناني قبرصي على تدشين الأنبوب
تعزيز للشرخ العربي
تمكين الكيان الصهيوني من تصدير الغاز المستخرج من حقول عربية في الأساس لأوروبا بجانب أنه نقلة نوعية في الاقتصاد الإسرائيلي، فهو ضربة موجعة لسوق الطاقة العربية التي يمثل عائدات النفط والغاز فيها أكثر من 80% من المداخيل الحكومية في الدول الخليجية الستة على سبيل المثال.
ويكفي ما قاله وزير الطاقة الإسرائيلي تعقيبًا على هذا الاتفاق للوقوف على الدوافع الحقيقية وراء الإسراع لإمداد هذا الأنبوب، كون بلاده طالما كانت تشكو عبر عقود طويلة من النفوذ العربي في أوروبا، فيما يتعلّق بقطاعي النفط والغاز، ومن ثم فهو يرى أن تصدير الغاز إلى أوروبا سيقوّض هذا التأثير إلى حد ما، وستكون هناك قوة موازية للقوة العربية.
قطر على سبيل المثال تنتج 600 ألف برميل يوميًا من الغاز وهو ما يمثل أقل من 1% من الإنتاج العالمي، لكنها مزود رئيسي لإمدادات الغاز الطبيعي المسال، كما أنها تعد أول مصدر له في العالم وتؤمن قرابة ثلث الإمدادات العالمية إلى آسيا وأوروبا بشكل خاص، هذا بخلاف تأمينها لاحتياجات بعض الدول المجاورة على رأسها الإمارات رغم الأزمة الخليجية.
أبو ظبي لم تتحول إلى مرتع للمصالح الأمنية والاقتصادية الإسرائيلية فحسب، بل أصبحت قاطرة تحاول جذب العالم العربي إلى السير في ركاب المنظور الإسرائيلي للمنطقة وقضاياها
وفي حال الانتهاء من مد الأنبوب البحري الإسرائيلي الممول إماراتيًا فإن ذلك سينعكس بدوره على سوق الغاز العالمية التي من المتوقع أن تشهد صراعات مكثفة، سواء بين الدول المنتجة والمصدرة من جانب، أم المستوردة والأسواق القادرة على الاستيعاب من جانب آخر، هذا بخلاف الآثار المتوقعة على السوق العربية.
ومن زاوية أخرى، فإن تقوية شوكة دولة الاحتلال، اقتصاديًا، سيعزز بلا شك قدراتها العسكرية والتسليحية، الأمر الذي يؤثر سلبًا على القضية الفلسطينية وقدراتها في مواجهة الآلة العسكرية الصهيونية المتقدمة، هذا في الوقت الذي تغرد فيه أبو ظبي خارج السرب العربي فيما يتعلق بدعم الفلسطينيين خلال السنوات الأخيرة.
أبو ظبي – تل أبيب.. تطبيع مكتمل الأركان
قبل عام تقريبًا، وبينما كان الفلسطينيون يندبون حظهم في الذكرى المئوية لـ”وعد بلفور”، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مفاخرًا أمام رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي قائلاً إن دولًا عربية كثيرة أصبحت تعتبر “إسرائيل” حليفًا حيويًّا وليست عدوًا.
نتنياهو وإن لم يفصح عن كنية تلك الدول غير أن التقديرات وآراء المحللين تذهب في الاتجاه الأول صوب الإمارات، وهو ما ألمح إليه مدير برنامج سياسات الخليج في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، سايمون هندرسون بالقول: “إذا نحينا اغتيال المبحوح جانبًا، فإن أوثق العلاقات الإسرائيلية في منطقة الخليج هي مع دولة الإمارات العربية المتحدة”.
رغم تكرار جملة “عدم وجود علاقاتٍ دبلوماسية رسمية بين البلدين”، فإن السنوات الأخيرة شهدت هرولة من الجانبين لتوطيد العلاقات بصورة غير مسبوقة، وهو ما كشفته وثائق ويكيليكس والرسائل المسربة من بريد سفير الإمارات لدى الولايات المتحدة يوسف العتيبة، التي تسير في طريق الدفع بالتطبيع بين بلاده و”إسرائيل” لمراحل غير مسبوقة.
تلك الوثائق كشفت أن أبو ظبي لم تتحول إلى مرتع للمصالح الأمنية والاقتصادية الإسرائيلية فحسب، بل أصبحت قاطرة تحاول جذب العالم العربي إلى السير في ركاب المنظور الإسرائيلي للمنطقة وقضاياها، وفي صدارتها القضية الفلسطينية، ولعل عزف النشيد الوطني لدولة الاحتلال في أبو ظبي قبل أيام أكبر دليل على هذا الدور الجديد الذي تقوم به الإمارات.
التحرك الإسرائيلي لإعادة دراسة المشروع بعد تراجعها عنه قبل فترة بزعم التشكيك في جدواه الاقتصادية، وتكلفته عالية، جاء وفق ما نشرته الصحافة الإسرائيلية من منطلقات سياسية هدفها تحسين العلاقات مع عمان
وبعيدًا عن الأهداف السياسية التي يسعى أبناء زايد لتحقيقها عبر الهرولة نحو التطبيع مع تل أبيب، التي تتمحور في كسبها كحليف إقليمي قادر على ترسيخ أركان الحكم في دولة الإمارات في إطار السير بعيدًا عن قضبان قطار الربيع العربي، ذلك بمساعدة الولايات المتحدة كذلك، فإن هناك دوافع اقتصادية أخرى وراء هذا التوجه.
التكنولوجيا الإسرائيلية أثارت بدورها لعاب المسؤولين في أبو ظبي، الساعين لحماية أنفسهم عبر برامج التجسس والمراقبة المتقدمة، وهو ما أشار إليه وزير الطاقة الإسرائيلية يوفال شتاينيتز، خلال زيارته أبو ظبي في 2015 لافتتاح ممثلية دبلوماسية إسرائيلية هناك، حين قال: “لقد طوَّرت إسرائيل تكنولوجيا متطورة تسمح لنا باكتشاف المؤامرات الإرهابية مُسبقًا، إنَّ ذلك يُمكِّننا من مساعدة الحكومات العربية المعتدلة على حماية نفسه”.
يذكر أن الإمارات ليست الدولة الخليجية الوحيدة التي تتسابق للحصول على التكنولوجيا الإسرائيلية، فبالأمس نشرت صحيفة “هارتس” تحقيقًا كشفت فيه صفقة أمنية بين تل أبيب والرياض، تحصل بموجبها الأخيرة على برامج إلكترونية تجسسية من أجل استهداف معارضي النظام السعودي.
مثّل الجانب السعودي في الصفقة عبد الله المليحي، المقرب من رئيس المخابرات السعودية السابق تركي الفيصل، وناصر القحطاني الذي وصف نفسه بأنه نائب رئيس المخابرات السعودية الحاليّ، أما الجانب الإسرائيلي فقد مثله مندوبو شركة “إن إس أو” المتخصصة في تطوير أدوات تجسس على الهواتف الخليوية، حيث التقيا في فيينا يونيو/حزيران العام الماضي.
نجاح تل أبيب في إبرام اتفاق إنشاء الأنبوب البحري لتصدير الغاز لأوروبا دفعها إلى إسراع الخطى نحو تعزيز علاقاتها مع الدول العربية المجاورة، على رأسها الأردن التي توترت علاقتها بها منذ شهر تقريبًا، على خلفية عدم تجديد اتفاقية تأجير “إسرائيل” منطقتي الغمر والباقورة في غور الأردن لمدة 25 عاما أخرى، حيث أعلن الجانب الإسرائيلي نيته عودة دراسة المشاركة في مشروع “قناة البحرين” بين البحرين الأحمر والميت.
التحرك الإسرائيلي لإعادة دراسة المشروع بعد تراجعها عنه قبل فترة بزعم التشكيك في جدواه الاقتصادية وتكلفته عالية، جاء وفق ما نشرته الصحافة الإسرائيلية من منطلقات سياسية هدفها تحسين العلاقات مع عمان، مع الامتناع عن فتح أي نقاش متجدد مع الأردنيين عن مركبات الوضع القائم في الحرم القدسي الشريف.
ومن ثم يعود الفضل الأول للإمارات في دعم القاطرة الإسرائيلية نحو محطات جديدة تتجاوز بها محيطها الإقليمي إلى آفاق أوروبية بما يقوض النفوذ العربي هناك ويجعل دولة الاحتلال ندًا قويًا وخصمًا عنيدًا للعرب في المحافل الأوروبية، وهو ما يعكس درجة التفاهم والتنسيق الكبيرة بين تل أبيب وأبو ظبي خلال الفترة الأخيرة.